سمير العيطةصفحات سورية

مجلس عسكري سوري مشترك؟/ سمير العيطة

 

 

بداية لا بدّ من إعلاء الصوت لإيقاف هذه الحرب المجنونة على حلب وفيها وللترحّم على شهدائها.

لكن حتّى في خضمّ القصف والقتال والمآسي، لا بدّ لجميع السوريين من التفكير مليّاً بما يمكن أن يخلق آليّة لحفظ الأمن خلال أيّ هدنة تتحوّل إلى آليّة سلام، ولو تدريجيّاً. ويتّفق الكثيرون أنّ لا حلّ عسكريّاً للصراع في سوريا، إلاّ أنّه لا بدّ لأيّ حلّ سياسيّ أن تكون له قوّة عسكريّة وأمنيّة تفرضه على الأرض، في ظلّ الفوضى القائمة في كلٍّ من مناطق النفوذ الحاليّة. والطرح الوحيد على الساحة السوريّة في هذا الصدد هو المجلس العسكريّ «المشترك». لكن كيف؟

هذا موضوعٌ في منتهى الحساسيّة وليس سهلاً. لم يكن الأمر كذلك في بداية الانتفاضة، فما بالنا اليوم بعد الحدّ الذي وصل إليه تشرذم سوريا والقوى المتصارعة على أرضه.

اختارت السلطة منذ الخطاب الأوّل لرئيسها ما سُمّي حينها الحلّ الأمني العسكريّ ضد تظاهرات كان جوهرها سلميّاً. وزجّت بالجيش لقمع التظاهرات واحتلال القرى والمدن، على عكس ما حصل في مصر. وينسى الكثيرون اليوم أنّ هذا الجيش كثيراً ما وقف حينها ضدّ استفزازات أجهزة الأمن، في حوران أو في حمص، وأنّ توريطه في خضمّ الأحداث كان متعمّداً من طرف السلطة وأجهزة الأمن، وأيضاً من طرف قوى عملت على اغتيالات نوعيّة ضدّه بدفعٍ من قوى خارجيّة. كما دفع الجيش السوريّ ثمناً كبيراً لضبّاطٍ وجنودٍ تمّ إعدامهم لأنّهم رفضوا إطلاق النار على المتظاهرين.

ظهرت منذ البداية أصوات تتأمّل أن يضع الجيش السوريّ كمؤسّسة حدّاً لتوريطه في القمع، وأن يعمل على إخضاع الأجهزة الأمنيّة لقيادته، ويعالج الاستفزازات من أيّ جهة كانت، كمثال بيان «الوطن في خطر» الذي صدر في أيار 2011. كانت الحصيلة حينها فقط (!) مقتل ألف مدنيّ و150 من الجيش وأجهزة الأمن والشرطة، وحوالى ألف معتقل. ثمّ جاء تشكيل «المجلس الوطني» الذي سعى أن يكون الممثّل الشرعيّ والوحيد للشعب السوريّ، والذي وضع تصوّراً للمرحلة الانتقاليّة يتولّى فيها مع المؤسّسة العسكريّة تسيير المرحلة الانتقالية، واعداً هذه المؤسسة بالحفاظ عليها. واللافت أنّ هذا التصوّر أتى بعد بضعة أشهرٍ من تشكيل «الجيش الحرّ» من قبل بعض الضباط المنشقيّن.

في المرحلة التالية توالت الانشقاقات من الجيش وهجرة الضبّاط إلى الخارج. إلاّ أنّ الدول «الداعمة للثورة» لم تثق بهؤلاء الضباّط ووضعتهم في ثكنات معزولة في الأردن وتركيا، بل أعادت تسليم بعضهم للسلطة، بحيث لم يُمكن لـ «الجيش الحر»ّ سوى أن يكون عنواناً تغلب على تنظيماته الصفّة المحليّة. تعدّدت مرجعيّاته الإقليميّة والدوليّة مع تعدّد المموّلين والداعمين والخلافات بينهم. ولم تستفِد المعارضة حقّاً من انشقاقات كان لها دويٌّ كبير على السلطة، ومثال العميد مناف طلاس بليغٌ بهذا الصدد.

واللافت أنّ بيان «جنيف 1» لم يُشِر في حزيران 2012 إلى «الجيش الحرّ» برغم الزخم الإعلاميّ والشعبيّ الذي كان يتمتّع به حينه، واكتفى بالإشارة إلى ضرورة الحفاظ عليه وأن يَعمَل تحت «قيادة عليا تكون محلّ ثقة الجمهور». أمّا وثائق مؤتمر توحيد المعارضة في القاهرة في تموز التالي فقد رأت تشكيل «مجلس أمن قوميّ» يضمّ قيادات من الجيش النظاميّ و «الجيش الحرّ» والمقاومة المسلّحة وشخصيّات مدنيّة، في أوّل إشارةٍ لمجلسٍ عسكريّ مشترك.

لكنّ الفكرة غابت بعد ذلك سريعاً مع انطلاق «معركة تحرير حلب» ومع اغتيال قادة خليّة الأزمة الذين كانوا قد دخلوا تفاوضاً غير مباشر مع بعض أطياف المعارضة. وبقي الغياب لفترة طويلة ضَعُفَ خلالها الجيش وجلبت السلطة ميليشيات طائفيّة خارجيّة إلى صفّها وجيّشت ميليشيات «دفاع وطنيّ». وفي المقابل، تلاشى عنوان «الجيش الحر»ّ مع صعود «داعش» و «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» وكثير من التنظيمات العسكريّة الأخرى، بحيث غلب الطابع الطائفيّ على الصراع أكثر من أن يكون بين سلطة وشعب واحد.

لم تعُد فكرة «المجلس الوطني العسكري الانتقالي» إلاّ مع خريطة الطريق للحلّ السياسيّ التفاوضي لمؤتمر منصّة القاهرة للمعارضة في حزيران 2015. وتمّ حصر عضويّة هذا المجلس بـ «القوى العسكريّة المؤمنة بالحلّ السياسيّ والانتقال الديموقراطي»، مع بقاء الإشارة إلى الجيش السوريّ فقط ضمنيّة. ثمّ أتت وثيقة «الهيئة العليا للمفاوضات» التي شكلت في الرياض في كانون الأول التالي لتشرِطَ ضرورة الحفاظ على مؤسسات الجيش والأمن، المنصوص عليها في بيان فيينا، بـ «ضرورة إعادة هيكلة وتشكيل مؤسسات الدولة العسكريّة والأمنيّة»، ومن دون أيّ اشتراط على الفصائل المسلّحة المعارضة التي أضحى بعضٌ منها جزءاً من هذه الهيئة ذاتها، لتعود وثيقة التفاوض التي قدّمتها الهيئة في لندن مؤخّراً لتتحدّث عن «مجلس عسكري مشترك» تنشئه «هيئة الحكم الانتقالي» وتُعيّن أعضاءه «مناصفة من المعارضة والنظام».

لكن ما مدى واقعيّة جميع هذه التصوّرات؟ بل كيف لها أن تؤثّر على التطوّرات القائمة لتغيير المسارات الكارثيّة على الأرض؟

أنقذ التدخّل الروسيّ الجيش السوريّ من الانهيار، لكن لا يمكن لهذا التدخّل أن يكون ذا معنى إلاّ إذا عاد هذا الجيش قوّة متماسكة مركزيّة، تستطيع إثبات ذاتها أمام الميليشيات المتفلّتة في المناطق التي يسيطر عليها. على الطرف الآخر، انتقلت «الهيئة العليا» للتفاوض من مرحلة التغاضي عن ريادة «النصرة» والتنظيمات الأخرى المرتبطة بـ «القاعدة» في الحرب إلى تحيّة تغيير أسمائها ومطالبتها «بالانخراط في المشروع الوطنيّ» والتخلّي عن العمليات الخارجيّة. واصطدم مشروع «قوّات سوريا الديموقراطية» بالخلاف حول هويّة المشروع الوطنيّ المشترك، حتّى في مناطق سيطرتها.

لا تخفى كلّ هذه الأمور على الدول التي تتصارع بالوكالة في سوريا، وخاصّة روسيا والولايات المتحدة خلال تفاوضهما الأخير حول وقف إطلاق النار. فهي تعرف جيّداً أنّه إذا لم تُخلق الإمكانيّة لريادة عسكريّة حقيقيّة، لا مجال لحلّ سياسيّ، ولا حتّى لتقسيمٍ مستقرّ بل لفوضى أكثر شيوعاً، لن تستفيد منها سوى «داعش» التي ستتركّز أكثر في سوريا.

والمعضلة أكبر في ما آلت إليه ذهنيّات السوريين. إذ لا معنى لمجلس عسكريّ مشترك يوماً ما إذا بقي الجيش السوريّ هو «كتائب الأسد» في خطاب المعارضة والدول التي تدعمها، وإذا بقي كلّ مَن يقوم بالدفاع عن أرضه، كما في داريّا، إرهابيّاً في منظور الأطراف المقابلة، وقلب الذهنيّات يبدأ بالتوقّف عن القصف الهمجيّ للمدنيين، وباحترام الطرف المقاتل المنتصر لذلك المهزوم، لأنّه في النهاية أخوه في الوطن.

وفي الخلاصة، يستحقّ موضوع «المجلس العسكريّ المشترك» تركيزاً أكبر من قبل الدول المتصارعة على الأرض السوريّة، إذا رغبت حقّاً في إيقاف الفوضى والقضاء على «داعش»، أو على الأقلّ إذا كانت واعية أنّ الاستمرار في النهج الدامي القائم سيؤدّي إلى جعل سوريا أفغانستان جديدة على المدى الطويل.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى