صفحات الثقافة

ياسمين دمشقي


    عقل العويط

نداء لا بدّ منه

إفتحوا البيوتَ القلوب. ليس أقلّ.

هذا ليس دعاءً متوسّلاً. بل أمرٌ وجوديّ. حضاريّ. ثقافيّ. وشعريّ. فإيّاكم، ثم إيّاكم، أن تفتحوا الأقلّ!

وافتحوا الدموعَ لتكون الأعين أسرّةً لهم.

وافتحوا الكتبَ لهم، وأعني: للسوريين. للشعب السوري جميعه، بعربه وكرده، وبملايينه التي بمليونين تفوق العشرين، وربما بأكثر. لا تسكِّروا شيئاً أو مكاناً في وجوهٍ كهذه، يأكلها هلع الأرق وعدم الخنوع.

أما الحدائق. والشرفات. والمدارس. والظلال. وضفاف الأنهر. وضوء القمر. والجروح. واللحم الحيّ. والخبز والملح… فيجب أن تكون من حواضر البيت اللبناني. ومن شروط المائدة. وإن في منتصف الليل التاريخي هذا.

بيتكم الضيّق يتّسع. فإيّاكم أن لا توسِّعوه أكثر.

إقرَعوا الأجراس. وأذِّنوا. ليكون الفجرُ البضُّ لهم بعد ليلٍ كثير.

هم يجيئون مسروقين من لذّة نومهم. فهيِّئوا المخدّات والفراش الوثير لهم. ولترتعش لأجسادهم المتعبة شراشف معطّرة بلمسات الأيدي بماء الورد وبشمس الياسمين.

أَعِدّوا عدّة التاريخ. إفتحوا أبواب الجغرافيا. زيّنوا البيوتَ القلوب بزغردات الصبايا. وضحكات الأطفال. وافتحوا سماء لبنان لتكون سقفاً، ولا أعلى، يقيهم مهانات البعث.

لا تنقزوا من مجيئهم القسري هذا. فهو لا يذكّر بإحالات بعثية، أمنية ومخابراتية، سابقة. لا. ليس مجيئاً خبيثاً مبطَّناً مفخَّخاً. ولن يكون عبئاً. ولا وجوداً. ولا احتلالاً.

مجيئهم، خذوه كاجتراح. كأعجوبة. كأعجوبة أيقونة. فاحفظوه واحفظوها. خبِّئوهما، وتباركوا. ليكونا، لكم ولهم على السواء، باباً الى المستقبل والكرامات المحرَّرة.

ولا تتاجروا بمجيئهم الصعب هذا. فهم ليسوا تجّاراً ولا سماسرة. إنهم هاشلون من ليل الاستبداد الأسدي فحسب. فأشعِروهم بحسن الوفادة. وبالكرامة. وبتواضع الجيرة العارفة الأبيّة. وبلذّة الخفر الكريم. وبالصمت المعطي.

ولا تهينوا جروحهم. فليس هناك شيءٌ أغلى من جروحهم. وليسوا يريدون بيتاً يحلّ محلّ بيوتٍ هُجِّروا منها. لا. ليس من شيء يضمّد كراماتهم سوى أمل الخروج من الكابوس، وحفاوة قيمٍ ومشاعر كهذه.

مكِّنوهم من الإقامة المشرِّفة، قبل أن يعودوا الى بلدهم الخصيب، مع الفجر الذي لن يطول أوان ناقوسه، ولا صياح الديك.

ولا تفتحوا سجّلاً بالتمنين العنصري. حذار. ولا تتزاحموا على قبلةٍ كافرة، كفعْلة منتهزين لبنانيين من تلامذة يهوذا وتجّار الهيكل. وترفّعوا. ولا تَعْلَمَنّ يمناكم بما فعلت اليسرى. ولا تتبرّموا. ولا تتأفّفوا. بل قبِّلوا جروحهم، وبَلْسِموها، كما يليق بفروسيات أهل الجبال من عندنا، وكما يشرّف نزلاء السهول ونداءات البحر، أن يفعلوا مطلقاً بشعوب الأرض المتعبة. فكيف بشعبٍ كهذا الشعب، لا يزال ينفّذ، ليلَ نهار، وبلا هوادة، محكوميته “الأبدية” من فنون التعذيب البعثي الجحيمي!

فلمثل هؤلاء الذين، مرغَمين أمضوا، ولا يزالون، عهوداً في كنف الاستبداد المُذِلّ، لمثل هؤلاء يُفرَش العقلُ التاريخي ليكون مسنداً لرؤوسهم المجهدة.

من هذا الطريق فقط، تعقلون قلوبهم والعقول، وتُشعِرونهم رمزياً بمعنى لبنان الفكرة والجغرافيا والكيان والدولة والجمهورية السيّدة. تعقلونهم وتُشعِرونهم بضرورته المطلقة. بكرامة الندّ للندّ. بمثل هذا فقط، تؤسسون لإعلان الغد.

هم يستحقون إعلاناً شعبياً ورسمياً، كيانياً ودولتياً، كإعلان “بيروت – دمشق”، “دمشق – بيروت” (“النهار”، 12/5/2006). ليس أقلّ.

أخطاء التاريخ والجغرافيا، كما أخطاء سوء التصرف، لا تُغتفَر. فحذار.

فهاكم الفرصةَ الذهبَ أيها اللبنانيون: الساهرون المتمرّدون الثوّار الحالمون المنتظرون اللحظاتِ الجارحة الحاسمة، عند مفترقات الأزمنة والتواريخ، أقول لهم إن انتظاراتهم ستثمر هنا، والآن. فهذه هي اللحظات التاريخية التي يتحوّل فيها التاريخ، سلماً أو بما يترافق والثورات من ألمٍ ودم. اللحظات هذه، نادراً ما تتكرّر. فخذوها بالحبق. بالأيدي. بالرموش. بالأسنان. بالشغاف. وبما ملكت أيمانكم. لكن لا تجعلوها تذهب هباءً. حبِّلوا هذه اللحظات. ثم عمِّدوها بميرون الشعبين السيّدين، فتكون علاقاتهما مبنيةً على الحجر الصلد، الذي لا يفتّ عضده، لا بعثٌ، لا طمعٌ، ولا استبداد.

السوريون يطرقون أبواب لبنان، حاملين في خلجاتهم نسائم الياسمين فحسب. فلا تردّوهم خائبين. ولا تتمرجلوا عليهم. ولا تَتَعَنْصروا حيالهم. ولا تدفِّعوهم ثمن الجروح مرّتين.

هم يكتبون اليوم، تاريخهم الجديد، بأجساد خروجهم. فكونوا معهم، لا نأياً، ولا من رؤوس الشفاه، ولا منقسمين، بل بما توجبه محن التاريخ والجغرافيا.

فليعرف لبنان. يجب أن يعرف لبنان، وهذا أمر وجوديّ، ماذا يعني أن يفرّ الشعب السوري من بلده، هارعاً إليه، في منتصف الليل التاريخي هذا!

فليعرف لبنان أن التاريخ يقلب صفحةً ليفتح أخرى. وعليه أن يشهد لهذه الصفحة.

فلا تتوجسّ يا لبنان، ولا أنتم أيها اللبنانيون. فهؤلاء القادمون إليكم إنما هم محض غيوم معطّرة. بل هم شجر ياسمين. ياسمينٌ دمشقيٌّ فحسب.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى