صفحات سورية

مآلات الإنجازات الأخيرة للمعارضة السورية/ غياث بلال

 

 

في ٢٨ مارس/آذار ٢٠١٥ أعلنت عدة فصائل سورية تنسق مع بعضها تحت مسمى “جيش الفتح” تحرير مدينة إدلب بعد طرد قوات النظام السوري منها، حيث كان مركز مدينة إدلب يمثل جزيرة معزولة لقوات النظام ومحاصرة بكتائب ومناطق الثوار.

ثم تبع ذلك في ٢٥ أبريل/نيسان الماضي إعلان تلك الفصائل تحرير مدينة جسر الشغور القريبة من مدينة إدلب والواقعة على الخط الفاصل بين المناطق الساحلية حيث تتمركز الكتلة البشرية الرئيسية الداعمة للنظام، وبين المناطق الداخلية لمحافظة إدلب التي غدت مركز الكتائب والمنظمات التي تحارب النظام السوري وتحارب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الوقت نفسه.

في هذه الأثناء، استمرت المعارك ضد نظام الأسد في سهل الغاب في الوسط السوري، كما أن الجبهة الجنوبية في محافظة درعا لم تكن أقل سخونة من الجبهة الشمالية، حيث أحبطت فصائل الثوار المتواجدة في محافظة درعا في العشرين من أبريل/نيسان الماضي هجوما واسعا لقوات النظام وحلفائه من حزب الله والحرس الثوري الإيراني، حيث كان هدف الهجوم استعادة السيطرة على بعض المدن ذات الأهمية الإستراتيجية في الجنوب السوري، إلا أنهم تكبدوا خسائر فادحة ولم يحققوا غايتهم.

رافقت ذلك أيضا عدة حالات وفاة مفاجئة للعديد من أركان النظام، مثل رستم غزالة وعلي مملوك، حيث تسود قناعة في أوساط السوريين أن حالات الوفاة هذه ليست إلا عمليات تصفية ناجمة عن صراعات دموية داخل أجنحة النظام نفسه، الأمر الذي أعطى انطباعا بأن النظام السوري يتآكل من الداخل، ولعل موعد انهياره الذاتي قد اقترب.

هذه الأحداث في مجملها دفعت الكثيرين للتفاؤل باقتراب موعد سقوط دمشق في يد الثوار، كما أنها أطلقت العنان لموجة كبيرة من التحليلات عن المآلات التي ستنتهي إليها هذه التطورات. فهل فعلا ستؤدي هذه المعارك إلى احتفال الثوار بالنصر في دمشق في القريب العاجل؟

لا شك أن التطورات الأخيرة في التوازنات السورية تعد مهمة جدا من منظور خارطة المنطقة المستقبلية، خاصة بعد جمود نسبي استمر عامين، وسبقه تمدد لقوات النظام وحلفائه. إلا أن هذه الإنجازات يمكن ردها لعوامل عديدة، أهمها:

– تراكم الخبرات وتراكم الإنجاز لجانب الفصائل المسلحة للثورة السورية، إلى جانب تفاقم الاستنزاف المادي والبشري للنظام وحلفائه على مدار السنوات الماضية.

– ظرف دولي وإقليمي سانح، تسلمت فيه الدول الإقليمية زمام المبادرة، حيث تسعى لإعادة ترسيم خطوط الجبهات بما يخلق إمكانية الوصول إلى تفاهمات سياسية لاحقة.

فالمتتبع لخريطة المعارك في الشمال السوري يجد أنها تعمل على طرد جيوب النظام في مناطق تخضع لسيطرة الفصائل بشكل كبير، ثم تتوقف هذه المعارك على حدود جبال اللاذقية حيث الكتلة البشرية لمؤيدي النظام، فأي اتفاق أو حل سياسي قادم سيتطلب فصل القوات المتحاربة قبل ذلك.

وهذا لن يكون ممكنا في جبهات متداخلة كما هو الحال في الشمال والوسط السوري، الأمر الذي دفع الدول الإقليمية الداعمة لعدالة قضية الثورة في سوريا لأخذ زمام المبادرة من جديد، بهدف التعاون للحد من النفوذ الإيراني في سوريا من جهة، وتحريك الملف السياسي لإنهاء معاناة الشعب السوري من جهة أخرى.

وقد أدركت هذه الأطراف أن غياب التنسيق في ما بينها -ولو بالحد الأدنى- أضر واقع المعارضة السورية، وأعطى إيران هامشا كبيرا من المرونة للتمدد في سوريا. وبالتالي فإن غياب التنسيق والتعاون بين تركيا والسعودية وقطر سيؤدي على المدى البعيد إلى فقدانها قدرتها على التأثير على ما يجري داخل سوريا بشكل شبه كامل لصالح إيران، وعندها ستكون تكاليف التدخل للحد من النفوذ الإيراني أضعاف التكاليف المطلوبة للتدخل اليوم.

إلا أن هذه المبادرة لا زالت تواجه محددات أميركية تعترض على وصول قوات المعارضة للمناطق المختلطة طائفيا خشية وقوع مجازر طائفية، وتعترض على أي هجوم موسع على دمشق قد يؤدي إلى إسقاط النظام عسكريا. فالرؤية الأميركية تبحث عن مقاربات تضمن انتقال السلطة من الأسد إلى شخص آخر أو إلى هيئة انتقالية بما يحول دون سيطرة الكتائب الإسلامية على إدارة الدولة.

والضامن لهذه الرؤية هو الحفاظ على ما تبقى من قوى لدى النظام يمكن إعادة هيكلتها، ولذلك تسعى الإدارة الأميركية إلى تجميد الوضع الحالي عامين مقبلين حتى يتم إنضاج حل من هذا النوع، وكذلك حتى يتم ترحيل الأزمة السورية للإدارة الأميركية المقبلة بعد خروج أوباما من البيت الأبيض. فإدارة أوباما مهتمة بدخول التاريخ على أنها الإدارة التي أعادت العلاقات الدبلوماسية مع إيران وكوبا، وسحبت جنودها من مناطق النزاعات، ولم تفتعل أي حروب جديدة.

من اللافت أيضا في معارك إدلب وجسر الشغور هو غياب العنصر الشيعي بكافة مكوناته بين قتلى وأسرى جبهة النظام الأسدي (مقاتلون شيعة من أفغانستان وباكستان، والحرس الثوري، وحزب الله، وكتائب شيعية عراقية، إلخ)، في حين كان هذا المكون هو العنصر الغالب في معارك حلب في ما مضى، ولا زال المكون الرئيسي في معارك الجبهة الجنوبية في ريف دمشق ودرعا.

الأمر الذي يشير إلى وجود تفاهم ضمني -أو على الأقل إدراك متبادل- لحدود مناطق النفوذ والسيطرة للدول الإقليمية داخل الأراضي السورية. فلم يعد من المجدي لإيران استثمار المزيد من الجهود والتكاليف للحفاظ على مناطق جغرافية تقع على جانب الحدود التركية، في حين أن المعنى الإستراتيجي لمناطق نفوذها ينحصر في الساحل ودمشق والخط الواصل بينهما عبر المناطق الحدودية مع لبنان. مما يدفع للاعتقاد بأن مسار الأحداث سيؤدي للوصول إلى خريطة جديدة لتوزع القوى في سوريا في الفترة المقبلة، والتي ستكون أكثر وضوحا، ويمكن استشرافها كما يلي:

– منطقة الثوار في الشمال الغربي لسوريا، وتمتد بين الساحل السوري وحتى مناطق تنظيم الدولة، حيث ستخضع هذه المناطق لسيطرة الكتائب السورية المسلحة.

– المناطق الخاضعة لتنظيم الدولة في الشمال الشرقي، حيث ستكون مهمة قوات التحالف خلال السنوات القادمة هي منع هذا التنظيم من التمدد بعد أن أدركوا صعوبة القضاء عليه من دون وجود استقرار نسبي للأوضاع السياسية في سوريا والعراق.

– في حين سيكون الساحل السوري ومدينة حمص والعاصمة دمشق هي مناطق نفوذ النظام السوري وحلفائه، وسيكون سعي المعارضة لدخولها عسكريا محل خلاف واسع مع العديد من القوى العالمية.

– وفي الجنوب ما بين دمشق وحدود الأردن ستكون منطقة خاضعة لسيطرة الثوار تحت الإشراف السعودي والأردني.

وجاءت تلك التطورات في ظل مساع لعقد اجتماعات تشاورية لبحث أفق الحلول السياسية الممكنة، كما يجري أيضا التحضير لمؤتمر في السعودية للمعارضة السورية يهدف إلى إعادة الاعتبار إلى جسمها السياسي العامل في الخارج وإعادة تفعيله، خاصة بعد أن تعرض للتهميش خلال السنتين الماضيتين بسبب عدم قدرته على التأثير أو المشاركة في صناعة الحدث، وكذلك فقدانه القدرة على تقديم قيمة مضافة تستحق الذكر في دعم قضية الثورة السورية على المسرح الدولي.

فالخلافات الداخلية للمعارضة السورية، وكذلك الخلافات الإقليمية للدول الداعمة لها، أرهقت الأجسام المترهلة أصلا والتي أنتجتها هذه المعارضة. وتفيد بعض المصادر المطلعة بأن الدول الداعمة للمعارضة السورية تسعى اليوم إلى تثقيل الائتلاف من خلال ضم الفصائل العسكرية الكبرى له: جيش الإسلام، وأحرار الشام، وصقور الشام، حيث تؤكد تلك المصادر تلقي قادة هذه الفصائل عرضا بهذا الخصوص.

وفي حال تحقق هذا الأمر، فستكون من شأنه زيادة إمكانيات المراهنة على المعارضة السورية التي أثبتت فعالية عالية في مكافحة تنظيم داعش في بداية عام ٢٠١٤، كما أثبتت قدرتها على دحر النظام في حال توفر الغطاء الإقليمي الداعم لها.

ومن حيث النتيجة، فلا يبدو أن وصول المعارضة المسلحة إلى دمشق سيكون قريبا أو ممكنا في الأفق المنظور، نتيجة للواقع الميداني أو بسبب معارضة العديد من الدول الكبرى هذه الفكرة لتعارضها مع تصورهم عن شكل الحل الممكن للأزمة السورية. وفي حال حدث ذلك فسيكون نتيجة تطورات غير متوقعة أدت إلى انهيار متسارع داخل بنى النظام السوري أو الدول والقوى الداعمة له.

كما أن الاتفاق النووي الإيراني الأميركي إن اكتمل سيؤمن تدفقات ضخمة من السيولة للخزينة الإيرانية، الأمر الذي سيؤدي إلى إطالة أمد الصراع عدة سنوات قادمة. رغم ذلك فإنه من المؤمل أن تتوصل الدبلوماسية خلال السنة القادمة لاتفاقات قد لا تنهي الحرب، إلا أنها قد تؤمن شيئا من الهدوء والاستقرار للمناطق الواقعة تحت سيطرة الفصائل الثورية المسلحة؛ ما من شأنه أن يعيد عجلة الحياة إلى الدوران في هذه المناطق.

يبقى من المهم الإشارة إلى أن إرادات الدول الكبرى مهما عظمت لا ترقى لأن تكون قدرا يتوجب على الآخرين انتظار وقوعه، فالتاريخ يعلمنا أن إرادة الشعوب إذا صدقها العمل الدؤوب المستند إلى تخطيط سليم تبقى هي الصانع الرئيسي للحدث، مما يرتب مسؤوليات عظيمة على المتصدرين لقيادة الشأنين السياسي والعسكري للمعارضة السورية، فالتاريخ لا يرحم والمستقبل لا ينتظر.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى