صفحات الحوار

إديوي بلينيل: الصحافة ليست سلعة مثل باقي السلع

 

 

ديمة الشكر

إيديوي بلينيل، صحفي فرنسي من طراز خاص، فبعد ربع قرن في هيئة تحرير إحدى أعرق الصحف الفرنسية : اللوموند، اختار الانعطاف نحو النشر الإلكتروني، لكن بعيدًا من المفاضلة الممجوجة بين الورقي والإلكتروني، إذ إن خياراته الواضحة في إنشاء موقع “ميديا بارت” تكشف مفهومًا حداثيًا ومختلفًا للصحافة والإعلام في ظل ثورة الاتصالات والعولمة.

* لديك تجربة طويلة في الصحافة الورقية، فقد كنت لأزيد من 25 عامًا على رأس صحيفة “اللوموند” العريقة. إلا أنك هجرتها، وأنشأت عام 2008، موقعًا إلكترونيًا “ميديا بارت” Mediapart. ومن خلاله اتضح انحيازك لثلاثة أمور : النشر الإلكتروني، وعدم وجود إعلانات مطلقًا، والصحافة الاستقصائية. أريد ان أعرف المفهوم المحرك لهذه الخيارات.

تعيش الصحافة حاليًا، زمن ثورة تكنولوجية وتجارية وتحريرية، حيث الرقمي (الإلكتروني) محركها الأساس. وبمواجهة ذلك، علينا الدفاع عن قيمة مهنتنا كصحافيين. فاليوم، وبفضل الإنترنت، يستطيع كل الناس الوصول إلى كل نوع من أنواع الإعلام، سواء أكان إعلامًا جيدًا أم سيئًا، جديًا وذا صدقية أم ناقصًا غير مكتمل، إعلام يخلط الرأي بالوقائع والإشاعات. ضمن هذا المفهوم، يجب على مهنة الصحافة ألا تكون سجينة الماضي، بل عليها الانغماس في هذه الحداثة أو المعاصرة، وفي الوقت نفسه، عليها الدفاع عن الأفضل في تقاليد مهنتنا، مهنة الصحافة، لتكون في خدمة الحقيقة الواقعة، الحقيقة التي تزعج، أو تشوّش على ما تبثّه السلطة وتقوله.

* هذا صحيح فقد قلت مرة، إن الصحافة وُجدت من أجل الإزعاج.

نعم لأن هذا هو دورنا الأساس، أن نقدّم إعلامًا حرًا مستقلًا، حاثا على التفكير، دافعًا إلى النقاش والجدل. وعليه، فإن نموذج “ميديا بارت”، أقرب إلى مختبر لمهنة الصحافة برمتها، باعتباره أوّل موقع إلكتروني يتبنى هذا النموذج: من دون إعلانات مطلقًا، ورقمي (إلكتروني) بشكل كامل، ومستند على دعم القراء فقط. والكلمة المفتاح لهذا النموذج، هي القيمة. أي قيمة الإعلام، إعلام أصيل مستقل يستطيع القارئ الوثوق به. وقد أظهرنا من خلال نموذج “ميديا بارت”، أنه، وخلافًا للأفكار المسبقة، من الممكن إنشاء صحافة أفضل، وأكثر توثيقًا وأكثر استقلالًا وأكثر غنى بالمعلومات، وقادرة على خلق علاقة ثقة أفضل مع الجمهور. وكذلك، فإن “ميديا بارت” صحافة أكثر تشاركية، من حيث هي تتيح للقارئ أن يناقش ويتمّم ويطور ما يرد في “ميديا بارت”. إذن، هي بالنسبة لي، مختبر لما يمكن أن تكون عليه صحافة القرن الواحد والعشرين، في ضوء الثورة التكنولوجية التي جسّدها الإنترنت، وهي تمثل نقطة اللا عودة كذلك، إذ إنها تلغي ثلاثة أمور بضربة واحدة: الورقي والتوزيع والطباعة، وهذه الثلاثة تمثل حوالي 60 في المائة من كلفة أية يومية ورقية. وبدءًا من اللحظة التي سمح التكنولوجي فيها بالاستغناء عن هذه الأمور الثلاثة، فقد امتلك المستقبل، وبالتالي إن لم نكافح من أجل هذا المستقبل، ونطوعه لصحافة أفضل، صحافة جادة وعميقة، فإن الخطر سيكون في هذه الثورة التكنولوجية ذاتها، التي ستغدو سلاحًا بيد أولئك الذين يريدون خنق الإعلام، من خلال “الترفيه”، أو من خلال الإعلام المستند إلى: الرأي، والإيديولوجيا، والاصطفافات. أي خلق هذا الإعلام الترفيهي، الذي هو ليس بالطبع المحيط أو العالم الديمقراطي لصحافة ذات جودة وصحافة مرجعية.

* أمن أجل هذا تعتمد على الاشتراكات لتمويل “ميديا بارت”، كي تتجنب تأثير الشركات الضخمة وهيمنتها؟

بالطبع. فكما تعلمين، فإن الثورة في صناعة الإعلام، التي نعيشها هي أيضًا فرصة مناسبة لإضعاف الصحافة القديمة، التي تسمح، لمصلحة من هم من خارج عالم الصحافة والإعلام، أن يتحكموا بالميديا. ففي فرنسا، الغالبية العظمى من الميديا، بما فيها صحيفة اللوموند حيث عملت مدة 25 عامًا، هي اليوم مملوكة من قبل صناعيين من خارج مهنة الإعلام، منهم أصحاب المصارف، والعاملون في صناعات السلع الفاخرة، وصناعات التسليح والأسلحة، والعقارات والبناء والاتصالات، يقومون بشراء التأثير من خلال شراء الصحف. أمّا نحن فنريد الدفاع عن الفكرة القائلة بأن الصحافة ليست سلعة مثل باقي السلع، وإنما هي في صلب حيوية الديمقراطية. لأن المواطنين بحاجة إلى المعرفة كي يكونوا مواطنين فاعلين ومسؤولين. للحق بالمعرفة، بالنسبة لي، الأهمية نفسها للحق بالانتخاب. نريد إظهار، من خلال “ميديا بارت”، أن هذا الفساد في مهنتنا، في الصحافة والإعلام، ليس أمرًا حتميًا ولا قدرًا محتومًا، وأننا نستطيع إصدار صحيفة رابحة، تدر النقود، وترفع شعارًا يقول:

وحدهم القراء قادرون على شرائنا.

* لكن، أنستطيع فعلًا عدّ “ميديا بارت” موقعًا مستقلًا، ضمن سياق كونه وراء إطلاق شعار “أنا شارلي” غداة المجزرة التي راح ضحيتها عاملون في أسبوعية “شارلي إيبدو”، خاصّة أن هذا الشعار تمّ استعماله؟

لا، لا. لم تقل ميديا بارت “أنا شارلي” بالمعنى الذي استعملته السلطة الفرنسية كشعار من أجل ارتكاب الأخطاء نفسها التي قامت بها إدارة بوش عام 2001. في ظننا، أن الشعار كان يحمل القول بالحريات الأساسية، خصوصًا حرية زملائنا الذين تم قتلهم في “شارلي إيبدو”، فقد كانوا يدافعون عن حرية التعبير، وحرية التظاهر وحرية النقد، الخ. لقد قلنا جميعًا “أنا شارلي”، ضمن المعنى الذي ندافع عنه، أي عن حرية التعبير. نقف بمواجهة الإيديولوجيات الشمولية دفاعًا عن الحق في النقد، أي في نقد الرسوم ونقد الرأي حتى ولو اختلفنا معه. إذ إننا ندافع عن الحق بالتعددية وعن حيوية الديمقراطية. شعار “أنا شارلي” هو شعار الدفاع عن الحرية: حرية النقد، حرية النقاش، حرية التظاهر، والتعددية، وحيوية الديمقراطية. ما حصل، أن القائمين على الحكم، قاموا بخيانة هذا الشعار، من خلال حصره بشعار جمهورية سلطوية، متماثلة، اتخذت مؤخرًا قرارًا بتفعيل العمل بقانون الطوارئ، والسعي لجعله دائمًا، ومن خلال خيانة مبادئ الجمهورية الفرنسية، عبر إثارة هذا النقاش المزري حول التجريد من الجنسية. كل هذا ضمن سياق رائج، هو مواجهة الإرهاب الشمولي، هذا دجل الدولة في نهاية المطاف. إذ كما هو واضح، لا يوجد تأثير أو فعالية لهذه الإجراءات في مكافحة الإرهاب الشمولي، ويبدو ذلك بالمحصلة كرمزٍ شرير لكل نوع من أنواع التنازل أمام مجموعة من الإيديولوجيات، مثل إيديولوجيا الرهاب من الأجانب، وإيديولوجيا الكراهية، وإيديولوجيا الرهاب من الإسلام، وإيديولوجيا الإقصاء. أي بدلًا من مواجهة الإرهاب، يتم تقديم أفضل انتصار رمزي له، فهذه “الإجراءات” تتسق مع أجندة الإقصاء، ومع رؤيا تطهيرية وطنية، فضلًا عن وصم جزء من الشعب الفرنسي، وبالتالي وضعه بمواجهة قسم آخر من الشعب الفرنسي.

* أفكارك هذه المضادة للإقصاء، ولكيفية تلاعب الساسة بشعار “أنا شارلي”، والانتباه إلى أثر وصم فئة معينة من المجتمع، موجودة تقريبًا في كتابك “من أجل المسلمين” الذي تُرجم إلى العربية أخيرًا. هلا حدثتنا عنه؟

هذا الكتاب لا يتحدث لا عن المسلمين ولا عن الإسلام بتعدديته وتنوعه. هو في الآن نفسه صرخة احتجاج وحركة تضامن: صرخة ضد وصم مواطنين فرنسيين من ذوي الثقافة الإسلامية أو المسلمين المؤمنين، وجعلهم كبش فداء هذه اللحظة التي نمر فيها، حيث الإسلاموفوبيا، التي تركز على أصل المرء، وتعده أمرًا جوهريًا، وتتجاهل تعدديته وتنوعه. وهو حركة تضامن، إذ كتبته تحت وطأة الإحساس بحال الوحدة التي يعيشها هؤلاء الناس، وتلك اللا مبالاة الفظيعة، وذاك الصمت الكبير. أردت أيضًا أن أقول لهم، لشركائنا في الوطن، إن ليس عليكم أن تذعنوا وتكونوا فريسة الشعور بالاستياء، عليكم ألا تسمحوا بإهانتكم، وان تعلموا أنكم تمتلكون الحق، وبكرامة، في أن تكونوا مواطنين مسلمين فرنسيين بالآن ذاته، حيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يكون ضد الأخر، أو رغمًا عنه. في هذا السياق هو كتاب “تعليمي” أيضًا، من حيث يعالج بشكل معمق مسألة الأقليات ومسألة الإقصاء، وكذلك مسألة ما هو مشترك، أعني القضايا المشتركة التي يمكن أن نخوضها معًا، بوجود التنوع في معتقداتنا والتنوع في أصولنا ومظهرنا الخارجي. وبهذا المعنى، فإن الكتاب يتجاوز الحاصل في فرنسا ويذهب إلى ما هو أبعد، مبينًا راهنية هذه المسألة. فقد اتضح ذلك مثلًا في الغباء الإجرامي لدونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، ونشوء حركات إسلاموفوبية مثل بيغيدا في ألمانيا. ولعلّ هذا ما يسر ترجمته إلى اللغة العربية (نشرته مجلة الدوحة القطرية)، وهو الآن في طور الترجمة إلى اللغة الإنكليزية أيضًا، وسيصدر عن دار نشر لندنية هي فيرسو، تحت عنوان “من أجل المسلمين؛ رهاب الإسلام في فرنسا”.

* أذكر أن الكتاب تمت “مقارنته” بكتاب آخر، هو “من أجل اليهود”، هلا حدثتنا عن التي أثارها عنوان الكتاب؟

ليست مقارنة، أفضل استعمال لفظ رجع أو صدى. صدى لا علاقة له بما قاله من لم يقرأ الكتاب، من أنه يعقد مقارنة مع ما حصل في ثلاثينيات القرن المنصرم، حيث ظهر ميل للإقصاء وكانت ثمة مجزرة قيد التحضير. الكتاب صدى لما حصل نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا، عند لحظة قضية دريفوس، حيث كان قد بدأ التنظير وبث الأفكار ضدّ السامية، أمور رافقت إيديولوجيًا الذي حصل بعد ذاك بأربعين عامًا، أي الكارثة الأوروبية، المتمثلة في قتل رجال ونساء وأطفال وشيوخ، كان ذنبهم الوحيد أنهم يهود أو ولدوا كذلك. هذه جريمة ضد الإنسانية، هي أيضًا جريمة ضدنا، ضد ذاتنا نحن. في الكتاب أردت التذكير بما حصل في نهاية القرن التاسع عشر، إذ قبل أن يكتب إميل زولا مرافعته الشهيرة “إني أتهم” بعشرين شهرًا، كتب “من أجل اليهود”، هذا هو صدى عنوان كتابي. زولا في كتابه المذكور استفظع هذا الوصم لليهود، وبث الأفكار المسبقة حيال أشخاص لهم علاقة بالدين اليهودي، سواء أكانت علاقة إيمان، أو علاقة انتماء، أو علاقة ثقافية. ففي أوروبا، يتم حاليًا إقامة آليات مشابهة لذلك، في الميديا ولدى بعض المثقفين، الذين يريدون التركيز على أصل المرء، ويرفضون رؤيته في تعدديته وتنوعه، إذ توجد ألف طريقة وطريقة ليكون المرء ذو علاقة بالدين الإسلامي: سواء أكانت علاقة إيمان، أو علاقة انتماء، أو علاقة ثقافية. فطريقة أخذ مجموعة بعينها، ووصمها بأمر محدد، كما يحصل اليوم من ربط المسلمين بالعنف والإرهاب، بينما المسلمون هم الضحية الأولى، المسلمون في تنوعهم واختلافهم، سواء أكانوا شيعة ام سنة، مؤمنين أم غير مؤمنين.

* الكلام عن اليهود وربطه بالمسلمين، يحيل في ذهننا نحن العرب إلى إسرائيل. مؤخرًا أصدرت محكمة النقض الفرنسية حكمًا بعدم شرعية ما تدعو له حركة المقاطعة العالمية “BDS”. ورأينا على موقع “ميديا بارت” بيانًا وقعه مثقفون فرنسيون ضد قرار محكمة النقض الفرنسية.

بدايةً أرغب بتأكيد أمر: أنا ضدّ كل وصف أو تشبيه يربط بين اليهود ودولة إسرائيل. والأزمة العميقة لدولة إسرائيل، أو بالأحرى أزمتها الداخلية، أنها تعرف نفسها باعتبارها دولة يهودية، لا دولة مواطنة. وباعتباري أوروبيًا، فأنا أعتقد بوجود، كما هو الحال بالنسبة للمسلمين، ألف طريقة وطريقة ليكون المرء يهوديًا. ومن الواضح بالنسبة لي، إن إسرائيل لا تمثل مجموع اليهود في العالم، ثمة يهود آخرون، سواءٌ أكانوا مؤمنين أم لا، يستطيعون انتقاد الحركة التي أدت إلى ولادة إسرائيل أي الحركة الصهيونية. إذن يجب ألا نسقط في الفخ، الذي هو فخ اليمين واليمين المتطرف الإسرائيلي، الذي يربط إسرائيل ومجموع اليهود في العالم. فيهود الشتات مثلًا، لا يتماهون مع تلك الرؤيا المهيمِنة، رؤية الانغلاق والإقصاء. أركز كثيرًا على هذا الأمر. نحن في فرنسا لا نستطيع مجابهة الإسلاموفوبيا بكفاءة من دون أن نجابه في الوقت نفسه اللا سامية، وكل أشكال العنصرية الأخرى.

” في ما يخص الشق الثاني من السؤال، فأنا من هؤلاء الذين يعتبرون أنه ليس شرعيًا، أن يدين المرء مسبّقًا كل نقاش خاص بسياسة الإقصاء. أظن أنه في الواقع، من الضروري أن توجد حركات عالمية تجبر على التضامن (مع الفلسطينيين). قلت سابقًا إنه من الشرعي الإقرار بواقع أنه من الطبيعي أن توجد بضائع تجارية للتصدير من الأراضي المحتلة – عام 1967 بشكل غير شرعي-، والإقرار بواقع يقول بالحياة الجهنمية التي يعيشها العمال الفلسطينيون، وتمنعهم من حرية التنقل، ذلك كله بسبب تعنت الحكام الإسرائيليين الذين لا يقبلون بوجود حياة طبيعية، لدولة فلسطينية طبيعية، لها حدود معترف بها. من هنا، أنتقد هذه الطريقة، (قرار المحكمة)، حيث ثمة محظور سياسي أو قضائي من شأنه منع نقاش شرعي. إذ يتحتم علينا النجاح في “اختراقات” مماثلة، فيها فائدة للشعب الإسرائيلي نفسه. إذ إن سياسة حكّامه، هي سباق نحو الفناء، إذ تدخل إسرائيل ضمن منطق الانعزال والانغلاق. منطق لن يولد إلا الكراهية، ولن يستطيع إلا انتاج دائرة جهنمية من العنف، تؤدي إلى انغلاق أكثر فأكثر، وتضعف أكثر الشعبين اللذين يقطنان في هذه الدولة.

* لكن، لا أظن الأمر يتعلق بمحظور مانع للنقاش فحسب. الأمور مختلفة في فرنسا، إذ إن هذا يترافق مع قرار منع المظاهرات تضامنًا مع الفلسطينيين، ولا ينفصل عن الاتهام باللاسامية، فما السبب برأيك، لماذا الأمور على هذا النحو في فرنسا تحديدًا؟

لأن فرنسا بلد هشّ، ديمقراطيته هشة. لكن لا أوافقك القول، بأن هذا غير موجود في أماكن أخرى في أوروبا. أظن ببساطة أن فرنسا ساخطة في العمق، من توتر داخلي ناجم عن الشعور بالذنب. إذ خضنا، منذ فترة غير بعيدة، منذ حوالي عشرين عامًا، معركة في فرنسا، وأيضًا في باقي أوروبا. لكن، كان لها في فرنسا خصوصية، إذ اعترفنا بمسؤولية نخبنا الحاكمة عن الجرائم المرتكبة ضد اليهود الأوروبيين. كانت معركة صعبة وطويلة، لكننا ربحنا المعركة. المشكلة، في ما حصل بعدها، إذ صار نوع من التقديس للذكرى وللذاكرة الخاصة بالإبادة. واليوم، لا يريد أصحاب هذا التقديس، أن نهتم بأي “آخر”. يرفضون كل ندية لذاكرة “الآخر”، ويرفضون كل تنافس على دور الضحية للـ”آخر”، هذا الآخر الذي تتحمل أيضًا نخبنا مسؤولية تجاهه، إذ ارتكبت نخبنا مجازر الكولونيالية والاستعباد والإمبريالية. وبالتالي، يتعين علينا القيام بهذا العمل، أن نمسك الأمور من كل أطرافها، أي نأخذ في الاعتبار، مجموع الجرائم ومجموع الندوب والجروح. ففرنسا بلد له خصوصيته، نحن، إن شئتِ، أميركا أوروبا. نحن البلد الأوروبي الذي بناه المهاجرون. بلدنا مبني من خلال التنوع العميق للشعب. ولدينا مشاكل كما في الولايات المتحدة الأميركية، حيث توجد عنصرية ضد السود، وحيث يوجد العنف. لدينا الضغوط نفسها الموجودة هناك، فنحن مثل الأميركيين نعيش بين الكونية العالمية والتوتر الهوياتي.

نحن الآن عند هذه اللحظة، وفي خضم هذه المعركة الخاصة بفرنسا وتاريخها. وهذا ما يجب العمل على تفكيكه. وتفكيكه لا يكون بنقله إلى نقاش إسرائيلي – فلسطيني. هذا نقاش داخلي في فرنسا، لأن فيها أكبر جالية يهودية ناجية من الإبادة، وذلك بفضل الفرنسيين الذين ساهموا بذلك كثيرًا، وفيها في الوقت نفسه، أكبر جالية مسلمة في أوروبا. نحن مدانون ما لم ننقذ جمهوريتنا وديمقراطيتنا، عبر خلق قضايا مشتركة ضمن تنوع أصولنا ومعتقداتنا. أن نخوض هذا معًا هو أيضًا المعنى من قولي ضد الذين يريدون وضعنا بحالة حرب، كأن يكون جزء من الفرنسيين ضد جزء آخر، لذا أعيد وأؤكد، أنني أمسك بكل الأطراف، وأناضل ضدّ الإسلاموفوبيا واللا سامية معًا

” * أهديت كتابك “من أجل المسلمين” للمفكر والفيلسوف الفرنسي إدغار موران. قلما نجده ونجد غيره من المثقفين الفرنسيين حاضرين في الإعلام، الذي يحتله على ما يبدو آلان فنكلكروت وإريك زمور

لا، لا. ليس هذا الأمر مقتصرًا على فرنسا وحدها. اذهبي الى الولايات المتحدة وشاهدي قناة فوكس نيوز. ما أريد قوله، أن الميديا المهيمنة، تكون دومًا في صف النظام المهيمن. لطالما أعطوا أهمية أكبر للعملة الرديئة على حساب الجيدة. لا، ليس الامر مقتصرًا على فرنسا.

* ليس هذا ما قصدته. كان ثمة تيار من المثقفين والمفكرين المؤثرين، مثل جيل دولوز وجاك دريدا وميشيل فوكو ورولان بارت، أتحدث عن تيار لا عن أفراد.

نعم نعم، سأشرح لك الأمر. لم يكن دولوز مثقف ميديا. نحن اليوم، نعيش حضارة ميديا، حيث الإعلام متدفق مستمر وسطحي. هذا الإعلام سيعطي دومًا الكلام لمن هو رائج وعلى الموضة. فلو نشأت غدًا حركات اجتماعية، وأنتجت أفكارًا تقدمية وإنسانوية وكونية، واستطاعت إيصالها إلى عدد كبير، عندها تصبح اليد العليا لهذه الحركات، وستشهدين كيف سيغدو الناطقون باسمها، موجودين في الإعلام بكثافة. الميديا المهيمنة تعكس النظام المهيمن في لحظة محددة. في الحقيقة، لدينا اليوم إعلام رجعي، مصاب بالرهاب من الأجنبي، بل هو إعلام عنصري، لذا فإن الناطقين باسمه، الإيديولوجيين، لهم اليد العليا إعلاميًا. لكننا بمواجهة هذا، نبني جزر مقاومة، تعيش في نوع من “المجتمع – الضد”. وهذا أيضًا هو معنى ما تقوم به “ميديا بارت”.

* لديك كتاب مشترك مع الفلسطيني إلياس صنبر والسوري فاروق مردم بك، بعنوان فرنسا خاصتنا، هو أقرب إلى الحوار حول فرنسا معنىً وهوية.

نعم بالطبع. هذا كتاب عن فرنسي من سورية وآخر من فلسطين، وأنا، الـ “بريتواني مما وراء البحار”. الكتاب طريقتنا للقول إننا لن نترك فرنسا لآلان فنكلكروت وإريك زمور ومارين لوبين وإيمانويل فالس ونيكولا ساركوزي، وإننا سندافع عما هي فرنسا حقيقية ؛ إنها أميركا أوروبا. مصنوعة من التنوع والتعدد. لقد أردنا من خلال حوارنا السير ذاتي هذا، أن نروج لتاريخ فرنسا هذا، أن نرويه ونشرحه. المفارقة في الكتاب، أن الياس وفاروق، ظهرا أحيانًا أكثر فرنسية مني. وهذه هي قوة فرنسا، التي نريد الدفاع عنها، لسبب بسيط أن هذا البلد صُنع من العالم، وتغذى من العالم، وازداد غنى من العالم. المعركة – لأن ما نخوضه اليوم هو معركة – هي ضد هؤلاء الذين يريدون بتر علاقتنا مع العالم، وأن نستسلم. ويريدون تضليل فرنسا.

* لكن حين تجمع هكذا بين فرنسا والولايات المتحدة، فإن هذا يذكرني بشيء حصل في الولايات المتحدة ولم يحصل في فرنسا، أعني حركة “احتلوا وول ستريت” التي اندثرت، وكانت قد ظهرت بعد الربيع العربي بعام. ثمة من وجد ربطًا بينها وبين الربيع العربي. ما رأيك بـ “ربيعنا”؟

لقد كتبت عند قيام الربيع العربي، بالاشتراك مع بنجامين ستورا كتابًا بعنوان “الـ 89 العربي” (في إشارة إلى عام 1789، عام الثورة الفرنسية). استقبلت ما حصل في تونس باعتباره بشرى ممتازة، من أجل التحرر من الخوف، من هذا المأزق العميق في العالم العربي، حيث الخيار بين الأنظمة التسلطية الديكتاتورية أو الأيديولوجيات الظلامية. فجأة نهضت الشعوب، وتكلمت جميعًا لغة كونية عن الحق في العدالة، والحق في العمل، والحق في السلام. وبالطبع فإن هذه الحلقة التي بدأت عام 2011، هي حلقة من سلسلة طويلة ترتبط بزمننا، زمن الانقلابات. حلقة من سلسلة طويلة، لأن هذا حصل في عصور أخرى من تاريخنا؛ حين توجد ثورة، فثمة ثورة مضادة. لذا فإن تحالف بعض العرب مع الدكتاتور المشير عبد الفتاح السيسي هي ثورة مضادة، تمامًا كما حدث في سورية، حيث ظهور الدولة الإسلامية بالتوازي مع القمع الرهيب للنظام المرعب لبشار الأسد، هو ثورة مضادة، ضد النهضة السلمية للشعب السوري. وتاليًا فإننا نعيش في هذه اللحظة : تقدم وتقهقر، ثورة وثورة مضادة. هذه اللحظة، تمتلك إمكانات غير محدودة من الأشكال، وحركة “احتلوا وول ستريت”، تترجم في نهاية المطاف بالنجاح الحالي لحملة بيرني ساندرز في الولايات المتحدة الأميركية.

* أتعد نجاح ساندرز بمثابة انتصار لحركة “احتلوا وول ستريت”؟

لا أنا لا أقول انتصارًا، بل أقول ها يوجد ميل صوب اليسار أكثر راديكالية مما هو معتاد في الحملات الديمقراطية في الولايات المتحدة. تمامًا مثل الانتصار الحاصل لممثل اليسار في حزب العمال، أو حركة بوديموس في إسبانيا أو سيريزا في اليونان. إذن، نعيش مرحلة تغيير اتجاه كبرى، مرحلة ميلان كبير. هذه المرحلة، تذكرني في بعض جوانبها بمرحلة النهضة: اكتشافات كبرى، ابتكارات عظيمة، تغيير ثقافي كبير، وفي الوقت نفسه، حروب دينية، ولا تسامح وعنف. نعيش لحظة انتقالية من العيار نفسه. لحظة تضعنا بمواجهة تحدي ابتكار أجوبة جديدة تخرجنا من الطرق البالية، وتتيح لنا الدفاع عن القضايا المشتركة، التي هي في صلب الدفاع عن الإنسان وعن كوكب الأرض الذي هو في قلب مسألة البقاء. إذ إننا نعيش أيضًا، لحظة أزمة حضارة، حيث، كما نعلم، الكائن البشري، كائن خطر، يهدد كوكب الأرض ويهدد الطبيعة الأم، إلى درجة أنه يهدد وجوده هو ذاته. لذا أظن أن علينا أن ننهض ونقف ونتعاضد. أنا، مثلًا، فخور جدًا إذ تمت أخيرًا ترجمة مانيفستو ميديا بارت: “معركة من أجل صحافة حرة” إلى العربية في مصر، حيث يوجد القمع الرهيب ضد الشعب المصري بتنوعه وبشكل خاص ضد مثقفيه وصحافييه. وقد ترجم المانيفستو دفاعًا عن الصحافيين المصريين وتضامنًا معهم. نعيش في هذه المرحلة المفتوحة منذ عام 2011، المترافقة مع الأزمة المالية (2008) التي لما تنته بعد، وأيضًا مع الأزمة البيئية الماثلة للعيان، وكذلك ثورة الاتصالات التي خلقت الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتسريبات ويكليكس وسنودن. كل هذه الامور مترافقة ومتزامنة. نعيش لحظة ثورة عظيمة ويجب، بما أنك ذكرتِ إدغار موران، أن نقوم بقراءة مخلصة لأفكار هذا الفيلسوف. من أجل هذا، فإن عدونا الرئيس اليوم، هو سياسة الخوف. التي يتبعها الذين لا يرون إلا أمرًا وحيدًا: الخوف والكراهية. هم الذين يقولون لنا “خافوا ودعونا نتكفل بالأمر” هم الذين يمنعوننا تاليًا من ابتكار الأمل بديمقراطية مشتركة.

* لكن ألا تجد في كل هذه الأزمات، المظاهر السلبية للعولمة؟ وأن ثمة معايير أميركية تريد فعلًا فرض ثقافة الخوف في عالم البزنس الذي نعيشه؟

نعم، لكنني أؤاخذك على استعمال لفظ : السلبية. يوجد أيضًا احتمال هائل حاليًا. ثمة فرصة هائلة، الفخ أن نعيش كل هذا باعتباره أمرا محتومًا، قدرًا، أو باعتباره أزمة لا نستطيع حيالها شيئًا. يجب أن نناضل، ثمة تحديات علينا مجابهتها. ففي هذه اللحظة الانتقالية، ثمة أسلحة جديدة، فرضها الواقع. انظري إلى ما فعلته ويكليكس من خلال التسريبات، التي بالمناسبة عرّت القوة. نحن في لحظة فيها أسباب هائلة كي نكون قلقين، ولكن في الوقت نفسه ثمة أسباب لإيجاد الأمل. نحن في وقت بين الظل والنور، لذا قارنت هذه اللحظة مع النهضة الأوروبية، إذ كانت في الآن نفسه لحظة رهيبة، شهدت الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، بموازاة لحظة هدم هائل وكبير للثقافة والحضارة، حصل ذلك بعد وصول الأوروبيين الى القارة الأميركية. لكنها أيضًا اللحظة ذاتها التي شهدت ولادة الفكر الإنساني، وفكر الأنوار، والديمقراطية. نحن في زمن مشابه إذن، إلا أننا في سباق مع الزمن، لأن وسائل التدمير أقوى اليوم، واستطرادًا، فإن أزمة حضارتنا ليست أزمة حضارة أميركية فحسب، ثمة حضارات أخرى موجودة؛ حضارة الاستهلاك وحضارة مراكمة الثروات، وحضارة تدمير الطبيعة. إنها حضارة تستطيع تدمير الإنسانية نفسها، وتستطيع تدمير الطبيعة التي تتيح لنا العيش والبقاء. نحن في خضم هذا السباق مع الزمن، الذي يجبرنا على امتلاك رؤيا شاملة، لذا وجهت الإهداء لإدغار موران، لأنها أيضًا طريقة لشكر من يدعوننا إلى مواجهة هذا التحدي الحضاري.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى