صفحات سوريةفلورنس غزلان

من – عصابات مسلحة- في درعا، إلى – مخربين- في حماة!


فلورنس غزلان

عندما انتفضت مدينة درعا ثأراً لكرامتها المهدورة وانتصاراً لأولادها الصغار من فك وأنياب أجهزة أمنية لالغة تفهمها ولا ممارسة تعرفها سوى العنف والعصا والقوة والقمع ، لتطويع المواطن وتخويفه وبث الرعب في فرائصه، فقد أثبتت هذه الوسائل المرسومة والمخطط لها منذ عهد الأسد الأب نجاعتها وثبتت دعائم نظامه لأربعين عاماً خلت،” فمن شب على شيء شاب عليه “،هذه تربية أسس لها النظام كقوائم اعتبرها على مدى عقود من المقدسات وأي خلل في تركيبتها، يعني بالتالي البدء في تقويض دعائم النظام وسيره نحو منعطفات مجهول يودي به..وبالطبع القوة المفرطة في العنف، المرتبطة عضوياً في بروباغاندا إعلامية تقوم على الكذب وتشويه الحقائق وزرق المواطن بخطاب قومجي ممانع من جهة..ومعرض للمؤامرات الخارجية من جهة أخرى..لهذا ربط كل قضايا الداخل بسياساته الخارجية المُضَخمة..لكن المفاجأة جاءت على أيدي أطفال درعا..شحنتهم ثورتي تونس ومصر..وفي أعمارهم الصغيرة ينتفي الخوف إلى حد ما..يريدون أن يسبقوا الزمن وأن يتحولوا إلى أبطال ساحات تعج بهتاف يختلف عما تعلموه كآيات قرآنية في حقول ومعسكرات الطلائع والشبيبه البعثيه..لم تكن أعمارهم تسمح بعد بتعلم مايعني أن يقع المرء بقبضة المخابرات..رغم أنهم سمعوا بعض الهمسات، التي تدل على رعب مزمن عند أهلهم…لكنهم لم يلمسوها بعد إلى أن زُج بهم في فروع الأمن السياسي ونقلوا إلى أشهر الأقسام عنفاً وقدرة على تصفية الأجساد وإخراس الألسن وقطعها وتشويه الأعضاء..” فرع فلسطين “! ــ مع كل الأسف أنه يحمل هذه التسمية ومن هنا أتمنى على التغيير القادم أن يلغي هذه التسميات وهذه الفروع ــ ثارت درعا وبسرعة اصطدمت بعنف لاحدود له ولا معايير لقيم عنده ولا إنسانية أو ضمير وطني يحد من سلطة أجهزة لاهم لها سوى إخماد كل صوت ودفن صاحبه قبل أن يسمعه جاره..أو قبل أن يعرف أهل داره مَن هي يد الموت التي اختطفت حياته..عَمَّ الموت أرجاء المحافظة ، لكنه منح الخوف إجازة طويلة وأعاده إلى صناديق من صنعوه وعلبوه في الوطن السجن ” سوريا”..هنا جاء دور الإعلام الكاذب وطابوره المتربي على الانفلات من كل عيار خُلُقي وعلى تضخيم وتخوين كل مخالف وكل خارج عن طاعة القطيع…سموهم حينها ب ( العصابات المسلحة في درعا)!!.. العصابات لم نرها إلا في خيال وتلفاز السلطة ..والتي يعرف عنها القاصي والداني كيف تجعل من الحمار أرنب..وأن قوات الأمن والفرقة الرابعة ودبابات الجيش دخلت درعا ومازالت فيها مقطعة لأوصالها..كل هذا ” من أجل حماية أهل درعا من أنفسهم ..أي باعتبارهم أنتجوا وفبركوا ” العصابات المسلحة ، ( واستنجدوا بالأمن واستصرخوا ضمير السلطة أن تأتي لتنقذهم وتحميهم من هذه العصابات.)َ!..التي على مايبدو أنها لم يتم القضاء عليها والدليل ..أن هذه الأحياء مازالت تخرج بمظاهرات نهارية وليلية..رغم الاعتقالات لآلاف الشباب ورغم كل أنواع الابتزاز والقتل والنهب والسلب والإفقار…لأن هذا كله محصلة لعملية إذلال مشروعة بالنسبة للنظام..يشرع ويبارك يد الأجهزة الأمنية الضاربة للعصابات المسلحة ..التي زادت عليها فيما بعد كلمة ” السلفية” خاصة حين انتقلت بسرعة الصاروخ إلى اللاذقية وجبلة وبانياس، فالبيضا وتلبيسة وحمص فالرستن..وجسر الشغور وتلكلخ، لأن ” السلفية ” تعني أنها (سُنية)! المنشأ وهذه لعبة من ألعاب النظام الأشد فتكاً بتفتيت المجتمع وتقسيمه وبث الفرقة والشقاق بين طوائفه ومذاهبه وقد جرب هذا في الثمانينات ونجح ــ لأن الأخوان المسلمين حينها منحوا حافظ الأسد فرصته فاقتنصها ــ لكن الشعب السوري وانتفاضته وردهم على النظام ومحاولاته البائسة بالايحاء إلى الطوائف الأقل عدداً أنه الحامي والراعي والموحد، وأن هؤلاء يريدون بناء دولة أو إمارة سلفية..لكن ردود الفعل القادمة من الاحتجاجات السلمية المستمرة ، والتي ترفع التآخي وتظهر التعاون ولم تعد حكراً على طرف على حساب الآخر..وماصدر عن لجان التنسيقيات فيما بعد يدل على وعي كبير يعيد مكائد النظام إلى نحرها ويسقطها في مصائد اعتقدت أن نتائجها مضمونة..وحين جاءها الرد من القامشلي والحسكة، وعلى لسان أكراد سوريا على النظام بأنه لايُشترى بالجنسية ، لأنها حق من حقوقه، لكن مصيره هو مصير أبناء الوطن، ثم تردد الصدى في دير الزور والرقة والبوكمال وريف دمشق وأحياءها من دوما للمعظمية وداريا وحرستا والزبداني ، انتقل التوصيف إلى “المندسين”!..وزاد الطين بلة عندما ارتفع سقف المطالب وكبر حجم التظاهر وامتدت رقعته..شاقوليا وأفقيا.ومن كل الجهات الأربع…لتعم كل المحافظات..لكنها عندما أحيت طائر الفينيق الحموي..فانتفض من رماده..ومن موته..ومن جراحه المندملة على آلام وأحزان تهرب منها الكتب وتعجز عن سردها لغات الأرض وتقف ذاهلة أمام حجم وهول فجيعة أهلها في مذبحتهم البعيدة القريبة..الحية في ذاكرة المواطن السوري والمتداولة بحرص بين الأجيال المتعاقبة وخاصة الحموية المصابة، فخرجت جموعهم كالسيل العارم..مُصرة على سلمية احتجاجاتها وحقها المشروع في تغيير الاستبداد وثوبه الخانق للجسد وللحنجرة السورية…نعم ثمن الحرية ندفعه غالياً..ويقابل يومياً بحجم هائل من العنف المفرط والبربرية النادرة المعبأة بحقد أعمى لامثيل له، ولم يعرفه التاريخ السوري قديمه أو حديثه..وحين عَنَّ على بال القوى الكبرى، التي لم تعلن بأي يوم من الأيام ولم تطالب النظام السوري المدلل لديها . بات يعرفها الصغير والكبير من أهمها أمن إسرائيل وسلامة حدودها..وعلاقة المودة التي تربط سوريا بإيران وحزبه الإلهي اللبناني،وتأثير كل ذلك على المنطقة العربية وأنظمتها الهشة المحمية من هذه القوى، ناهيك عن الروابط المصلحية التي تربطه بروسيا وموقفها من النظام ــ الذي لم يدين أعمالها في الشيشان في أي يوم من الأيام وماموقفها إلا رد للجميل ــ وقد شاءت هذه القوى وعلى رأسها أمريكا وفرنسا المُحرَجة أمام شعوبها ومنظماته الحقوقية والإنسانية وأمام حجم الجرائم التي أعلنتها موثقة منظمتي العفو الدولية وهيومان رايتس، مطالبة المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات أكثر صرامة وإدانة للنظام السوري..خطر لسفيري البلدين أن يقوما بحركة تزعج النظام وتربكه وترسل له رسالة مبطنة تفرك بها أذنه ..كي يسرع فيما قال عنها” إصلاحات ومؤتمرات للحوار”!، فجاءت زيارتهما المفاجئة لشعب حماة المصمم على التظاهر بنفس الزخم، رغم القتل والحصار والاعتقال..هنا أخرج النظام من جعبة مدخراته الاحتياطية الدعائية التخوينية متهماً أهل حماة بالخيانة …وبأن سفيري الدولتين التقيا” بالمخربين”!! ــ عفواً تصورت نفسي أستمع لإذاعة إسرائيل ــ ،تعددت التسميات وتنوعت، وحتى اليوم لم نقرأ ولم نسمع عن أي من هؤلاء المندسين وهذه العصابات السلفية أي تبني لعملية ضد أجهزة النظام ولا أي هاتف ادعى فيه تنظيم ما أو حركة ما، أنها وراء هذه الاحتجاجات في هذه البلدة أو تلك المدينة، وهذا يعني أن جعبة النظام واختراعاته للتشويه والحط من قيمة مايجري وعمق وتأصل الغضب السوري المتراكم منذ عقود والناتج عن السياسة الأمنية المتبعة وما أعقبها من خراب وتراكمات وفساد قد أعلن عن خيبته وفراغه، وأن فزاعاته لم تعد ذات جدوى ، وماعليه إلا تفكيكها وإعادة النظر في وجوده، ومنذ البارحة يعقد النظام مؤتمره التشاوري في ” صحارى” برئاسة نائب الرئيس السيد فاروق الشرع..قاطعته معظم الأقلام والشخصيات الوطنية الأشهر والمشهود لها ” باعتدالها”! ــ بالنسبة لموقفها من النظام ــ ورفض الالتفات إليها الشارع السوري ومعارضاته وما انبثق عنها من مؤتمرات وهيئات انعقد بعضها، وبعضها الآخر على وشك الانعقاد، وكلها لايشارك النظام حواره في وقت يشن فيه حملاته الأمنية والعسكرية الحصارية المستمرة لمدن وشوارع القرى والبلدات السورية، وفي الوقت الذي مازال يعتقل أي متظاهر يرفع صوته..ومازال يحتفظ بمن اعتقل منذ15 آذار ومن اعتقل كمعارض قبل الثورة، ومازالت الأعداد تتزايد ومستوى التعذيب والموت لم يتقهقر ولم يهتز..ومع هذا يُخَّون المقتول وأهل القتيل لرفضهم للحوار!.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه ملحاً، هذا النظام بتركيبته الأسرية الأمنية القائمة على القوة العنيفة ، والرافضة للآخر، وحتى للشعب ووجوده وحقوقه..والمتشبثة بالسلطة باعتبارها قضية وجود ، هل يمكنها أن تسلك سلوك الوداعة وترضى بالتنحي لجيل آخر ولنوع وصنف مختلف سياسياً واجتماعياً؟..ولأني غير مقتنعة..بامكانية إصلاح النظام لمسلكه ومسيرته وطريقته وتراجعه ورحيله في النهاية، فإني لا أعول إلا على انتفاضة الشعب السوري بأنها الوحيدة المحتاجة لدعمنا ، والمحتاجة إلى يقظة ــ وإن تأتي متأخرة من المعارضة الآن قبل الغد..كي لا يكون ثمن الدماء والضحايا والخسائر الاقتصادية بخس يُفاوَض عليه من أجل خطوات تبقي على التركيبة، أويتم تغييرها شكلياً..

ننتظر الآتي على يد من بيدهم توضع نقاط الغد على حروفها..ونأمل ألا يخيبوا رجاءنا وأن يؤتي صبرنا ثماره ببناء سوريا الزاهية بكل أطيافها وشرائحها دولة ديمقراطية حرة مدنية بدستور يتساوى أمامه كل مواطن يعيش على أرض سوريا بغض النظر عن لونه وعرقه ومذهبه وجنسه.

ــ باريس 11/7/2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى