صفحات الثقافة

الثقافة السورية… بين أوزار الماضي ورهانات المستقبل/ حسن النيفي

 

 

هل بمقدور الثقافة أن تنهض على حوامل معرفية هزيلة ومبعثرة؟ أم هي بحاجة إلى طاقات إبداعية خلاقة وكيانات مؤسساتية نظيفة ومتماسكة؟

وكيف يمكن للثقافة أن تحوز شرعيتها كفعل مقاوم ووسيلة للتغيير- في الوقت الذي يُنظر إليها على أنها نشاط نافلٌ أو ترف لا لزوم له في الوقت الحاضر؟ يبدو أن وعينا كسوريين بات يترنح بين التغييب والاضطهاد الذي مورس عليه في ظل نظام الأسد من جهة، وبين جموح وهياج أمراء الحرب وتجار السياسة الذين يرون في التنوير التوعوي عدوهم اللدود.

لا أخفي أبداً انحيازي لأولوية الثقافة في بناء الوعي ، وانحيازي كذلك لأحقية ريادة الفكر لأي مشروع نهضوي.

لقد اغتصب نظام الأسد كل المؤسسات الثقافية طيلة ما يقارب نصف قرن، وجعل مهمتها الوحيدة إعادة إنتاج السلطة، وشرعنة ممارساتها وسلوكها، بل باتت معظم الكيانات الثقافية (وزارة الثقافة – اتحادات الكتاب ونقابات الفنانين) أقرب ما تكون إلى دوائر سلطوية لا تعنى بإنتاج الثقافة بقدر ما تعنى بتوفير الشرعية اللازمة لسلوك نظام الحكم.

ولئن كان نظام الأسد يسعى على الدوام إلى تدجين الوعي الاجتماعي- شأنه شأن أي نظام استبدادي- وجعله متماهياً في خطاب الولاء الذي يحتاجه كشرط محايث للبقاء في السلطة، فأين دور المثقفين الذين يجدون في الثقافة الميدان الأرحب لتأسيس وعي اجتماعي مقاوم للظلم والاستبداد؟ وهل الثقافة من وجهة نظر هؤلاء يمكن أن تكون مشروعاً مؤسِّسا لوعي نهضوي جماهيري من شأنه أن يسهم في عملية التغيير في سورية؟

لا أعتقد أن انحسار فاعلية الثقافة في سوريا يمكن اختزاله بممارسات نظام الحكم أو بمؤثرات الاستبداد فحسب، بل الأمر يطال طبيعة فهم الوظيفة الاجتماعية للثقافة من جهة، وكذلك أزمة الوعي المعرفي لدى المثقفين أنفسهم من جهة أخرى.

عنفوان الايديولوجيا:

لعلّ المتتبع للنتاج المعرفي في سوريا منذ السبعينيات سيجد بلا شك أن الناتج المعرفي كان مسكونا بهاجس إيديولوجي يجسّد دور الموجه والمحفّز في آن معاً، وغالبا ما كان هذا الهاجس يمارس دور الضاغط والكابح للنزوع المعرفي لدى الكاتب أو الباحث، ما يجعل الجهد الثقافي مُستَهلكاً في قضايا عقدية أو إيمانية لا تلامس في أغلب الأحيان سوى قناعات صاحبها، وقلما تكون مستمدّة من همّ اجتماعي منبثق من الواقع. وانطلاقاً من هذا الفهم لوظيفة الثقافة كثرت الدراسات والأنشطة المعرفية التي تتمحور حول قضايا الهوية والمصير، والأصالة والمعاصرة، والحداثة والتقليد والتقدم والتخلف، حيث يكون الانهماك في القضايا النظرية الكبرى التي تلامس القناعات والعقائد الإيمانية (الإسلامية واليسارية) على السواء، وقلّما تلامس إشكاليات ثقافية مجتمعية لها علاقة بالسيرورة الحياتية، ولنا أن نجد في ما انتجه بعض المثقفين السوريين علامات واضحة على ذلك، «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم، «نقض أوهام الجدلية المادية» لمحمد سعيد رمضان البوطي، «من التراث إلى الثورة» للطيب تيزيني، «الثابت والمتحول» لأدونيس ……

من المؤكد أن هذا التعاطي مع الثقافة لم يكن يثير لدى السلطة الحاكمة أي امتعاض، طالما أنه لا يقترب من تخوم المحذورات، وكذلك لأنه لا يجعل من الثقافة ميداناً للبحث في التحديات التي تداهم المجتمع، بل تسعى إلى بؤسه وإفقاره وتجريده من القدرة على المطالبة بأدنى حقوقه.

لقد انشغل المثقفون في قضايا الأصالة والمعاصرة كثيرا، سواء في ميدان الدراسات الفلسفية، أو في ميدان الدراسات النقدية والأدبية، لقد انهمك المثقفون القوميون في البحث بمشروعية الأمة العربية في قيام دولتها الموحدة، وبالغوا كثيرا في مداعبة الأحلام الوردية من خلال خطاب رومانسي استعلائي، يهوّم في الفراغ خشية من رؤية الواقع، كما انهمك الشيوعيون في الحديث عن مزايا نظام اشتراكي مفترض، سيحمل في أحشائه حلّا سحريا لكل قضايا الناس، بينما برع بعض الليبراليين في الاستنساخ النظري لتجارب الغرب، من خلال التنكر لكل ولأي شكل من أشكال انتماء المرء للجغرافيا والهوية. أما الإسلاميون فلم يكونوا أقل عنفواناً من سواهم، إذ مازال معظمهم مصرّاً حتى الوقت الحاضر على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، وكان من نتيجة هذا الإصرار ظهور العديد من الجماعات المتشدّدة والصادمة للمجتمع، ثقافياً وإنسانياً. ولكن أيّاً من هؤلاء، القوميين والشيوعيين والليبراليين والإسلاميين، لم ينهمك في الحديث عن قضايا الاستبداد والقمع وقضايا المعتقلين، وعلاقة المواطن بالدولة، وكذلك قضايا الشباب والعاطلين عن العمل، ودور السلطة تغييب الوعي المجتمعي، وقضايا الحرية وعدم شرعية قانون الطوارئ، وضرورة استقلالية القضاء، والتغوّل الأمني في مؤسسات الدولة، كل هذه القضايا كان يتم التعالي عليها بذريعة أن هذه الإشكاليات لا ترتقي لأن تكون مادة ثقافية يمكن الاشتغال عليها، وهذا يبدي مدى الفهم المتعالي للثقافة من جهة، وكذلك إفراغ الثقافة من مضمونها القيمي من جهة أخرى.

ولكن من المؤكد أيضاً أن قلة قليلة من المثقفين السوريين أظهرت فهماً مغايراً لفاعلية الثقافة، فاستطاعت أن تعيد الثقافة إلى ميدانها الأرضي الأرحب، ولعلّ برهان غليون واحد من هذه القلة القليلة، إذ صدر له كتابان في أواخر السبعينيات وهما «اغتيال العقل» و «مجتمع النخبة» حاول برهان غليون في هذين الكتابين أن يبيّن خطل الخطاب الإيديولوجي النخبوي وعدم قدرته على الدخول في السياق الاجتماعي لواقع الناس، كما حاول أن يبيّن الوزر الذي تتحمله النخب الثقافية، خاصة (الحداثوية) في تأبيدها للاستبداد والتخلف.

كما يمكن الوقوف بجدّية عند ياسين الحاج صالح، الذي تتالت دراساته منذ عام 2000 ، والتي تحاول في معظمها أن تطهّر الثقافة من لوثاتها العقدية ومنطقها الاستعلائي، لتعيدها إلى مجالها المعرفي الإنساني، من خلال استنباط المادة الثقافية من سياقاتها الاجتماعية الحياتية، وليس من ماورائياتها المتعالية. وبهذا يكون ياسين الحاج صالح أبرز من تناول في كتاباته ما هو مسكوت عنه ومُغيّب في الشأن الثقافي السوري.

إن جنوح معظم المثقفين السوريين نحو التعالي على السيرورة الحياتية للمواطن قبل الثورة هو تخاذل إنساني فاضح، وإساءة كبيرة لمفهوم الثقافة، واستمرارهم بهذا الجنوح بعد انطلاقة الثورة السورية يصبح جريمة لا تقل بشاعة عن براميل بشار الأسد.

لقد أثبتت الكشوفات الثقافية للثورة السورية خواء الخطاب الثقافي للنخب السورية – قبل الثورة وبعدها – من أي رغبة جادّة في محاصرة وتفكيك الإشكاليات الناجمة عن مرحلة الاستبداد، وما نراه في السنوات الثلاث الأخيرة من كتابات في نقد الاستبداد والطغيان، لا يوازيها – في المقابل – مشروع ثقافي واضح الملامح والأهداف والآليات، وكذلك نقد الطائفية والمذهبية لم يتأطر في مشروع ممنهج يهدف إلى البحث في المظاهر السلبية للطغيان السياسي في سوريا.

ولئن كانت الثورة السورية زاخرة بالمدد الثقافي أكثر من حيازتها على الإرهاصات السياسية الناجحة، فإن ثمة تجاهل وتهميش لفاعلية الثقافة ودورها في تشكيل وعي اجتماعي قادر على استيعاب التناقضات الاجتماعية، وقادر أيضاً على إنتاج رؤى وتصورات إبداعية للتعاطي مع المفرزات الاجتماعية.

إن استفحال العنف والتطرف الديني والمذهبي، وكذلك الارتكاس إلى الحواضن الاجتماعية البدائية، هي كلها ظواهر معيقة للتغيير المجتمعي الديمقراطي، وهي كذلك بمجملها تعبير عن غياب حقيقي لمشروع أو مشاريع ثقافية تعمل على تأسيس وعي يستوعب قيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان ومفهوم المواطنة والديمقراطية.

كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى