صفحات المستقبل

ما نسيه نظام الأسد ليلة سقوط وادي الضيف/ بشار عمر الجوباسي

 

 

خلت السماء من الغيوم لتفسح لإشراقة مثالية للشمس التي راحت تبثّ دفئها في الأجواء. كان كل شيء متوفراً ليرشح التاسع من تشرين الأول/اكتوبر عام 2012 ليكون يوماً خريفياً عادياً في مدينة معرة النعمان. إلا أنّه لم يكن كذلك، ففي صباحه قامت عدة فصائل من المعارضة السورية بتحرير المدينة من سيطرة قوات النظام. عملياً انسحبت الحواجز إلى معسكري وادي الضيف والحامدية إلى الشرق والجنوب منها ليبدأ النظام بعدها مسلسل الانتقام، فقام المعسكران بالاشتراك مع معسكرات أخرى قريبة مدعومين بالطيران المروحي والحربي بدكّ المدينة والقرى المحيطه بها ودمّروا معظمها.

هجرها السكان ثمّ عاد عدد منهم في وقت لاحق ليعيشوا تحت قصفٍ مستمرٍ. بقي المعسكران تحت الحصار طيلة ستة وعشرين شهراً جرت خلالها عدة معارك حولهما إلى أن تمّ تحريرهما مؤخراً. أحصى سكان معرة النعمان750 قتيلا من المدنيين نتيجة القصف العشوائي المستمر على مدينتهم معظمهم من الأطفال والنساء، ولا يزالون يتعرضون لعمليات انتقامية ينفذها طيران النظام حتى الآن. ففي اليوم التالي للتحرير شنّ طيران النظام 35 غارة على القرى المحيطة بوادي الضيف. ذكر إعلام النظام ما حدث في قلاع الشمال – كما كان يصفها مؤيدوه سابقاً- كخبر جانبي ووصفه بإعادة الانتشار، ليست هذه المرّة الأولى التي يتخلى فيها النظام عن جنوده ويتركهم لمصيرهم بعد حصار طويل، فقد تكرّر المشهد نفسه كثيراً من قبل في الفرقة السابعة عشرة في محافظة الرقة، وكذلك في حقل شاعر النفطي وغيرها والصورة مرشحة للتكرار في مطار دير الزور المحاصر من قبل داعش.

كان على النظام السوري مواصلة الاقتداء بهتلر في هذه الحالة. ففي الثلاثين من كانون الثاني/يناير عام 1943 وبعد انقلاب الأمور لصالح الروس في معركة ستالينغراد، كانت القيادة الألمانية تستعد لسماع خبر أسر أو موت من تبقى من جنودها في تلك الجبهه، قام هتلر- الذي ظلّ يرفض كلّ طلباتهم بالانسحاب وكذلك عجز عن إرسال المدد إليهم- في ذلك اليوم بترقية ضباط الجنرال فريدريك باولوس قائد الجيش الألماني السادس المقاتلين في ستالينغراد كما رقّاه إلى رتبة فليد مارشال لدفعه إلى الانتحار، نظراً لأنّه لم يسبق لأي فليد مارشال ألماني سابق أن استسلم فباستسلامه سيلحق العار بالتاريخ العسكري لألمانيا. لكن الفيلد مارشال آثر الاستسلام، ربما هذا ما ينسى النظام فعله مع جنوده المحاصرين في العديد من الأماكن مع فارق أنّ جنوده ومن كلّ الرتب يستسلمون، لكن النظام دائماً يعود ويستدرك أخطاءه في عدم منح الترقية لجنوده قبل موتهم ويقدّم لذويهم عنزة. ما أقسى هذا الواقع، لكنه ما يحدث بالضبط فوق أرض سوريا ، والأقسى منه ما فعله أولئك الجنود بالمدنيين السوريين قبل أن يلاقوا مصيرهم المحتوم ولو تأخّر قليلاً، فما الذي يدفعهم إلى الاستمرار في اقتراف ما يقترفون ولماذا لا يعتبرون مما حدث لغيرهم؟ مدينة أبي العلاء المعري تعرضت لمذبحة قتل فيها عشرين ألفاً من سكانها قبل أكثر من تسعة قرون على يد الصليبيين ولكنها عادت ونهضت سريعاً وها هي تفعل الآن. لعلّ أهم ما سينتج من تحرير المعسكرين هو عودة مئات آلاف المهجرين إلى مدينة معرة النعمان والقرى المحيطة بها على الرغم من تدمير معظم بيوتها.

لن يسقط النظام لمجرّد سقوط معسكري وادي الضيف والحامدية، لكنّ ما حدث يؤكد على المستقبل القاتم الحتمي للنظام. فلم ينجح في فكّ الحصار عن أي موقع من مواقعه، بل دائماً ما كان يتركها قيد الانتظار حتى تسقط بأيدي الثوار. أصبحت المسافة بين قواته في المنطقه الوسطى في بلدة مورك وقواته في حلب مئة وعشرة كيلو مترات كلها تحت سيطرة الثوار. وتتجه الظروف لمزيد من عزل معسكرات النظام في وقت أنهكته الحرب، كما أرهقت حلفاءه الذين يعانون من مشاكل اقتصادية لا ريب أنّه ستنتج عنها أزمات داخلية ستعصف بهم عما قريب وتدفعهم إلى تخفيض الدعم المقدّم إليه.

أخطأ الإيرانيون كثيراً في تمدّدهم في كلٍّ من العراق ولبنان وسورية واليمن، زاد من فرط غرورهم سهولة بسط سيطرتهم عليها، أمّا الآن فبدأت تظهر استحالة إمكانية الحفاظ على كامل تلك المساحات والثمن الباهظ المترتب على ذلك. وهذا ما سينعكس على موقف النظام السوري في صراعه مع الثوار فحتى الولايات المتحدة نفسها أرهقتها كثيراً حرب فيتنام. بدأت إيران تستوعب هذا الدرس ففي اليمن يطالب الحوثييون بدمجهم في مؤسسات الدولة اليمنية العسكرية والأمنية كي تتخلّص إيران من أعباء تمويلهم وبذلك بسلاح الدولة وتمويلها يسيطرون عليها كما فعلوا في العراق.

مزّق تحرير وادي الضيف أوصال طرق إمدادات النظام ووضع حلم إعادة ربط المنطقة الوسطى بالمنطقة الشمالية في مراتب المستحيلات، كما أصبح شمال سورية بيد المعارضة السورية ما عدا جزء من مدينة حلب مع عدد من القرى، بالإضافة عدة مواقع في محافظة إدلب بعضها محاصر أما جزئياً أو كلياً. ومع تلقي الثوار لقدر كبير من الدفع المعنوي والمادي ستكون الأيام التالية عصيبة على النظام، فقد تخلص الثوار من حمل ثقيل ظلّ يستنزف قواهم طلية ستة وعشرين شهراً في حصارهم للمعسكرين الساقطين هذا بالإضافة للذخائر والآليات العسكرية التي حصلوا عليها.

يبقى العبء الأكبر على النظام تجاه قاعدته الشعبية ومؤيديه، فإلى متى سيستمر في تجاهلهم؟ في وقت يفر فيه الشبان من مناطق سيطرته هرباً من التجنيد، ويتقدّم الثوار في الجنوب أما في الشمال فيعاني ويتحول إلى موقع الدفاع وما جرى على تخوم المنطقة الوسطى مؤخراً غني عن التعريف وهي مرشحة لتلقي المزيد من الضربات. يرخي هذا المشهد بظلاله على سورية بالتزامن مع حراك سياسي غربي وروسي يهدف إلى جمع النظام والمعارضة حول طاولة المفاوضات من جديد، فالمبعوث الدولي دي مسيتورا حصل على تأييد من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لخطته مجهولة الملامح. رغم تحفظات الإئتلاف عليها فمن الأرجح أنّهم سيشاركون فيها فالذهاب إلى التفاوض مع النظام ليس بيدهم وقد ضغط عليهم للمشاركة في مؤتمر جنيف-2، لكن لا بدّ أنّ دي ميستورا سيضطر لسماع الكثير من طلبات الثوار في لقائه المقبل معهم لتتحول مساعيه لإنجاح خطته إلى محاولة إقناع النظام بتلك المطالب. تتميّز خطة دي ميستورا عما سبق من مبادرات بأنّها تتطلب وقف أو تجميد القتال ومن ثمّ الانتقال إلى الحوار والعملية السياسية، كما يتحدث دي ميستورا إلى المعارضة العسكرية مباشرة بالإضافة إلى لقاءاته مع ممثلين عن الإئتلاف وهذا ما لم يحدث في عملية جنيف-2 حيث اقتصرت مشاركة الفصائل المسلحة وقتها على ما يمكن أن يسمى بقايا الجيش الحر، بعضهم لم يعد له وجود حالياً والبعض الآخر ليس له ثقل حقيقي على الأرض الآن، ورغم الحاجة لدفع الموت عن السوريين إلا أن وقف القتال حالياً يصب في مصلحة النظام. وتبقى خطة دي ميستورا أكثر واقعية من مساعي الروس لعقد مؤتمر موسكو-1 خاصة أنّهم وسيط غير نزيه فهم أكبر داعمي النظام بعد إيران، كما أن خطة دي ميستورا توفر بديلاً أكثر أهمية وجدوى للمعارضة السورية ستدفعهم ربما للإعراض عن المبادرة الروسية أو تأجيلها لما بعد اتضاح الرؤية حول مصير مبادرة دي ميستورا الأممية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى