صفحات الثقافة

أخبار لم تعد تصلنا من سوريا


سحر مندور

وصلت الصديقة عبر سوريا إلى لبنان، وأخبرت عن خطورة البقاء في لبنان. تقول إن الناشطين السوريين المدنيين يقدرون على التخفّي هناك، أكثر مما يتمكنون منه هنا. فالبلاغ يشقّ طريقه إلى من يهمّه الأمر، بسرعةٍ أكبر هنا.

حتى في ظل الوضع السوري الراهن، لبنان يعتبر أقلّ أمناً من سوريا.

“كرة الطاولة” الدمشقية

تكمل الصديقة لتخبر عن البشر. فتروي عن طابات لعبة “كرة الطاولة”، جمعها الناشطون بالآلاف، وكتبوا عليها كلمات تخبر عن الثورة والحرية والعدالة، وألقوها من أعلى الجبل باتجاه الشام، تكنس الحواري وصولاً إلى الحميدية، في حراكٍ مدني يخلو من فراغ العيون التي أطفأها الموت الانتقامي.

لم تعد تصلنا من سوريا أخبارٌ كهذه.

لم تعد تصلنا من سوريا أخبارٌ كهذه، حتى ظننا أن سوريا لا تعيش أخباراً كهذه.

لم يعد يصلنا إلا صور المجازر، وصور الناس يتبرأون من المجازر، وصور الناس يدينون آخرين بالمجازر، وغابةٌ من المعلومات الدامية والتصاريح الفارغة.

في أشهر الثورة الأولى، كنا نعرف أكثر، رغم الستار الحديدي الذي يثقل كاهل ناسها. كنا نسمع عن مكبّرات الصوت تصدح فجأة في جامعة سورية بأغاني ابراهيم القاشوش، وكنا نسمع أغاني القاشوش. كنا نسمع عن مدينة استيقظت لتجد لون نهرها أحمر كدم الشهداء، ومياه نوافيرها حمراء كأسباب الحرية، وكنا نمسك الصورة بين راحتينا. كنا نراقب بأعين ذاهلة سيدات يخفين وجوههن ويغنين نشيدهن الوطني بهدوء وحزن وإصرار في منازلهن، واكتشفنا أن اسمها “تظاهرة منزلية”.

أين اختفوا جميعاً؟ هل استبدل شعبٌ بشعبٍ؟ هل استبدلت قصةٌ بقصة؟

وليس في الرغبة برؤية كرات الطاولة تكنس المدينة، ميلٌ إلى التنزّه المترف خارج رقعة الموت، أو إنكارٌ لوقوعه.. وإنما فيها، أولاً، واقعٌ يستأهل أن يُنقل، ثم مشهدٌ يستأهل أن يُحفظ، فمجتمعٌ يستأهل أن يُنتصر له.

لم ينم المجتمع السوري حالماً في ليلةٍ، ليستيقظ في التالية مدمن سلاحٍ، تتبادل مذاهبه الكره الدامي، وتقدّس آلهةً غاضبة، لا تعتق إلا رقاب عبيدها. هو مجتمعٌ أنتج أدباً وشعراً، وحفظهما. أتقن اللغة، وتواضع في إشهار ما يتقن. نظرت السينما إليه، فمدّها بأفلام نادرة النوعية، تحدّت القلّة والقمع لتخبر عن الإنسان في زمن القلّة والقمع.

هو مجتمعٌ، يتم تحييد ناسه اليوم، كأنهم “خارج المعادلة”، عند نقاش حاله. كأنهم متفرجون قسراً على ما لا علاقة لهم به. متفرجون على معارك بين الدول. لا يُستدعون إلى الحديث إلا للاستعانة بهم كضحية ذات مصداقية: انظر إلى حجم معاناتهم من نظام “البعث”.. انظر إلى حجم معاناتهم من فوضى السلاح الخليجي.

لبنان يناقش

يقسم نقاش الثورة السورية المجتمع اللبناني إلى نصفين، على أسسٍ “وجودية”، كالعادة، لا تحتمل مكوّنات النقاش الأولية. فالأسس الوجودية تعني أن وجودي لا يكون إلا بإلغاء وجودك، وأفكاري تلغي أفكارك، وأخباري تلغي أخبارك. أدخل الطرفان النقاش في دوامة أمنية، لم يعد للناس فيها مطرح.. قلّة تكترث لكرات الطاولة إن غسلت شوارع دمشق اليوم، علماً أنهم اكترثوا جداً لتظاهرةٍ منزلية أمس.

هناك شيء ما تغيّر، فقد طاف الدم وحان وقت الغضب.

ففي أشهر الثورة الأولى، أتت الصور الجميلة لتفرح قلوب “الأشقاء اللبنانيين” لمرة، ولتبقي مؤيدي النظام منهم على تأهبهم، يعظون عن مؤامرة، ويبقون الوجوه على توجسّها. حينها، نزل مناصرو الثورة بخفرٍ إلى الشوارع ليضيئوا شمعة، أو يرفعوا علماً، فضُربوا. غضبوا. نزلوا مرةً أخرى، فضربوا. ازداد غضبهم، وامتزج بالكبت. ومرّت الأيام اللبنانية بطيئة وشبه صامتة حتى حلّ اليوم الذي شهد إعلان قادة المجتمع اللبناني عن تحزّباتهم الجازمة الصريحة، ومدّوها بالنبرة والحجج اللازمة، وقد لاءمت الانقسام الطائفي القائم بصمتٍ، فأفلت المتناقشون من قيودهم، وجدوا مداخلهم إلى الإحتراب، كذّبوا بعضهم واتهموا بعضهم بالإجرام، وباتت الصورة على ما هي عليه اليوم.

اليوم، لم تعد الدكتاتورية محور النقاش، وإنما الأغراض منها. لم يعد الدم هو الحدّ الفاصل، وإنما الجزم باتهام العدو، عدوّي، بإراقته. لم يعد المخرج الآمن من العنف المدمّر هو محور البحث، وإنما “حظوظ” اندلاع الحرب الشاملة. لم تعد كرة الطاولة تروي أصل القصة، وإنما الأخبار العاجلة التي يُسمح بدخولها إلى بلدٍ تتصارع فيه “الرسالة التاريخية” بوجهين متناقضين، في ثنائيةٍ لا تنفك تولد من رمادها.

بداية الطريق

ذاك المؤيد للنظام، الذي تبنى رأياً متوازناً خلال أيام الثورة الأولى، أعاد رأيه إلى خط الدفاع الغريزي: النظام السوري لم يكن يوماً نظاماً ديكتاتورياً وإنما إصلاحي، ولولا أن الشعب يحبه فعلاً لكان سقط.. فليسقط المتآمرون ضده!

وبالطريقة ذاتها، عاد مؤيد الثورة السورية إلى خط دفاعه، رامياً مياه النار في وجه كل من سأل عن سلاحٍ خليجي وجماعات طائفية.

النقد المستمر الذي اعتمدته الثورة المصرية، حماها. فكان المصري المبادر الأول إلى فضح ناسه، وهجاء عنصرية أو طائفية أو ديماغوجية أو تجاوزات شابت حركته. الواقع السوري طبعاً مختلف، والأشهر الدامية باتت كثيرة.. لكن المبادرة إلى نقد الذات هي السبيل الوحيد إلى حمايتها. لربما المواطنون السوريون يؤدّون هذا الواجب، داخل الستار الحديدي، وبالتاكيد كتّاب سوريون كثر يؤدونه. لكن المواطنين اللبنانيين لا يفعلون ذلك، ولا اعتادوا يوماً فعل ذلك، ولا اشتهوا يوماً فعل ذلك.

السواد الأعظم من الشعب، يحب طائر فينيقه. يحتاج إلى ثنائيةٍ قاتلة، ليقف عند رأس حربتها. أما الانتصار لثورةٍ ضد الدكتاتورية والتنبّه من الحرب الطائفية في آن، فهما موقف ملتبس بالنسبة إليه. الانتصار لمفاهيم لا تتناقض كالمقاومة والحرية في آن، هو لبّ المؤامرة. أن تطالب بسقوط كافة الأنظمة الديكتاتورية اللاعبة على الساحة السورية، هو انفصامٌ عن الواقع، وتهميش للذات فيه.. كأن انتصارك للنظام سيبقيه، أو انتصارك للثورة سيحميها.. كأن موقفك سيُترجم واقعاً، ما يتطلب المساومة فيه!

عندما يبطل المواطن صوته في الانتخابات المصرية، لا يكون بذلك يرجّح كفّة مرشح العسكر أو مرشح “الاخوان المسلمين”، وإنما ينتصر لرأيه المتحرّر حديثاً، ولحرية مستجدة على هذا الرأي. وعندما ينتصر المرء لثورة شعبٍ يطالب بالحرية في سوريا، ويقف ضد رؤوس الأموال الخليجية والعنف الطائفي في آن، فهو إنما ينتصر لحقه بعيشٍ كريم، في بلده كما للناس أجمعين.

عندما يبادر الإنسان إلى تحديد المجتمع الذي يطمح للعيش فيه، فهو سيبدأ بتوجيه أولى الضربات لمجتمع الممكن الذي يجاهد للتأقلم معه وإقناع الذات بالاحتفاء به.

أن تعرف الحياة الكريمة الخالية من المساومات وتطالب بها، هي بداية الطريق الذي يقود إليها.

أن تحرّر رأيك من المساومات المخصصة لتجّار المواقف من السياسيين، هي بداية الطريق إلى المواطنة.

أما تخدير جزء من الدماغ، كأنك بذلك تريحه أو تخبئه ليوم أفضل، فهو يشكّل استمرارية طريق واحد وحيد متاح أمام قومٍ مصيرهم سيكون دائماً تراجيدياً، وقيامتهم ستكون دائماً مؤجلة.. كأسطورةٍ لا مخرج منها، حتى بالموت.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى