صفحات سوريةياسين الحاج صالح

لماذا وضد من يثور السوريون؟


ياسين الحاج صالح

ليس لأسباب مغايرة عما في مصر وتونس وغيرهما خرج السوريون ثائرين‏,‏ عوز الحرية والعدالة والكرامة‏,‏ لكن سوريا تختلف عن البلدين, وعن ليبيا واليمن, في أنها تحولت بالفعل إلي مملكة وراثية قبل أكثر من عقد علي الثورة, وفي أن أربعين عاما من الحكم الأسدي أورثت الطغمة الحاكمة ضربا من جنون السلطة, غير غريب عن أسر حاكمة كثيرة في التاريخ.

علي أن حافظ الأسد, وهو وزير دفاع حرب يونيو 1967, كان علي ارتياب كبير بشرعية حكمه لا يضاهيه إلا تعطشه لسلطة مطلقة دائمة, كانت هذه دوافعه لبناء صروح أمنية كثيرة ورهيبة وكلية الحصانة. فضلا عن إنشاء تشكيلات عسكرية حسنة التسليح ومولجة بحماية النظام, سرايا الدفاع بقيادة أخيه رفعت حتي عام 1985, ثم الحرس الجمهوري بقيادة من ذوي قرباه, أما الجيش النظامي فقد جري تحطيمه بالإذلال اليوم لجنوده وضباطه وباختراقه أمنيا وطائفيا وبالفساد الكاسح. وفي هذا فارق مهم بين مصر وسورية, في مصر لم يتعرض الجيش للتفكيك والتخريب الذي تعرض له الجيش السوري, لذلك تصرف بصورة مستقلة نسبيا حيال الثورة, وهو يتصرف اليوم كطرف سياسي متميز.

في سوريا الجيش مخترق ومستتبع ومهان, غير الصروح الأمنية, طور نظام حافظ الأسد صرحا أيديولوجيا لا يقل فاعلية. فإذا كانت وظيفة أجهزة الأمن منع تسمية الأشياء بأسمائها, فإن وظيفة الجهاز الأيديولوجي تسمية الأشياء بغير أسمائها, وهو ما ينصب حاجزين عاليين بين السوريين إدراك شروط حياتهم ومحاولة التأثير علي شروط حياتهم, تقول أيديولوجية النظام علي إن سورية قطر عربي صامد, تناضل قيادته التاريخية من أجل تحرير الأراضي العربية المحتلة, وترفض تقديم تنازلات للعدو الإسرائيلي خلافا للبلدان العربية الأخري, ولذلك فالبلد مستهدف بالمؤامرات الخارجية دوما, وبمشاركة منكرة من الدول العربية, تقول أيضا إن سوريا تنعم بوحدة وطنية راسخة أرساها القائد الخالد حافظ الأسد, ويصونها اليوم السيد الرئيس بشار الأسد, وإن كانت مستهدفة بدورها بالمؤامرات الخارجية, التي يشارك فيها بعض العملاء وضعاف النفوس في الداخل.

في واقع الأمر, لم تثمر المفاوضات بين النظام السوري وإسرائيل معاهدة سلام يصعب أن تكون عادلة في ظل اختلال موازين القوي بين سوريا والدولة العبرية. لكن ليس بسبب تعذر العدل يعترض النظام السوري علي التسوية, لكن لأن من شأن تسوية مع إسرائيل أن تحرمه من منبع للهيمنة الداخلية وأداة مهمة للسياسة الخارجية, فضلا عن أن ضمير نخبته القائدة غير مرتاح لصفتها التمثيلية, وبالتحديد لاحتمال أن تعتبر مسئولة بصفتها الطائفية عن تسوية غير مشرفة.

في حقيقتها, هذه الأيديولوجية الوطنية عالية النبرة مجرد وسيلة لتخوين المعارضين السياسيين, ولتمويه الطابع العصبوي لنواة النظام الصلبة وتجريم الاعتراض عليها. أما الأولوية العليا للنظام السوري فهي البقاء في الحكم إلي الأبد, علي ما كان فرض علي طلاب المدارس ومجندي الجيش الهتاف كل صباح في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته, لكن من وجهة نظر البقاء في الحكم, ليس مفيدا أن يصدق النظام أيديولوجيته ويواجه فعلا العدو الذي يحتل أرضا سوريا منذ 45 عاما. الواقع أنه منذ مايو 1974, كانت جبهة الجولان أهدأ الجبهات العربية مع إسرائيل, أهدأ حتي من الجبهتين المصرية والأردنية بعد أن جمعت البلدين معاهدتا سلام مع إسرائيل, من هذا الباب جري تحوير أيديولوجية المواجهة مع العدو لتتحول إلي أيديولوجية ممانعة, يفترض أنها معنية بإحباط مؤامرات الأعداء وخططهم العدوانية. لكن الوظيفة بقيت نفسها: تجريم الانشقاق في الداخل وأداة للنفوذ الإقليمي.

ووراء أيديولوجية الوحدة الوطنية واقع أشد قتامة بعد, يتمثل في أزمة وطنية عميقة, بحيث يتبادل السوريون الخوف من بعضهم وعدم الثقة ببعضهم: يخاف الكرد (بين 8 و10% من السكان) من العرب (85%), ولا يثق العرب بالكرد, ويخاف المسيحيون( دون10% اليوم) من المسلمين ويرتاب المسلمون بالمسيحيين, ويتبادل السنيون (نحو ثلثي السكان) والعلويون (10-12% من السوريين) الخوف وعدم الثقة, وهو ما يصح أيضا علي العلمانيين والإسلاميين.. وهذا كله مصنوع, ووقائع العبث بوحدة السوريين لم تكن تنتظر الثورة حتي تكون معلومة للمتابع المتجرد, ما أراده النظام دوما هو أن يخاف السوريون من بعضهم أكثر من خوفهم المشترك منه, بل بحيث يكون نظام الخوف العام هو الحل.

في ظل البنيان القائم علي الخوف والارتياب والكذب, عاش السوريون حياة مباحة, بلا حماية وبلا قانون من أي نوع, وبخاصة الأشد فقرا ومن لا تحميهم شبكات محسوبية مرتبطة بالنظام. لكن ماذا وراء هذا البنيان القمعي والأيديولوجي الرهيب؟ ببساطة إنه ظهور طبقة جديدة من الضواري الشرسة, متمتعة بالامتيازات وبالغة الثراء, خرجت من مراتب الحكم البعثي الأسدي ذات المنشأ البرجوازي الصغير. هذه البرجوازية الجديدة تدين بثروتها وامتيازاتها لاستئثارها بالحكم, ولتحكمها الحصري بوسائل القوة والمعني, وهي تستفيد من تعقيد الوضع الإقليمي لسورية ومن تعقيد التركيب الاجتماعي الثقافي للمجتمع السوري, وكذلك من ثمار قطع أية رؤوس سياسية مستقلة في سورية طوال أكثر من أربعين عاما من الحكم الأسدي.

لقد جاهد النظام لتحويل الثورة إلي مشكلة إقليمية لتوسيع دائرة المتضررين منها, وإلي مشكلة طائفية في الداخل لتضييق قاعدة المشاركين في الثورة, لكن السوريين أحبطوا هذه السياسة حين هبوا ضد النظام, وليس ضد بعضهم, رغم اجتهاد الطغمة الحاكمة في تحويل الصراع ضده إلي صراع داخل المجتمع, وشرعية الثورة السورية من نوع شرعية الثورات العربية الأخري, ولعلها تفوقها شرعية لكون سوريا أشبه ببلد محتل من طغمة تنظر باستعلاء لمحكوميها ولا تعترف له بحق أو حصانة, الشعار الذي يخطه شبيحة النظام أينما مروا هو: الأسد أو نحرق البلد! وهو شعار عدمي, يكثف بالفعل سياسة النظام الفعلية حيال الثورة.

فرض نظام الطاغية الوريث علي السوريين صراعا قاسيا, كلفهم حتي اليوم نحو 16 ألف شهيد, وعشرات ألوف المعتقلين الذين يتعرضون لتعذيب تمتزج فيه وحشية متطرفة مع كراهية مفرطة, وفوق مليون ونصف المليون من المهجرين الداخليين, وقريب من 200 ألف لاجئ في بلدان مجاورة, ويحتمل أن تكلفهم الحرب الأسدية الثانية ضعف أو أضعاف عدد الشهداء الذين وقعوا حتي اليوم, علي نحو ما سبق أن حصل في الحرب الأسدية الأولي قبل أكثر من ثلاثة عقود (ربما سقط فيها 40 ألفا), وخيارات السوريين تنحصر اليوم بين إسقاط النظام للحد من الخراب المادي والإنساني والفكري المهول الذي ألحق بالبلد, أو إسقاطه أيضا, لكن مع سقوط سوريا في وهدة خراب لا يحد, بقاء النظام القاتل ليس احتمالا واردا.

الأهرام

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى