باسل العوداتصفحات سورية

الأكراد كمادة طيّعة/ باسل العودات

 

 

غريب (ويصفه الكثير من السوريين بالوضيع) ما تقوم به بعض الأحزاب والقوى الكردية السورية على الصعيد السياسي والعسكري في سورية، والأغرب هو انسياق شريحة واسعة من الأكراد السوريين مع طروحات هذه التيارات والقوى الكردية ورهانهم عليها رغم يقينهم بأن جزءاً كبيراً منها مجرد أحلام أكبر من الجميع ومن الصعوبة تحقيقها.

منذ الأيام الأولى لتشكيل وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي يُعتبر الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، بدأ المزاج العام لأكراد سورية بالتغيّر، وبدأت رحلة انفصالهم عن (سوريتهم) إن جاز هذا التعبير، وظهرت لديهم رغبات انفصالية ليس عن الثورة فقط بل عن سورية كلها، رغبات لا علاقة لها بما ثار من أجله السوريون.

بعد إطلاق هذا الحزب لفكرة الإدارة الذاتية الكردية في منطقة الجزيرة السورية، وتحويلها لواقع على الأرض بعصا ميليشياته، وتشكيله ما يشبه البرلمان والحكومة لهذه المنطقة، تعمّقت أفكار سلبية من قبيل الحكم الذاتي والفيدرالية والانفصال في أعماق الكثير من أكراد هذا البلد، إن لم يكن غالبيتهم، رسّخها في ما بعد تحقيق الميليشيات العسكرية الكردية انتصارات على الأرض بدعم غير مُعلن من النظام.

مارس الحزب منذ ذلك الوقت دكتاتورية واضحة في مناطق سيطرته، وبما أن الأقربين أولى بالمعروف، قام بطرد قادة الأحزاب الكردية الأخرى منها، واعتقل بعضهم بل وصفّى البعض الآخر، وأحدث أجهزة أمنية تكون آذانه وعيونه تترقب من تسول له نفسه أن ينتقد استراتيجيته، ثم قام بتجريف قرى عربية وآشورية وأخلاها من سكانها، وكرّد أسماء المدن والبلدات لطمس هويتها العربية، واستولى على نفط المنطقة وباعه لتمويل مشروعه، ورفض عيش العربي معه وطلب كفيلاً، واستولى على أملاك الغائبين، وحرّض إعلامياً ضد منتقديه، واستثمر الفرصة لتحصين مواقعه على الخريطة.

راهن الحزب كثيراً على تحالفه وتقاطع مصالحه مع النظام وإيران وروسيا، وتعاون عسكرياً ونسّق معهم، إلى أن أتته الفرصة على طبق من ذهب حين تقاطعت مصالحه مع مصالح التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، فتعاون معه عسكرياً وساعده ذلك بدوره على السيطرة على مناطق أكبر من شمال سورية، وأفقد هذا التحوّل النوعي للتحالفات تركيز الكثير من الأكراد الذين اعتقدوا أن قوة التحالف مسخّرة لحلمهم الانفصالي الذي ـ برأيهم ـ بات قاب قوسين أو أدنى.

طعّم هذا الحزب الكردي الأقوى بين أقرانه قواته العسكرية ومؤسساته السياسية بعرب سوريين استهوتهم اللعبة ليُبعد تهمة النزوع القومي عن منهجه وغاياته، وضغط بالقوة تارة وبالمال تارة أخرى ليضم مقاتلين غير أكراد لقواته، وجيّش الأكراد إعلامياً ونفسياً وتعبوياً وحربياً، ولم يُفوّت فرصة لتوريطهم بمشروعه أكثر إلا واستعملها، تماماً كما ورّط النظام شريحة من العلويين في مشروعه الحربي الطائفي، وبات الكثير من الأكراد أداة طيّعة بيده، أداة جاهزة للمشاركة بتفكيك سورية إذا أمرهم بذلك.

تجاوبت شريحة كبيرة من الأكراد مع مخططات واستراتيجية ووعود وأحلام هذا الحزب، وتحولت سريعاً من قوة بشرية خصبة وحيوية وراسخة ذات هوية سورية إلى قوة بشرية سهلة التشكيل، يُحرّكها حلم الدولة الكردية، كتلة معبأة جاهزة للانتقام والثأر من السوريين العرب وكأنهم هم سبب الاضطهاد الذي عاشوه في المنطقة خلال عقود.

غريب أن يعتقد قادة هذا الحزب أنهم قادرون على فرض أجندتهم القومية على السوريين، سواء أكانت أجندة انفصالية أم فيدرالية أم أجندة حكم ذاتي، وغريب تجاوب السواد الأعظم من الأكراد معهم، متناسين قوانين وقواعد الجغرافيا السياسية العسكرية لهذه المنطقة، ومتناسين أنه لولا النظام في مرحلة مُبكّرة والولايات المتحدة في مرحلة لاحقة لابتلعهم تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، ولما استطاعوا التقدّم شبراً في مناطق سيطرة المعارضة السورية التي رفضوا التعاون معها لقتال هذا التنظيم، وفاتهم أن 40% من قواتهم هم من السوريين العرب الذين سرعان ما سينقلبون عليهم مع أول خطوة انفصالية، واستهزأوا بقوة تركيا وحساباتها وعادوها، ولم يستمعوا لنصائح أكراد العراق وسخروا منهم، ومسخوا تحذيرات المعارضة السورية وهددوها، واعتقدوا أن حلفهم المؤقت مع الدول العظمى ثابت لا يتغير إلى الأبد، والأهم أنهم تناسوا أن النظام السوري بقوته وجيشه وأجهزته الأمنية وميليشياته وبدعم إيران وروسيا له، لم يستطع أن يفرض على السوريين ما لا يريدونه، وأنهم ليسوا أقوى أو أبطش منه ليفرضوا على السوريين أجندتهم.

لا يُنكر السوريون على الأكراد كرديتهم أو أنهم ليسوا عرباً، ويُقرّون بذلك من دون ضغوط، ولا يرونها نقيصة أو ميّزة، بل توصيف وانتماء هامشي يأتي بعد الانتماء للمواطنة ولدولة القانون التي ينشدون، كما لا يُنكر السوريون الظلم الذي تعرض له الأكراد خلال القرن العشرين، ولا حرمان النظام لهم من حق المواطنة والهوية، وحرمانهم من حرية الرأي والتعبير وتشكيل الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسة، لكن يؤكدون في نفس الوقت أن مظالم النظام عمّت على الجميع ونال كل سوري نصيبه من الاضطهاد والقمع والقتل والحرمان كلٌ بنسبته ووفق حظه، فالشعب لم يكن يوماً مسؤولاً عن مظالم الأكراد، وقام بالثورة ليس للعرب فقط بل لتحقيق دولة القانون والمواطنة التي تضمن للجميع حقوقهم ومستقبلهم.

يُخطئ كل كردي يعتقد بأن التقسيم القومي أو الفيدرالي المستند لعرق واحد أو بقعة جغرافية أمر قابل للتحقق في سورية، فلا السوريون يرضون، وهذا يشمل المعارضة والنظام، ولا الوضع الإقليمي يسمح، ولا التنوع السكاني المختلط يفسح المجال، ولا القوميات والطوائف الأخرى ستُجيز، ويعتقد كثيرون أن استمرار الأكراد بخطابهم التحريضي ضد السوريين العرب لن يُولّد سوى المزيد من التعبئة لدى الطرف الآخر، وقد يؤدي لحرب ثانية أقسى من الأولى بين النظام والشعب، فالأولى هي حرب ضد الديكتاتورية والطائفية والفساد تنتهي بزوال النظام، أما الثانية فحرب وجود لن تنتهي إلا بتدمير أحد الطرفين للطرف الآخر.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى