صفحات المستقبل

سورية: التدوين خارج السرب*

موريس عائق
مع بداية الاحتجاجات الشعبية العام الماضي، كتب مدونون سوريون مجهولون:
“رح نشارك بأسماء مستعارة إلى أن يتغير قانون الإعلام ويلغى قانون الطوارئ يلي صرلو أربعين سنة عم يبرر اعتقال أي صوت بيحكي خارج السرب… ونحنا بدنا نغرد خارج السرب…”
اليوم، وبعد إلغاء قانون الطوارئ، وتغيير قانون الإعلام… لا يزال أولئك المدونون يكتبون بأسماء مستعارة…
ولادة متأخرة
ظهرت أولى المدوّنات السورية باللغة الانكليزية منذ 8 سنوات، كان اسمها المدونة الدمشقية. وخلال السنوات اللاحقة تزايدت أعداد المدونات بشكل بطيء نسبياً حتى الفترة ما بين 2007-2008، حيث قفزت أعدادها بشكل ملحوظ، وتم إطلاق تجمّعين للمدونات السورية على الإنترنت، تجمع (المدوّن)، وتجمع (كوكب سورية). واليوم يتجاوز عدد المدونات السورية، المسجلة في التجمعين، بضعة مئات.
لفترة طويلة، كان السؤال عن تأثير المدونين في محيطهم ومجتمعهم السوري يقابل بالاستغراب. وكثيراً ما كان يتداول المدونون أنفسهم عبارة: “أكثر قراء المدونات هم المدونون أنفسهم”. إلا أنّ الإجابة على هذا السؤال باتت أكثر إشكالية في نهاية 2009 و2010، إذ استطاع المدونون توسيع رقعة قرّائهم ببطء شديد وتمكّن مدونون كثر من إعادة نشر تدويناتهم في وسائل إعلام سورية (الالكترونية منها خاصة) وسعت وسائل إعلام أخرى لكتابة أخبار وتقارير تتحدث عن أبرز الاتجاهات أو المبادرات أو النشاطات الجماعية في فضاء التدوين السوري.
مع الثورات العربية
تفاعل قسم كبير من المدونين السوريين مع الثورات الشعبية العربية عموماً، لكن تفاعلاً خاصاً ظهر بين المدونين السوريين وبين الثورة المصرية. فكثر منهم لم يكتفوا بالتعبير عن التعاطف مع الشباب المصري أو تأييد أترابهم من المدونين المصريين فحسب، بل تخطّوا ذلك للمشاركة في النشاط الإعلامي المرافق للثورة. فمنهم من حوّل مدونته الشخصية لنشر أخبار الثورة المصرية يوم حجبت بعض مواقع التدوين وتويتر وفيس بوك في مصر. ومنهم من اشترك في مدونة جماعية لنشر أخبار الثورة أو التعليق على الحدث المصري عموماً. كما بذل بعضهم جهداً جماعياً لنشر صور وسير شهداء الثورة المصرية من الشباب… وحين تنحّى الرئيس المصري السابق حسني مبارك، ظهرت نشوة “الانتصار” في تدوينات سورية عديدة.
الصمت وكسره
في سورية، ومع ظهور أولى الاحتجاجات الشعبية في الشارع ساد الصمت فضاءَ التدوين؟ فتسارع وتيرة الأحداث غير المتوقع، العنف الذي قوبلت به الاحتجاجات، التعتيم الإعلامي، ضبابية الصورة، وضياع معالم الخطوط الحمراء… كلها ساهمت في خلق حالة الصمت المؤقتة هذه.
يقول المدون السوري عبد السلام، في مدونته (أعواد ثقاب):
“جاءت الثورة بأسرع مما نتصور، قاطعتنا وقاطعت استرسالاتنا بالحديث المنمق عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، قاطعتنا عن الإسترسال بانتقاد الفساد، والإهمال الحكومي، وأفسدت على البعض هواية ذم هذا الشعب وصب اللعنات عليه… والأنكى من كل ذلك أن الثورة جاءت كاختبار قاس وكاشف بسفور لكل ما كنا نتقمصه من أفكار ومواقف لم تحظى يوما بفرصة تكشف مدى أصالتها وإيماننا بها“.
إلا أن الصمت لم يدم سوى أيام معدودة، إذ كسر المدوّنون السوريون صمتهم ببيان موحد شارك في نشره العشرات منهم، وعنون بـ “رسالة مفتوحة من أجل سورية”.
دعا البيان المشترك، الذي نقلته وسائل إعلامية الكترونية عديدة، لما أسماه “الحوار الصادق والبنّاء والهادئ” وطالب لتحقيق ذلك بـ “ضمان حريّة التعبير والتظاهر السلمي دون كبت أو قمع, ودون أيّ تخريب في الممتلكات العامة والخاصة أو مخاطرة بالأرواح و النفوس”.
كما طالب البيان بـ “الاستماع للمطالب المشروعة لفئات الشعب السوري وخصوصاً الشباب”، ودعا الجميع لـ “التصدي لكل محاولات التفرقة أو الإقصاء و لكل ما يسيء لوحدة صف الشعب السوري من نعرات تعصبية و طائفية وعرقية”.
في مقالة لهما في مجلة الآداب، عدد ٧-٩ /٢٠١١ وتحت عنوان التدوين والانتفاضة، قال المدونان السوريان، شيرين الحايك، وياسين السويحة ما يلي:
“لاقى هذا النصّ المشترك، وعنوانه “رسالة مفتوحة من أجل سوريا” الكثيرَ من الترحيب والكثير من اﻻنتقاد أيضًا. ففي حين رأى فيه البعضُ انحيازًا إلى ما اعتبروه مؤامرةً ضدّ سوريا، رأى البعضُ الآخر فيه محاباةً للسلطة ومن فيها. لكنْ رغم تضارب الآراء فيه فإنّ فائدته الرئيسة كانت في أنّه كسر حاجز الرهبة من الكتابة، وهو ما كان قد بدأ يحدث حينها في سوريا لدى الكثيرين“.
وبعد كسر حاجز الصمت، بدأت المدونات السورية تتناول الأحداث بشيء من التحليل وبعضها بات يعبر عن موقف واضح أو عن آراء صريحة في هذه الأحداث. واختلفت الآراء والمقاربات بعدها في فضاء التدوين، مثلما حدث في خارجه. مرّة أخرى كانت تزداد أعداد التعليقات وترتفع حدّتها في انعكاس لحرارة الأحداث على الأرض، وفي الشارع.
وظهرتْ خلال الأشهر الأولى للاحتجاجات الشعبية مدوّنات سورية جديدة أُنشأت خصيصاً للتفاعل مع ما يجري على الأرض. وكان اللافت منها بضع تجارب لمدونات جماعية يساهم فيها أكثر من مدوّن معاً للدفاع عن الثورة، رغم إعلانهم صراحة عدم انتمائهم للتيارات السياسية. ومن تلك المدونات على سبيل المثال (المندسة) التي اعتمدت الأسلوب الساخر وتمكّنت من النشر باللغتين العربية والانكليزية، ومن الأمثلة أيضاً مدونة (كبريت).
ورغم أنّ المدوّنات الجماعية غابت عن الفضاء التدويني السوري سابقاً، إلا أن هذه التجارب الجماعية التي ظهرت استمرت حتى الآن بزخم كتابة غزير ونضجت بسرعة تناسبت مع حرارة الأحداث على الأرض. وشكلت منابر إعلامية بديلة، بجهد جماعي منظم وموجه.
بيئة حاضنة للحوار ولكن…
تنوعت مواضيع المدوّنات السورية كما الآراء والمواقف (مما يجري في الشارع). لكن يمكن للمتابع أن يجد ما هو مشترك ومتفق عليه، وما هو مختلف عليه بشكل كبير. ففي معظمها اتّفاق على نبذ العنف (من أي طرف) ورفض التدخل الخارجي، ورفض الطائفية والخطاب الطائفي، وضرورة الحوار مع الآخر وضرورة توسيع هامش الحريات… فيما اختلفت التدوينات كثيراً حول قضايا مثل من يتحمل مسؤولية العنف، مصداقية الإعلام السوري، نظرية المؤامرة، وجدّية رغبة السلطة بالإصلاح… واستمرار التظاهر في الشارع.
ورغم أن ميلاً في دعم الحراك الثوري ودعم المطالب الشعبية ظهر لدى العديد من المدونين الناشطين، إلا أن “أخطاء الثورة” لم تكن ببعيدة عن متناول أقلامهم، إذ ناقشوها وانتقدوها بالجدية التي انتقدوا فيها الكثير من أخطاء السلطة ورواياتها. ومع ذلك، لم تقتصر مواضيع المدونات السورية على الحدث اليومي فقط، بل تناولت مواضيع توعوية عديدة تتعلق بأبعاد مختلفة للأزمة. فكان أن تشارك عدد من المدونين في نشر معلومات عن ماهية الدولة المدنية، وتناولوا الدستور السوري الجديد كما تناولوا قضايا كأولوية الأمن على الحرية فضلاً عن علاقة الأقليات بالنظام والطائفية ودور المثقف…
وبالمختصر يمكن القول أن فضاء التدوين السوري قد شكل خلال الأشهر الماضية خطوة متقدمة في طرح الآراء المتعددة والمتباينة ومناقشتها، وسبق بذلك معظم وسائل الإعلام السورية التقليدية التي بدت كمنابر لآراء من لون واحد. وشكّل في مفاصل عديدة بيئة خصبة لاحتضان حوار حقيقي بين مختلف الآراء، رغم ميل البعض لاعتباره لم ينجُ من فخ الانقسام والاصطفاف الحاد مع تصاعد حدّة العنف على الأرض.
المدون… مشروع معتقل!
لم يكن المدون السوري عموماً بعيد عن خطر الاعتقال قبل 15 آذار 2011، لذلك لم يكن من السهل على المدون أن يعلن عن اسمه الصريح ويكتب في قضايا الشأن العام بسهولة. كما كانت الأسماء الوهمية شائعة في فضاء التدوين السوري. إلا أن الحراك الثوري رفع مستوى السرية في التدوين أكثر، ودفع بالعشرات من الشبان إلى اللجوء إلى الاسم المستعار مرة أخرى، فالخطر بدأ بتعاظم من التعرض للاعتقال، والكثير من المدونين هجروا مدوناتهم الصريحة إلى صفحات ومدونات أخرى يكتبون فيها بأسماء مستعارة وبحرية أوسع.
بحسب تقرير صادر عن (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير)، فإنّ ما يقارب (15) مدون ومدونة تم توقيفهم على إثر نشاطهم خلال ما يقارب السنة، وحتى نهاية شهر تشرين الأول 2011، ومنهم من اعتقل لأكثر من مرة.
ومع ذلك، لم يعدم المدون السوري وسيلة للتعامل مع تجربة الاعتقال والاستفادة منها إعلاميا، سواء عبر الدفاع عن مدون زميل معتقل ونشر صفحات التضامن معه والمطالبة بالإفراج عنه، أو عبر تدوين ونشر بعض المدونين لتفاصيل تجربة الاعتقال التي عايشوها أو التي عايشها زملاؤهم أو أصدقاؤهم أو أقرباؤهم. ولدرجة بات فيها فضاء التدوين السوري يحتوي على عشرات الصفحات التي تتحدث عن تجربة الاعتقال.
تقول صاحبة مدونة (ريساوند) في تدوينة تتحدث فيها عن الدعوة للكتابة بالأسماء الصريحة:
“لم تلق الدعوة استجابة جيدة, فلا زال الخوف يعشش فينا و بالطبع هو خوف مبرر ومشروع, وربما صحيح أن مطالبي كانت أكثر من أن تكون واقعية, فالكلمة الحرة المخالفة تحتاج لاسم مستعار يسلبها حريتها إن كان أصحابها يريدون البقاء بعيدا عن قضبان السجن ونبقى ندور بهذه الحلقة المفرغة. الخوف مبرر ومشروع, فكل يوم تنشأ صفحات جديدة على الفيسبوك للمناشدة والمطالبة بحرية شباب اعتقلوا بناءً على آرائهم، فكيف لنا أن نكتب بأسمائنا وكل شخص فينا قد يكون مشروع معتقل؟”
لم يعد بالإمكان العودة للوراء
دفع الحراك الشعبي السوري بأعداد هائلة من الشبان إلى الشأن العام بعد سنين طويلة من اعتزاله أو العزوف عنه. لكن المدون السوري عموماً، الذي كان سبّاقاً في الانخراط والاهتمام بقضايا الشأن العام قبل هذا الحراك، بات أكثر تجذّراً فيه وأكثر تمرساً في التعامل معه. وأصبح فضاء التدوين السوري يحتضن من الإمكانيات ما يمكن أن يؤسّس لحراك تدويني يلعب دوراً حقيقياً في بناء المجتمع والدولة مستقبلاً.
وإن كانت المسافة لا تزال كبيرة بين الوسط التدويني السوري ومثيله العربي في دول الجوار مثل لبنان والأردن ومصر. إلا أنّ المدون السوري اليوم يظهر كمن يحرق المراحل أو يخطو بخطوات واسعة ليزيد من تأثيره في مجتمعه وليصبح له دور أكبر في حياة السوريين.
يقول مازن درويش، مدير (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير):
“خلال الأشهر الأخيرة حدثت قفزة في الإعلام البديل… كنا نشتكي دائماً لعدم وجود حركة تدوين كبيرة، أو لضعف التفاعل مع المجتمعات الالكترونية… لكنّ هذه الأحداث شكّلت قفزة كبيرة جداً في هذا الاتجاه، خصوصاً مع انخراط عشرات آلاف الشباب السوري من مختلف الاتجاهات، في الإعلام الاجتماعي والمجتمعات الالكترونية وحركة التدوين… وهذا بالتأكيد سيشكل فرقا مع الزمن“.
وفي مقالتهما في مجلة الآداب أيضاً تقول شيرين الحايك وياسين السويحة:
” أحداث الشهور الأخيرة غيّرتْ في سوريا وشعبها ما لم يتغيّر طوال عقود. فتعاطي السياسة الداخليّة، والحديثُ في الشأن العامّ الداخليّ، يعودان إلى حياة الشعب اليوميّة بعد عقودٍ من التصحّر في هذا الشأن، حين كانت مواقفُ النظام الخارجيّة وأدوارُه الإقليميّة هي التي تحتكر معنى “السياسة،” وما عداها مجرّد “محلّيّات“
أما المدون السوري أبو حجر فيتساءل في مدونته (مزاج) عن واقع ومستقبل التدوين السوري والتبدل الذي طرأ عليه:
“هل يمكن التراجع, بعد أن أصبح الحدث السياسي حدثاً يومياً… هل يمكن العودة إلى ما قبل تلك اللحظة, هل يمكن لنا أن نعود إلى حملاتنا المجتزأة حول جريمة الشرف وعمالة الأطفال؟ لا يمكن العودة إلى الوراء… يجيبنا التاريخ! هناك واقع جديد… أقول اليوم لا بد للعقلية الأمنية من قراءته بشكل دقيق…”
ويضيف أبو حجر متحدثاً عن المدونين السوريين:
“أصدقائي ممن كان يطبع عليهم الخوف طابعه… امتلكوا اليوم من الجرأة ما يكفي لينقصهم الأدب. عودة إلى الواقع, يبدو حلم السوريين على عمومهم اليوم الانعتاق, (…) يبقى حلم السوريين بالانعتاق حلماً مشروعاً طالما أن يد الأمن تطال العمل السياسي“.
مقدمة… لا خاتمة
قبل قرابة العام من الآن، كتب مدونون سوريون مجهولون في موقع (المندسة):
“رح نشارك بأسماء مستعارة إلى أن يتغير قانون الإعلام و يلغى قانون الطوارئ يلي صرلو أربعين سنة عم يبرر اعتقال أي صوت بيحكي خارج السرب… ونحنا بدنا نغرد خارج السرب…”
=اليوم، وبعد إلغاء قانون الطوارئ، وتغيير قانون الإعلام، لا يزال مدونون سوريون كثر يغردون خارج السرب…
* مساهمة ضمن ملف خاص بعنوان: الأشكال الإبداعية للثورة السورية.. (اهداء للعاملين في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير)
سورية: التدوين خارج السرب*

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى