رزان زيتونةصفحات مميزة

مجد عامر: أخشى قتل من ثرت لأجله


رزان زيتونة

بعد تدخل وجهاء المدينة ومشايخها . انتهاء الاعتصام في مدينة حمص

الحديث عن حمص ومع ناشط حمصي ليس بالأمر اليسير. لا يدرك المرء كيف ومتى ينتقل مابين الضحك والبكاء وبالعكس. وعن ماذا يمكن أن يسأل حول مدينة قدمت أكثر من ألف ومئتي شهيد منذ بداية الثورة، ومازال السوريون ينتظرون بشغف الحلقة اليومية من مسلسل المظاهرات الحمصية التي تبث مباشرة عبر بعض الفضائيات. مظاهرات أصبحت أشبه بكرنفالات حرية تعقد غالباً على بعد أمتار قليلة من وقع الرصاص والقصف، الذي تنام المدينة عليه وتصحو.

يتجمع المتظاهرون في فسحة “آمنة” بين البيوت والزواريب الضيقة، ويقطعون الطرقات المؤدية إليها بحاويات القمامة وسواها، ويضعون مراقبين ليقوموا بتحذير المتظاهرين بالصفير عند أية محاولة إقتحام، كما يقول مجد عامر، أحد النشطاء الميدانيين منذ بداية الثورة.

وعمليات الإقتحام والقصف بالآليات الثقيلة ليست الرعب كله في هذه المدينة التي باتت تسمى بعاصمة الثورة السورية، بل إن هناك ما هو أكثر رعباً من صوت الرصاص وحتى المدافع، ذلك هو “صوت القناصة”. أسأله ماذا يشبه هذا الصوت، يقول: فقط إعلان عن إستشهاد أكيد.

مجد كان من أوائل من حضروا المظاهرات بشكل “عائلي” مع زوجته وأطفاله، وهو يطلق على غرف منزله أسماء أحياء في حمص حسب درجة “الأمان”، فغرفة أبويه هي الخالدية، وغرفة جدته التي لا تكف عن تأنيبه والصراخ عليه! هي بابا عمرو، والصالون هو باب السباع لأنه دائماً مكتظ بالعائلة والضيوف.

وبعد كل مظاهرة مسائية، هناك سهرة قصيرة مع الأصدقاء، يتبادلون فيها الضحك والبكاء والنقاش والتحضير لليوم التالي. ومع كل إتصال هناك نكتة و”نهفة” ثورية حمصية، جنباً إلى جنب مع أنباء التنكيل والعذابات اليومية.

الأمور في حمص تتجه يومياً إلى مزيد من المأساوية، مع ارتفاع حدة العنف الممارس من قبل النظام ضد المدينة المنتفضة وأهلها. مجد حول سيارته إلى مايشبه سيارة إسعاف لنقل الجرحى. يقول أنه كان يتعين عليه تغيير فرش السيارة لدى كل عملية نقل للمصابين، لأن الحواجز الأمنية تفتش عن أية أذية أو نقطة دم. في الفترة الأخيرة لم يعد يستطع حتى القيام بهذه المهمة بسبب تقطيع أوصال المدينة بالحواجز الأمنية والعسكرية.

لعل الأمور بدأت تأخذ منحى أكثر دموية وعنفاً في حمص مع اليوم المشهود لإعتصام الساعة الذي إنتهى ساعات قليلة بعد بدايته بمجزرة مروعة.

يقول مجد “تم التجهيز لتشييع شهداء اليوم السابق وإتجهت كل الجنازات نحو مقبرة الشهداء في باب تدمر، وكان أكبر عدد رأيته من الناس في حياتي في مكان واحد. بعد الدفن تجمعت الحشود في ساحة باب تدمر وبدأت الهتافات. فرح طاغ وشعور بالفخر اعتراني، لم تعد الأرض تسعني. وخلال نصف ساعة تقريباً بدأت أسمع بعض الأشخاص يندهون: إلى هبل إلى هبل. وكانوا يحاولون توجيه الجموع نحو تمثال سيء الذكر حافظ الموجود في المنطقة الأخطر من المدينة وهو ما كان سيعني مجزرة فورية. وأعتقد أنهم أشخاص مندسين بيننا.

هنا بدأنا بالصراخ ومن كافة الجهات من أجل توجيه الجموع إلى شارع الحميدية باتجاه السوق، تارة بالصراخ وتارة بالترجي وتارة بالبكاء. وحتى تلك اللحظة لم يكن يخطر ببالنا موضوع الإعتصام ولا الوصول إلى الساعة.

وعندما تيقنت أن الحشود تتوجه إلى السوق بالفعل جلست على الأرض وبكيت. كنت حافي القدمين وممزق الثياب. تمالكت انفعالي واتجهنا مع الجموع والهتافات تشق عنان السماء. مشينا في شارع الحميدية والأهالي يرشون عليها الماء من الشرفات والنساء يطلقن الزغاريد.

تجمعت الناس عند الساعة وبدأت الأخبار تصل للأحياء الأخرى حول الإعتصام وبدأ الناس بالتوجه إلى هناك”.

جلس مجد في تلك اللحظات في مقهى التوليدو الذي تلقيت منه عزيمة على فنجان قهوة فيه بعد الثور! كانت تلك اللحظات التي لن تتكرر في حياته كما وصف، وهو ما ذكرني بما قاله المناضل محمد نجاتي طيارة على منبر الإعتصام في ذلك اليوم، حين شكر شباب الثورة قائلاً لهم أنه للمرة الأولى خلال ستين عاماً من حياته يشعر بالحرية، “الآن لم يعد مهماً أن أحيا أو أموت”.

ما بدأ كأجمل النهارات انتهى كأكثرها مأساوية وألماً. خلال ساعات كان الآلاف قد نصبوا الخيام وأعدوا العدة في الساحة استعداداً لاعتصام حتى اسقاط النظام، النظام الذي كانت له حسابات أخرى.

“كانت حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف وكنت عائداً إلى منزلي لأغتسل وأغير ملابسي قبل أن أعود للاعتصام، وعند اجتيازي للمتحف رأيتهم في العتمة. ينسلون بملابسهم المقيتة ويحملون الرشاشات في مدخل البناء المطل على الساعة.

لم يكن هناك غيري في الشارع وعتمة تتناسب مع قسوة القتلة. وقفت قليلاً وأطرقت مخرجاً علبة السجائر من جيبي، أشعلت سيجارة ناظراً إليهم بطرف عيني لأجدهم بالعشرات ينسلون إلى المبنى بالعتاد الكامل.

تابعت سيري وأنا أرتجف، لا يمكنني العودة، عندها سيلاحظون أنني رأيتهم. تجاوزت المكان وقلبي يكاد يتوقف من احتمال إصابتي بطلقة في رأسي. التففت في زقاق ووقفت متخشباً من رعبي. لمدة عشر دقائق وأنا أحاول الاتصال بأي أحد من شباب الاعتصام لتحذيرهم، وأخيراً أجابني أحدهم ووعدني بإخلاء الساحة فوراً. بعد دقائق أعدت الاتصال به، فأخبرني أن أحد رجال الدين المتواجدين في الاعتصام أكد له أن هؤلاء العناصر قدموا لحماية المتظاهرين!

أسقط في يدي وعدت إلى منزلي. اغتسلت واستلقيت محاولًا تصديق الرواية، لم أقتنع. اتصلت من جديد وأعادوا الحديث نفسه. غفوت من تعبي، ولم أستيقظ إلا على أنين الرصاص…

لم أجد نفسي إلا في الشارع راكضاً باتجاه السيارة، صوت أزيز الرصاص يملأ الدنيا موتاً. أسمع من ينادي باسمي، يندهون علي أن لا أذهب. كنت وقتها قد أدرت محرك السيارة والتففت إلى طريق حماه. الرصاص على امتداد الطريق، هلع مميت بين الناس، الصراخ يصم القلب. وأمضي بسرعة كبيرة باتجاه شارع الدبلان الممتد إلى الساعة من الجهة الأخرى. أولاد وشباب ونساء وكهول وشيوخ يركضون هرباً في كل الاتجاهات. أقف يصعدون، أتجه بالعكس إلى نقطة أمان ينزلون وأعود. وهكذا مرات لا أعرف عددها. أصيبت السيارة بالرصاص… كنت أبكي بل أنوح. لم أعد أرى نقطة الوصول وطريق الرجوع. لا أعرف عدد المرات ولا أعرف عدد من صعدوا. أحسست أنني سأنهار، لم أع إلا وأنا في شارع منزلي وأشخاص ينزلونني من السيارة وأنا أرتجف وأنتفض وأصرخ ببكاء لا يشبه البكاء.

استمر الرصاص حتى الفجر، انتابتني أكثر من حالة بكاء هستيري، شعرت بقهر لا يوصف، هذه لحظة فاصلة، بأن هذا القاتل يجب قتله.

 في الصباح أشرقت الشمس على مجد جديد قاس حتى على نفسه”.

كانت حصيلة الاقتحام في ذلك اليوم، عشرات القتلى والجرحى ومئات المعتقلين والمفقودين، والكثير من القهر والرعب. لكن حمص منذ ذلك التاريخ تسابق الوقت الذي تراه يمر بطيئاً خاصة على الصعيد السياسي.

“حتى اللحظة أحس المجلس الوطني كيان غير مستقر. ربما لأننا على الأرض نحس أن الوقت يمر ببطء على صعيد الأداء السياسي. طوال شهور كنت كلما رجعت إلى المنزل أغسل يدي وثيابي من دماء رفاقي وأجلس أمام الشاشة للبحث عن خبر حول اتفاق نهائي وكيان مخلص يمثل الثورة السورية”.

وفي مقابل “القسوة” التي تتجلى عن الألم اليومي، وانعدام الأفق السياسي حتى اللحظة، أسأل مجد حول احتمالات تأييده لعسكرة الثورة وانتقاله من التظاهر إلى حمل السلاح.

“أخاف التفكير بهذا الموضوع وأخاف أن يخطر على بالي، لا يمكن أن تتخيلي الصراع بين رغبتي بسورية مدنية لا يفكر فيها أي فرد إلا بوطنه، ورغبتي بإنهاء هذا القتل اليومي بأي شكل ولو كان عن طريق عسكرة الثورة. أكذب إن قلت أنني لم أفكر بحمل السلاح بعد مقتل رفاقي. لكن ما يوقفني دائما هو يقيني بأن من سأقتله هو من ثرت من أجله. هو المواطن السوري الحلم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى