صفحات الرأي

مقالات تناولت الذكرى العاشرة للغزو الأمريكي للعراق

 

من حرب الاختيار إلى حرب بلا نهاية

                                            كريستوفر ر. هِل

عندما استعيد نظام البوربون الملكي في عام 1815، قال الدبلوماسي الفرنسي تاليران عن البوربون: “إنهم لم يتعلموا أي شيء ولم ينسوا أي شيء”. وبعد مرور عشر سنوات منذ بداية حرب العراق، فإن السؤال هو ما إذا كان أي شخص -سواء في أميركا، أو العراق، أو إيران، أو في دول عربية أخرى -قد تعلم أي شيء من هذه التجربة الرهيبة.

وفقاً لمعايير الحرب الحديثة، فإن خسائر أميركا كانت أقل كثيراً من مثيلاتها في صراعات حديثة أخرى -قتل في فيتنام أكثر من ضعف الذين قتلوا في العراق 12 مرة-. ورغم هذا فإن حرب العراق أفزعت أميركا في نواح كثيرة.

فقد كانت كما أشار العديد من المراقبين، حرب “اختيار”، وهي صياغة نادراً ما استخدمت لوصف حروب أميركا السابقة، إن كانت قد استخدمت على الإطلاق.

من زاوية خاصة، كانت حرب العراق أول حرب خبرات استشارية على الإطلاق. صحيح أن أعضاء إدارة الرئيس الأميركي جون ف. كنيدي أضفوا طابعاً فكرياً على حرب فيتنام وناقشوا مزايا الإستراتيجيات، بما في ذلك مكافحة التمرد. ولكن لا شيء يقارن بمصارعة الطين الدماغية التي أديرت بها حرب العراق في واشنطن.

ولقد عكس هذا جزئياً التهديد الوجودي الممثل في أذهان كثيرين في الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. فقد قيل آنذاك إن الولايات المتحدة لابد أن تبدأ في التفكير في الحرب بشكل مختلف. وقال الدبلوماسي الأميركي السابق جورج ف. كينان إن “الديمقراطية تحارب في غضب”. ولكن مبدأ “الاستباقية” الإستراتيجي الجديد، الذي زعم كثيرون أنه سوف يحدد هيئة صناعة الحرب في القرن الحادي والعشرين، يشير إلى أن الديمقراطيات تحارب أيضاً في رهبة.

وهناك في واقع الأمر سبب آخر للحرب، وهو يتلخص في الانقسام الداخلي في أميركا حول ما تمثله للبلاد كأمة، والغرض منها، وما تحمله من معاني في نظر بقية العالم. ولم تجِب الحرب على هذه التساؤلات. بل إن العكس هو ما حدث، فقد خرجت الولايات المتحدة من العراق أكثر انقساماً مما كانت عليه عندما دخلتها.

وبالنسبة للعراق، فإن التعقيدات والتناقضات التي أحاطت بالحرب كانت أكثر وضوحا. فكل من يزور العراق ويتحدث مع العراقيين سوف يخرج بشعور مفاده أن تخليص العالم من صدّام حسين كان إنجازاً بالغ الأهمية، بل ولعله كان إنجازاً نبيلا، فقد نافس بطغيانه أعتى طغاة القرن العشرين. ولكن الولايات المتحدة فشلت -برغم هذا عندما سعت إلى تحرير العراق- في التساؤل حول الكيفية التي اكتسب بها ذلك الطاغية قوته في المقام الأول، وبالتالي ما هي التحديات التي قد تواجهها في محاولة تغيير النظام.

وفي نظر البعض فإن الطائفية في العراق بدت كعاصفة صيفية، وسرعان ما مرت بمجرد تحول “زيادة” القوات الأميركية إلى إستراتيجية في عام 2007. ولكن حتى الأخطاء الفادحة التي تمثلت في اجتثاث البعث (فصل كل المسؤولين العراقيين الذين كانوا أعضاءً في حزب البعث) وتفكيك الجيش العراقي -التدابير التي بلغت من الحماقة حداً يجعل الجميع يحجمون الآن عن الاعتراف بإصدار الأوامر بتنفيذها -لا تكفي لتفسير الأزمة السياسية المستمرة في العراق.

والاعتقاد بأن الاقتتال الطائفي بدأ بسبب قرار أميركي أحمق، ثم انتهى بسبب قرار آخر حكيم في وقت لاحق، يتجاهل الدور الذي لعبته الطائفية في البلاد التي تمتد عبر عالم سُنّي شيعي كردي عربي. ومن المؤكد أن هذه الانقسامات التي حجبتها شمولية صدّام لم تختف في أي وقت من الأوقات.

الواقع أن الانقسام السُنّي الشيعي قائم في العديد من أنحاء العالم العربي. وفي حين رأى الأميركيون في احتجاجات البحرين في عام 2011 طموحات ديمقراطية، فإن أحداً في المنطقة لم يشك في أن المصدر الحقيقي للاضطرابات كان الأغلبية الشيعية المتوترة (التي ربما ألهمها العراق، أو ربما حتى إيران كما يزعم العرب السُنّة) التي تحاول إزالة نظام ملكي سُنّي.

ويشير هؤلاء الذين يزعمون أن زيادة القوات (وما صاحبها من تدابير جديدة ومحسنة في “مكافحة التمرد”) نجحت في التغلب على خط الصدع الطائفي في العراق، إلا أن المشاكل السياسية المستمرة هناك هي نتيجة لسوء إدارة رئيس الوزراء نوري المالكي.

فلو كان أكثر ميلاً إلى الديمقراطية، أو لو مد يده إلى المجتمع السُنّي -ربما من خلال تقديم حقيبة وزارية أخرى لهم- فإن التفجيرات الانتحارية التي يشنها متطرفون سُنّة ضد الاحتفالات الدينية الشيعية كانت لتنتهي.

الواقع أن الشرق الأوسط -الذي تقاذفته حرب العراق، واضطرابات الربيع العربي، والمواجهة الطائفية في سوريا- غير موقن في أي اتجاه قد تنقله الخطوة التالية: الديمقراطية الليبرالية وسيادة القانون، أم الحكم الإسلامي؟ ومع هذا فإن العراق في نظر العالم السُنّي لا يمثل الخطأ الذي لابد من تجنب تكراره فحسب، بل ولابد من إصلاحه أيضا. وبالتالي فإن السُنّة العرب والشيعة الفرس -على حد سواء- يرون أن العراق لا يزال متاحاً للراغبين، باعتباره قضية وليس بلدا، “لعبة كبرى” من نوع تعود عليه العالم تماما.

والواقع أن السعوديين وغيرهم من السُنّة العرب لم يظهروا ميلاً كبيراً إلى جلب العراق إلى الصف العربي، بل تركوه يتحسس طريقه في العالم بنفسه. وتساهم هذه الدول بشكل كبير -كما فعلت في الانتخابات الوطنية عام 2010 –  في ما تأمل أن يكون استعادة لهيمنة السُنّة، عندما يتم تصحيح الخطأ العظيم الذي ارتكبه الأميركيون ويصبح العالم العربي كُلاً واحدا.

بعد عشر سنوات من رحيل صدّام، لا يزال مستقبل العراق حيث كان دوما: بين يدي العراقيين، الذين سوف يكون لزاماً عليهم أن يرتفعوا إلى مستوى الحدث. فلا أحد يستطيع أن يخلق نظاماً سياسياً مستقراً من أجلهم، وبعد رحيل الأميركيين، فإن الجيران العرب المتطفلين والإيرانيين المتلهفين لن يجنوا إلا الخسارة بالحكم على العراق بأن يظل مصدراً للمتاعب.

أما بالنسبة للأميركيين، فيتعين علينا أن نتعلم مما حدث في العراق، خشية أن تحكم علينا غطرستنا بخوض مغامرات مماثلة. وعندما يتعلق الأمر بالرؤية التي أرسلتنا إلى هناك، فإن هذا يعني أننا لابد أن ننسى أيضا.

المصدر:بروجيكت سينديكيت

الجزيرة نت

10 سنوات عراقيّة: تفويت فرصة عظمى

حازم صاغية

يصعب الدفاع عن أخطاء وحماقات كثيرة وكبيرة ارتكبتها الولايات المتّحدة ورموزها في العراق، وقد سال حبر كثير في عرضها ونقدها، خصوصاً منها حلّ الجيش والإدارة والطريقة التي نُفّذ بها “اجتثاث البعث”.

لكنّ شيئاً واحداً يصعب على المنصف أن يتجاهله في الذكرى العاشرة لإطاحة صدّام حسين وحكمه العائليّ والحزبيّ. إنّه وضع مسألة الحرّيّة، وما يرافقها من مسؤوليّة أصحابها عنها، في صدارة الحياة السياسيّة العراقيّة، وإلى حدّ بعيد العربيّة. هذا أهمّ ما قام به الأميركيّون، أكانوا واعين ذلك أم لم يكونوا. وهو، بالضبط، ما يجيز القول إنّ ما حصل كان تحريراً بقدر ما كان احتلالاً.

فصدّام حسين الذي حكم نائباً للرئيس منذ انقلاب 1968، ثمّ رئيساً طاووساً منذ إبعاد أحمد حسن البكر في 1979، كان قد نجح في تحويل نفسه إلى مِعلم عراقيّ ثابت وخالد. أمّا البدلاء الوحيدون المحتملون له في حال الوفاة الطبيعيّة فلم يكونوا سوى نجليه، عديّ وقصيّ. هكذا اختصر “القائد الضرورة” 24 مليون إنسان عراقيّ في شخصه وفي عائلته، فيما كان يذيقهم مُرّ القمع الشرس والاستثنائيّ الذي بلغ ذروته في قصف حلبجة بالسلاح الكيماويّ.

وتعطيلاً منه لمسألة الحرّيّة، ضرب صدّام رقماً قياسيّاً في الحروب التي شنّها أو استدعاها، من حربه على إيران إلى غزوه الكويت وصولاً إلى “المنازلة” الأخيرة التي كُتبت معها نهايته. وهنا كانت التجربة الصدّاميّة بالغة الشفافيّة في تعبيرها عن المبدأ القائل: إنّ المستبدّ يستحضر القضايا النزاعيّة في الخارج، ويعمل على تضخيمها، من أجل ألاّ يواجه مشكلات الداخل الفعليّة والمُلحّة. لقد كان صدّام في هذا أستاذاً كبيراً لا ينافسه في الأستاذيّة إلاّ الرئيس السوريّ الراحل حافظ الأسد.

وبإطاحة صدّام على أيدي الأميركيّين في 2003، انفتح الباب واسعاً للحرّيّة، مثلما انفتح لمسؤوليّة العراقيّين عن حياتهم وعن تنظيم تلك الحرّيّة نفسها. فقد خرج المجتمع من تحت عباءة السلطة التي صادرته بقسوة، وبالقسوة ذاتها صادرت تعبيره الذاتيّ عقداً بعد عقد. وبالفعل صار العراقيّون يقترعون بملء إرادتهم للمرّة الأولى منذ أواسط الخمسينات، فيما راحت تتأسّس الأحزاب السياسيّة والصحف والتفزيونات والمنتديات على اختلافها في مناخ لا مثيل له في المنطقة العربيّة.

لكنْ هنا تحديداً، فشل العراقيّون في الامتحان الذي أخضعتهم له الحرّيّة والمسؤوليّة. وليس من دون دلالة أن يترافق اليومَ احتفالهم بسقوط صدّام مع موجة جديدة من العنف الإرهابيّ الذي يستهدفهم بشراً ووطناً.

ولإيضاح المقصود، يمكن أن نسترجع تجربتين معروفتين جدّاً في التاريخ الحديث هما اليابان وألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية. ففي هذين البلدين ترافق الاحتلال الأميركيّ والغربيّ مع التحرير الذي نجم عن إطاحة نظامين فاشيّين في برلين وطوكيو، مؤدّياً إلى قيام نظامين ديموقراطيّين وبرلمانيّين في البلدين. لكنّ أغلبيّة الألمان (الغربيّين آنذاك) واليابان نجحت في تغليب التحرير على الاحتلال، على رغم أنّ الأميركيّين قصفوا مدينتين يابانيّتين بالسلاح النوويّ وأحلّوا دستور ماك آرثر محل النظام الإمبراطوريّ في شكله القديم الذي اعتُبر من معالم “الأصالة” و”الخصوصيّة” اليابانيّتين. أمّا ألمانيا، فتشاركت القوى الغربيّة والاتّحاد السوفياتيّ في تقسيمها الذي دام أكثر من أربعة عقود، كما مُنعت، مثلها مثل اليابان، من التسلّح.

في العراق لم يحصل الإقلاع الديموقراطيّ الذي شهدته ألمانيا واليابان. وليس من المبالغة أن يقال إنّ السبب الأبرز وراء ذاك الفشل هو أنّ الولاء الطائفيّ غلب الولاء الوطنيّ تماماً كما تغلّبت أحقاد الماضي على آفاق المستقبل. وفي هذا تضافرت عوامل كثيرة، منها تراكيبنا العصبيّة، الدمويّة والثقافيّة، التي لم يُتح للوطنيّة الحديثة أن تشذّبها أو تُخضعها، ومنها الكبت الذي أرساه النظام البعثيّ دافعاً التناقضات الأهليّة والطائفيّة أن تتكاثر وتحتقن في العتم والخفاء. وبالطبع فحين يقيم نظام ما ضرباً من التماهي المديد بين السلطة وبين عصبيّة بعينها، فإنّها يشجّع، عند خصومه ومعارضيه، كلّ الرغبة في المماهاة بين معارضتهم وعصبيّاتهم.

وعلى العموم كان التطوّران الأبرز والأخطر اللذان راحا يعتملان خلف واجهة الحرّيّة أنّ أغلبيّة سنّيّة رأت في سقوط صدّام سقوطاً لدورها وموقعها، فيما أبدت أغلبيّة شيعيّة كلّ الاستعداد لاستدخال النفوذ الإيرانيّ بهدف إضعاف السنّة وتقويض قدرتهم على المنافسة.

ويُخشى اليوم، في ظلّ تطييف النظام وتطييف المعارضة، ووسط الأجواء التي ترافق الأزمة السوريّة، أن لا يخرج العراق من المستنقع الدمويّ الذي افتتحه الإرهاب مبكراً. لا بل بات موضوع العراق نفسه، ككيان سياسيّ منسجم، أمراً تحيطه علامات استفهام كثيرة.

لقد حصل، في بلاد الرافدين، وعلى عكس ما حصل في ألمانيا واليابان، أنّ مفهوم الاحتلال، وما يستدعيه من مفهوم المقاومة، إنّما غلبا مفهوم التحرير. وما لبث أن تبيّن أنّ المقصود بالاحتلال احتلال كلّ جماعة لأخرى، ومقاومة كلّ واحدة منها للثانية.

لقد فوّت العراقيّون فرصة تاريخيّة عظمى.

أمريكا في العراق: السحر والساحر

صبحي حديدي

في الذكرى العاشرة للغزو الأمريكي للعراق، من الخير للمرء أن يتلمس بعض جذور هذا الحدث الفاصل بمنأى عن الخطاب الرسمي الأمريكي كما اقترحه سيّد البيت الأبيض، باراك أوباما، حين اكتفى باستذكار 4500 قتيل أمريكي، وأشاد بقرابة 1,5 مليون أمريكي شاركوا فيها؛ ثمّ تناسى، تماماً، مئات الآلاف من الضحايا العراقيين أنفسهم.

 الدروس الأخرى، حول تزييف مسوّغات تلك الحرب، بما في ذلك كتلة الأكاذيب التي رسّخت خرافة أسلحة الدمار الشامل، لم تعد ذات مغزى اليوم؛ إذْ يواصل أوباما اعتناق عقيدة عسكرية مغايرة، أو مختلفة عن تلك التي اعتمدها سلفه جورج بوش الابن.

للمرء أن يذهب، على سبيل المثال، إلى رجل مثل زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، والذي لا يتردد في الذهاب أبعد ممّا يُنتظَر من أمثاله، فيقول اليوم إنّ “أخطاء حرب العراق ليست تكتيكية واستراتيجية، فحسب، بل تاريخية أيضاً. إنها، جوهرياً، حرب استعمارية، خيضت في عصر ما بعد ـ استعماري”! تُضاف إلى هذه الخلاصة، الصاعقة إذْ تأتي من بريجنسكي دون سواه، أطروحة تكميلية روّج لها في كتابه “الاختيار: هيمنة عالمية أم قيادة عالمية”، مفادها أنّ الواقع العالمي بعد الحرب الباردة وهزّة 9/11، وضع الولايات المتحدة في موقع فريد لأمّة قادرة على تأمين الاستقرار العالمي من خلال السيطرة العسكرية، وقادرة في الآن ذاته على تهديده من خلال الوسيلة العسكرية إياها.

بيد أنّ بريجنسكي هو، أيضاً، المهندس الأبرز وراء توريط السوفييت في أفغانستان، ثمّ إطلاق تلك “الصناعة الجهادية” التي أنتجت الطالبان والأفغان العرب وأسامة بن لادن و”القاعدة”… وتتمة المسمّيات والأسماء التي تقضّ مضجع أمريكا اليوم! وفي حوار شهير نشرته أسبوعية “لونوفيل أوبزرفاتور” الفرنسية سنة 1998، اعترف بريجنسكي بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل العسكري، وذلك بعد إحباط مخططات المخابرات المركزية الأمريكية لتنظيم انقلاب عسكري في أفغانستان.

وحول ما إذا كان يندم اليوم على تلك العملية، ردّ الرجل: “أندم على ماذا؟ تلك العملية السرّية كانت فكرة ممتازة. وكانت حصيلتها استدراج الروس إلى المصيدة الأفغانية، وتريدني أن أندم عليها؟ يوم عبر السوفييت الحدود رسمياً، كتبت مذكرة للرئيس كارتر أقول فيها ما معناه: الآن لدينا الفرصة لكي نعطي الاتحاد السوفييتي حرب فييتنام الخاصة به”. ولكن، يسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم أيضاً على دعم الأصولية الإسلامية، وتدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: “ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم: الطالبان، أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الغلاة الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة”؟

من جانب آخر، ألا يُقال ويُعاد القول إنّ الأصولية الإسلامية تمثّل اليوم خطراً عالمياً؟ يردّ بريجنسكي: “كلام فارغ!”، قبل أن يتابع: “يُقال لنا إنه ينبغي على الغرب اعتماد سياسة متكاملة تجاه النزعة الإسلامية. هذا غباء: لا توجد إسلامية عالمية. فلننظر إلى الإسلام بطريقة عقلانية لا ديماغوجية أو عاطفية. إنه الدين الأوّل في العالم، وثمة 1.5 مليار مؤمن. ولكن ما هو الجامع بين أصوليي المملكة العربية السعودية، والمغرب المعتدل، والباكستان العسكرية، ومصر المؤيدة للغرب أو آسيا الوسطى العلمانية؟ لا شيء أكثر ممّا يوحّد بلدان الديانة المسيحية”.

لاحظوا هذه الحلقة، القاتلة، الملتفة على ذاتها، أو المرتدة إلى نقطة انطلاقها حسب مبدأ الـ”بوميرانغ”: أمريكا صنّعت الجهاديين في أفغانستان، ليُقعدوا الاحتلال السوفييتي هناك؛ وبعدئذ، انقلب السحر على الساحر، فانتقلت تلك الصناعة إلى العراق، لا لكي تُقعد الاحتلال الأمريكي هناك، فحسب؛ بل لكي تجعل البلد محجّ جهاديي الكون، يتقاطرون إليه من أربع رياح الأرض، قبل أن يصدّروا أنفسهم إلى الجوار أيضاً. وأمّا غالبية ساسة العراق، الذين اعتُبروا خدم الغزو الأمريكي وعملاءه، فقد انتهوا إلى التزاحم بالمناكب بحثاً عن رضا “الأخ الكبير”: ليس على أبواب واشنطن، كما حلم أمثال بول ولفوفيتز ورهط “القرن الأمريكي الجديد”، بل على عتبات… الوليّ الفقيه!

ميراث متعاقب، هيهات أن يكسر حلقاته تبدّل هنا، في عقيدة أوباما؛ أو مراجعة هناك، في تنظيرات بريجنسكي.

التفكير في العراق: فوضاه ونظامه

فالح عبد الجبار

المؤتمرات عن العراق تتكاثر مثل الفطر. المناسبة مرور عشر سنين على «الاحتلال – السقوط – التغيير – التحرير». فهذه هي الأسماء المتداولة لحرب 2003 واحتلال العراق، وتحولاته. والأسماء قد تدل على المسمى من وجهات شتى، لكنها تدل على المُسمّي من وجهة واحدة: خياره الأيديولوجي أو السياسي.

الواقع أن مراكز الأبحاث العالمية والإقليمية التي دأبت على معاينة أوضاع العراق كل سنة في نوع من كرنفال بحوث، باتت الآن أقل حماسة. فمآلات الربيع العربي، وأوجاع الحرب الأهلية السورية وغموض مصائرها، تغطي كلها على المشهد. أما وضع العراق والمقبل من تطوراته، فبات ينزوي بعيداً عن الأضواء.

النزر اليسير من الاهتمام الأكاديمي – السياسي يشهد حالة نادرة من الفوضى التي تميز نظام الحياة والتفكير في جل الأصقاع العربية – الإسلامية، من إدارة الحكم، إلى نظام المرور، وهي كلها تجليات لطرائق التفكير السائدة.

في أحد المؤتمرات اكتشفت أن الربيع العربي بدأ في العراق عام 1920 (الثورة المسلحة على الاحتلال البريطاني)، أو بدأ في إيران عام 1979، أو فيها أيضاً ولكن عام 2009، أو (في تصحيح آخر) في العراق عام 2003!

الربيع العربي الذي ولد لفك النظم التسلطية، توجه حصراً نحو الذات الوطنية، لا الآخر الخارجي، صار يماثل بحركة مسلحة لاستعادة نظام تسلطي، أو يحال على أحداث تاريخية منسية في موطنها.

فكرة أخرى، إن الربيع العربي انطلق بفضل تأثيرات سقوط نظام الحزب الواحد في العراق، وانطلاق القوى الاجتماعية في مباراة انتخابية حرة مفتوحة، ونشوء إعلام غير مقيّد، الخ، الخ.

مراقبون على شيء من الدراية والحصافة قد يرون أن الاحتراب الأهلي أخرج ديموقراطية مسربلة بالدم، لا انتقالاً سلساً نموذجياً. التخيل المعاكس هو نتاج نرجسية محلية لا ترى مثالبها.

اعتقادي المبني على ملاحظات ميدانية، أن رزايا الانتقال في العراق أخّرت الربيع العربي بدل أن تغذيه. ولعل ريبة العراق الرسمي من الربيع العربي، واصطفافه إلى جانب «البعث» السوري، يشيران بجلاء إلى تنافر معلن، لا توافق مضمر. فالربيع العربي يبدو، من موشور السياسة الرسمية ببغداد، بمثابة بيئة معادية. ويبقى المرء حائراً: لماذا يغذي العراق تحولاً عربياً يشكل خطراً عليه؟

ومن القضايا التي استهلكت الكثير من الطاقة والمداد، مسار العراق. وسط ركام السجالات المتعاكسة، ثمة خلط بين المركزية والديموقراطية، فريق يتمسك بالأولى، وفريق ثان يتمسك بالثانية، شرطاً للاستقرار. والخلط يقوم على تبسيط ساذج. فالمركزية تعني تركيز القرار في هيئات محددة (لا في شخص)، والديموقراطية تعني النقاش المفتوح داخل الهيئات لتحديد السياسة وتحديد القرار وموازنة المصالح المتنافرة في المجتمع. ولما كان النظام السياسي في العراق برلمانياً وليس رئاسياً، فإن مجلس الوزراء أي الهيئة التنفيذية، خاضع دستورياً للبرلمان، وإن كان السيد عملياً في هذا البرلمان، شبه الكسيح.

زد على ذلك أن الحكومة مشكّلة على أساس ائتلافي، وتقضي الأعراف الدستورية بإنشاء مجلس وزاري مصغر، يكون بمثابة «المطبخ» لرسم السياسة وبلورة القرار.

أساس الديموقراطية الأول حرية التنظيم والانتخابات، وأساسها الثاني تقسيم السلطات، وأساسها الثالث «حكم القانون»، أي التزام القواعد الدستورية. لعلنا نحظى بالأساس الأول لكن الثاني مهزوز، والثالث مثلوم.

لن تتغير الحال بكبسة على زر إصلاح شامل. فالبلد في انتقال، وبناء أساس متين لنظام ديموقراطي قد يستغرق حياة جيل كامل. لكن ذلك لا يعني الانتظار. فالتحول لا يأتي هبة مجانية، ولا يحقق نفسه بنفسه، ولا بد من فعل جمعي متواصل لبلوغه. ينطبق هذا على العراق كما على بلدان الربيع العربي، وسواها. أودّ التذكير بأن ألمانيا النازية بقيت تحمل ملامح النظام الشمولي بعد سقوطه عام 1945، ولم تتحرر منه إلا في الثورة الطالبية عام 1968، ثورة الجيل الجديد على جهاز دولة عاش طويلاً على إرث الماضي. ويكاد هذا الملمح أن يكون في حكم القانون الثابت، مع تباين في الآماد الزمنية لفعله.

أخيراً، وليس آخراً، كانت السياسة الخارجية للعراق موضع بحث وتمحيص، في أكثر من مؤتمر.

مجدداً الأفكار متضاربة، لا ناظم لها. فمن جهة، العراق في تطور جلي، من علائمه اتساع التمثيل الديبلوماسي وتكاثر السفارات، ومن جهة أخرى، العراق في عزلة، أو أنه منفتح على كل الجيران، وكل شيء «هادئ على الجبهات»، أو أنه ضحية لتآمر وتدخل جيران، بعض الجيران هنا، أو كل الجيران هناك.

هذه الأفكار مجزأة تجزيئاً يفقدها حتى بعض بذور الحقيقة مما تحمل.

لست في وارد تحليل السياسة الخارجية العراقية برمتها، لكن الدراسات الرصينة تفيدنا بجملة من الأمور، أبرزها أن العراق، بسبب ضعفه الراهن، منفعل أكثر منه فاعلاً في السياسة الخارجية. مجدداً، هذه سمة لكل بلد في حال انتقال، فهو يفتقر إلى الإجماع على الأولويات الوطنية، أي الحقائق النابعة من وضعه الجيوسياسي.

للمرء أن يغير مكان سكنه إن آذاه جيران سيئون، أما الأوطان فثابتة في المكان، ولا تغيير للجيران، بل التغيير في التعاطي والتعامل.

أيضـــاً لا توجد سياسة خارجية واحدة موحدة للعراق، بل ثمة سياسات خارجية، متفاوتة. ولعل السياسة العراقية تجاه سورية خير مثال: المركز يقرر غلق الحدود، المجتمعات المحلية المتاخمة لسورية تفتح ذراعها للوافدين السوريين.

ويحمل المثال السوري كل عناصر السياسة الخارجية. فهناك العداء المستحكِم، واعتبار سورية مصدر خطر (من الأسد أيام دعمه للإرهاب المسلح)، ثم اعتبار الانتفاضة السورية مصدر خطر، بعد نشوب الحرب الأهلية. هذا انقلاب في الأدوار.

هناك أيضاً ميول التعاطي الإيجابي، الذي نراه واضحاً مع الكويت والأردن وتركيا، بفتح مجالات التعاون. وهناك الريبة والعداء إزاء بقية دول الخليج، وهناك التقارب المتين كما إزاء إيران. تبدو هذه العناصر دفاعية، آنية، مرتبكة، متقلبة. وكلما ازداد الانقسام الداخلي حدة، تفاقمت هذه السمات والميول في السياسة الخارجية، وقوّضت أسسها، أو أضعفت هذه الأسس في أحسن الأحوال.

معروف أن السياسة الخارجية انعكاس وترجمة للسياسة الداخلية، فإن تمزقت هذه، تمزقت تلك.

هذه هي الصورة الكالحة الآن، عسى أن تنجلي.

الحياة

أميركـا تعتـرف ولا تعتـذر

جميل مطر

أسبوع غريب مر على الولايات المتحدة. أسبوع لم أسمع عن مثيل له في الساحة السياسية الأميركية من قبل. أبالغ حين أقول إن أميركا خرجت الأسبوع الماضي عن بكرة أبيها لتعترف بصوت جهوري وأمام العالم بأسره أنها أخطأت خطأ جسيما بغزوها العراق قبل عشر سنوات. لم أرَ أميركا من قبل تعترف على لسان يمينها ويسارها والديموقراطيين والجمهوريين على حد سواء ومراكز البحوث والعصف الفكري، بل وعلى لسان عسكريين سبق أن حصلوا على نياشين وأنواط شجاعة تقديرا ومكافأة على «انتصاراتهم في الحرب على العراق»، فأغلب هؤلاء ومعظم أجهزة الإعلام كانوا مؤيدين للحرب. أذكر منهم تحديدا القائمين على مؤسسات بحث شبه عسكرية كمؤسسة «راند» وأعضاء مجلس الشيوخ مثل السيدة هيلاري كلينتون، وكانت في صفوف الحزب الديموقراطي المعارض.

أذكر جيدا السنوات الأخيرة من حرب فيتنام حين كانت الشرطة الأميركية تطلق الرصاص على طلبة الجامعات المحتجين على الحرب في وقت كانت التظاهرات تجوب العديد من عواصم العالم. ولكنى أذكر أيضا انه حين أعلن كيسنجر التوصل إلى اتفاقيات جنيف وانتقلت أميركا إلى مرحلة جديدة، استمرت الاتهامات بارتكاب تجاوزات ونشر العديد من الكتب، وأخرجت هوليوود مئات الأفلام ومع ذلك لم يصل النقد الذاتي إلى هذه الدرجة من الإجماع والرغبة في تطهير النفس من عذاب الضمير بالاعتراف العلني أن أميركا أذنبت في هذه الحرب، وأن الأمة بأسرها تعترف بهذا الذنب وتتحمل وزره.

[[[

اعترفت أميركا. وسوف يجر اعترافها اعترافات أخرى، ليس بينها بالتأكيد اعترافات الحكومات العربية التي شجعت أميركا على الغزو أو ساهمت فيه بقوات وتسهيلات. يتحدثون الآن عن 160 ألف قتيل عراقي و4500 عسكري من القوات المسلحة وآلاف أخرى من الجنود المرتزقة، كانت مهمتهم القتل خارج القواعد وخارج العرف وخارج الإنسانية ولا يحاسبهم أحد. يتحدثون عن مليوني مشرد عراقي ما زالوا بدون مسكن وعن هجرة جماعية لأقدم الجماعات المسيحية في العالم، وعن نصف تريليون دولار نفقات حرب يقال الآن إنها كانت أحد أهم أسباب الأزمة المالية الراهنة. ويتحدثون عن انهيار مرافق أساسية عديدة في أنحاء الولايات المتحدة مسؤولة بدورها عن انحدار مكانة أميركا وقوتها الاقتصادية.

يعترفون أنهم دخلوا العراق وكانت دولة، ورحلوا عنها وهي أشتات دولة. يعترفون بالخطيئة العظمى حين أرسلوا بول بريمر بمهمة «تفكيك دولة العراق»، فأقصى الموظفين والجنود والضباط بحجة أنهم قد يكونون مخلصين لحكومة صدام حسين. وبعد الإقصاء توقفت الدولة ثم تلاشت أو حق عليها وصف «الدولة الفاشلة».

يتحدثون ويتحدثون ويتحدثون في اعترافات مذهلة ولكنهم لا يعتذرون. ولن يعتذروا، فليس من شيم الساسة الأميركيين الاعتذار عن خطأ حتى لو اعترفوا به. لم يعتذروا عما فعلوا بالفيليبين أو الدومينيكان أو أفغانستان أو غرانادا أو بنما أو فيتنام أو بالمدن الألمانية أو بناكازاكي وهيروشيما، أو غيرها من مواقع الخطأ الصارخ في صنع السياسة الخارجية الأميركية وتنفيذها. لن تعتذر عن جرائم ارتكبت في حق الإنسانية في العراق، ولن تسمح لأحد في العراق أو خارجه بطلب تقديم بعض العسكريين والسياسيين الأميركيين، وخاصة الرئيس بوش ومساعديه المقربين مثل ديك تشيني وكوندوليسا رايس لمحاكمة جنائية على ما اقترفوا في حق بشر في العراق.

[[[

حسنا فعل الأميركيون بهذا الاعتراف الجماعي بأخطاء كلفت الأمة الأميركية غاليا. البعض في الداخل، كما في الخارج، كان يتساءل باستغراب عن السبب الذى جعل واشنطن، وباراك أوباما تحديدا، يتردد في التدخل العسكري المباشر في ليبيا ثم في سوريا. لا شك لدينا الآن أن «كارثة» التدخل الأميركي في كل من أفغانستان والعراق، كما توضح حملة الاعترافات، وقفت حائلا مَنَعَ الرئيس أوباما من الإقدام على تجربة مماثلة في أي من البلدين. وإن ما زال يقال إن هذا الرأي ينطبق أكثر على الحالة السورية من الحالة الليبية، حيث كان بعض المسؤولين في واشنطن على ثقة من أن الوضع في ليبيا لن يكون في حاجة لتدخل أميركي واسع النطاق، كالتدخل في العراق.

مع ذلك ما زال هناك من يعتقد أن هدف «إعادة بناء» ليبيا وسوريا وربما دول عربية أخرى، ما زال مطروحا في صدارة مهام السياسة الخارجية الأميركية والأمن القومي الأميركي. ولدينا في تجربتي مصر وليبيا على الأقل، ما يؤكد أن خططا لإعادة بناء مرافق ومؤسسات سياسية واقتصادية موجودة وجرى عرض جوانب منها على المسؤولين في الدولتين، وبعضها في حوزة أو تحت مظلة الأمم المتحدة، جاهزة للتنفيذ بالقطعة أو فور استقرار الأوضاع الأمنية، وأعتقد أن خطة مماثلة لسوريا موجودة. لقد كشفت الاعترافات، التي تتسابق على نشرها وسائل الإعلام الأميركية ويتفاخر سياسيون ورجال أمن باستعدادهم للكشف عن مزيد منها، عن أن هدف «إعادة بناء أمم بعينها» ما زال يتصدر أولويات السياسة الخارجية الأميركية تماما كما كان يتصدرها وقت التحضير لغزو العراق.

لا مؤامرة في الموضوع برمته ولا نظرية مؤامرة، بل خطط موضوعة تنتظر الفرصة للتنفيذ. ومن هذه الفرص كان التقرير الزائف عن معلومات تفيد بوجود أسلحة دمار شامل يخفيها صدام حسين. المؤكد في نظرنا وفى سجلات التاريخ أن في العراق الآن يوجد «كيان» سياسي يختلف جذريا شكلا ومضمونا عن «الدولة» التي كانت قائمة عشية الغزو تحت اسم العراق. كذلك لا مؤامرة في أن تتقدم الصفوف في جميع دول الربيع العربي قوى تنتمي إلى فصيل الإسلام السياسي.

لقد تابع عدد من الباحثين العرب الاهتمام الأميركي والغربي عموما، الأكاديمي والسياسي منذ عشر سنوات بهذا الفصيل الإسلامي، وتابع بعضهم تطور الاتصالات بين الطرفين والضغوط الأميركية على حكومات المنطقة لإفساح المجال لممثلي هذه القوى للمشاركة في العمل السياسي، وفى الحكم إذا سمحت الظروف.

يعترفون في أميركا الآن أن إعادة بناء العراق كان خطأ فادحا ليس فقط لأنه أسفر عن تسليم العراق لإيران، أو لأنه أفسح المجال لصراع جديد بين إيران وأميركا على تقاسم النفوذ في شمال العراق، وفيما صار يعرف بالهلال غير الخصيب، لكن أيضا لأنه أطلق قمقم التغيير في الشرق الأوسط بشكل فاق التوقعات والإمكانات المعدة للتحكم في مساراته واحتمالاته.

[[[

بينما كانت الاعترافات الأميركية بالجرائم والأخطاء التي ارتكبت في حق العراق تتوالى عمقا واتساعا، كان الرئيس أوباما يجيب متلعثما ومترددا عن أسئلة الصحافيين الإسرائيليين والأميركيين في المؤتمر الصحـافي الذي عقـده مع نتـنياهو بعـد وصـوله إلـى إسرائيل. وفى اليوم التالي رأيناه يخـطب في طلبة الجامعات، وكان كعادته فصيحا وقويا، مستخدما أقوى حجة لديه وهى البلاغة وإتقان اللغة والكلام في عموميات السلام وأحلامه. الصور صادمة في الحالتين، التلعثم أمام نتنياهو والفصاحة أمام الشباب، لأنها عكست بوضوح حال أميركا الراهن، أميركا التي أصبحت تخطئ أكثر مما تصيب وتضر أكثر مما تنفع.

أوباما كان ضعيفا في المؤتمر الصحافي مع نتنياهو لأنه كان يمثل حقيقة أميركا التي تـقف ضعـيفة الإرادة والحجة أمام إسرائيل على ضوء سوء الإنجاز في العراق وسوريا وفى ليبـيا ومصر وتونس، حيث ارتبكت الأوضاع في ظل هيمنة الإسلام السـياسي، ومـع ارتباكها بدت السياسة الأميركية مرتبكة وفي حاجة واضحة لإعادة نظر. وكان أوباما قويا في خـطابه أمام الطلاب، كما كان أمام طلاب جامعة القاهرة وأمام جمهور غفير في اسطنبول وفي أكرا قبل أربع سنوات. إنها قوة الحلم الذى حمل أوباما إلى البيت الأبيض، وبدوره يحمله إلى جيل آخر، في كل مكان يذهب إليه.

السفير

حرب العراق… الحصاد المرير

جيمس زغبي

لا تقتصر الأكاذيب التي أحاطت بالحرب ضد العراق على المعلومات الاستخبارية المغلوطة بشأن أسلحة الدمار الشامل فقط، ولا على الصلة الملفقة بين صدّام وهجمات 11 أيلول، بل تتعداهما أيضاً إلى ما هو أخطر، بترويج إدارة بوش ومؤيديها لأوهام ساذجة عن حرب ستكون بمثابة «جولة سريعة» وغير مكلفة. وقد جادل مناصرو الحرب حينها بأنها لن تحتاج أكثر من مئة ألف جندي، ولن تستغرق أكثر من ستة أيام لكسبها، وأما التكلفة فلن تزيد عن ملياري دولار قبل أن يستأنف العراق ضخ النفط وتسديد النفقات، مؤكدين أن العملية برمتها لن تتعدى ستة أشهر. وبالطبع فقد كانت هذه التقديرات ضرباً من الخيال، معتقدة أن تدمير النظام القديم وإزالته ستولد نظاماً جديداً أفضل منه للعراق والمنطقة. وقيل لنا وقتها إن الديكتاتور سيسقط، وإن الأميركيين سيستقبلون بحفاوة باعتبارهم محررين، وإن العراقيين سيرمونهم بالورود، وسيقود هذا كله إلى ترسيخ الديموقراطية في العراق ليتحول إلى «منارة للحرية في الشرق الأوسط».

بل أكثر من ذلك، وإفراطاً في التفاؤل غير المبرر، اعتقد مناصرو الحرب داخل الإدارة الأميركية أن تغيير النظام في العراق سيساعد على حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبأن «الطريق إلى القدس تمر عبر بغداد». وباستنادهم إلى أوهام الأيديولوجيا أكثر من حقائق الواقع، اعتقد أركان إدارة بوش الذين صاغوا وثيقة «مشروع القرن الجديد الأميركي» أن إظهار القوة الأميركية الحاسمة في العراق سيجعل الولايات المتحدة أكثر احتراماً على الساحة الدولية، وسيؤمّن لها الريادة العالمية خلال القرن المقبل.

ولكن المفارقة المأساوية لهذه الحرب أنها تركت أميركا أقل احتراماً في العالم، وضربت القيم الأميركية، والأساس الأخلاقي الذي تقف عليه لتكشفها أمام نفسها وأمام العالم، كما دفعت بالقوات الأميركية إلى الانتشار في مناطق عديدة مع ما يمثله ذلك من ضغوط على الموارد العسكرية، فترتب على ذلك تعزيز قوة أعداء أميركا وفتح المجال لقوى إقليمية أخرى لممارسة نفوذها، وفي النهاية خرجت أميركا من الحرب أكثر هشاشة مما دخلتها. ومن المحزن اليوم الرجوع إلى خسائر الحرب في العراق لما سببته من مآسٍ، فعلى الجانب الأميركي فقد أكثر من 4400 جندي حياتهم ودمرت حياة عشرات الآلاف من الجرحى الذين يعانون من إعاقات دائمة. فيما على الجانب العراقي قتل الآلاف من العراقيين الأبرياء وخسر الملايين مورد رزقهم، كما أن خُمس العراقيين اضطروا لترك منازلهم واللجوء إلى البلدان المجاورة، أو النزوح إلى أماكن أخرى داخل العراق نفسه.

ومع انطلاق موجة العنف الطائفي التي أعقبت سقوط نظام «البعث» جاء معها تدمير الطائفة المسيحية القديمة في العراق، وهي المأساة التي مرت مرور الكرام ولم تنتبه لها إدارة بوش ومخططو الحرب. واليوم وبعد مرور كل هذه السنوات على غزو العراق ما زال ذلك البلد يعاني من العنف ولم تستقر هياكله بعد، وهذه نتيجة مباشرة لقرار أميركا القاضي بدخول بلد تجهل تاريخه وثقافته، وبالتالي عجزت عن فهم تداعيات خطوتها ولا مآلات تدخلها العسكري في مجتمع معقد ومتنوع مثل المجتمع العراقي. ولذا يظل العراق على شفا الصراع الطائفي حتى اللحظة الراهنة، كما أن القيادة الحالية في بغداد تواجه مشاكل جمة مع الأكراد في الشمال والمناطق السنية المضطربة التي يشتكي أهلها من الاستبعاد والإقصاء على يد الحكم الشيعي المدعوم إيرانياً.

وتُظهر أغلب استطلاعات الرأي التي أجريناها في الفترة الأخيرة أن العرب في معظمهم يعتقدون أن الرابح الأكبر من الحرب على العراق هو إيران التي استفادت من الفراغ السياسي والأمني الناشئ لتمدد نفوذها بعد إزالة نظام صدام بما شكله من توازن استراتيجي مع إيران. وبانقضاء عشر سنوات على الحرب ضد العراق ما زالت أميركا تعاني من قرارات إدارة بوش، فيما لم يتمكن أوباما من تصويب المسار واحتواء الأضرار وتخفيف الثمن الباهظ الذي يدفعه الأميركيون وشعوب الشرق الأوسط نتيجة أكاذيب إدارة بوش وأخطائها القاتلة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى