صفحات سوريةعمر قدور

نحن بوصفنا إسرائيليين/ عمر قدور

 

 

تراجعت في السنوات الخمس الأخيرة، مكانة إسرائيل في المخيال العربي، ولم تعد تلك القوة الغاشمة الوحشية الأولى. إذ، على الأقل، أطاحتها وحشية نظام الأسد إلى مرتبة متأخرة على مرأى من العالم كله. وإذا أضفنا مساهمة أنظمة الممانعة في تشكيل صورة إسرائيل السابقة، فمن الإنصاف القول إن تلك الأنظمة وتنظيماتها كانت بالأحرى تؤلف وحشيتها المتوثبة إزاء شعوبها، فشيطنة إسرائيل على النحو الذي حدث سابقاً تشي بجوهر الممانعة أكثر مما هي مشروع جاد لفهم العدو والتصدي له.

لكن التوقف فقط عند مقارنة مقدار الوحشية بين الطرفين لا يفي التماثل حقه، ويغفل غالباً تأثير المشروع الإسرائيلي في انبعاث الأيديولوجيا القومية في المنطقة على النمط الذي عاشته طوال عقود. تلك الأيديولوجيات التي رُدّ تشكّل معظمها إلى تاريخ أبعد يتعلق بنهاية السلطنة العثمانية، ومن دون توقف عند هذه الدلالة، رُدّ بعض ينابيعها إلى التأسيس النظري للقومية الألمانية الذي انتهى بالنازية، مع أن دلالة الأخيرة فاقعة من جهة العداء لليهود، وما تلاه من استثمار معكوس.

وقد يكون أقرب إلى الواقع الفصل بين مرحلتين من التشكل القومي في المنطقة، أولاهما كانت بدلالة بروز القومية التركية، وثانيتهما كانت بدلالة بدء المشروع الإسرائيلي، مع التنويه بتلازم الثانية مع مرحلة الاستقلال وانتهاء موجباتها التحررية الأولى.

من المتوقع أنّ مقداراً من الافتتان بالتجربة الإسرائيلية بقي مخفياً خلف الكراهية الصاخبة تجاهها. فذاك النجاح الساحق الذي حققته يتعزز مع تعثر التجربة القومية في تركيا وإيران آنذاك. وما يزيد من إغوائها المزيجُ بين مشرقيتها الجغرافية وحداثيتها المنتمية إلى الغرب، فهي على هذا الصعيد تحل معضلة التحديث من دون التفريط بماضٍ عزيز وغالٍ، بل تتمظهر الحداثة كوسيلة لخدمته، لا كجوهر مستقل في حد ذاته.

على صعيد متصل، لم تعد المظلومية اليهودية تملك سوى أسبقية الفعل السياسي، ففي السنوات الخمس الأخيرة تحديداً ستنفجر المنطقة على حجم هائل من المظلوميات المتعايشة قسراً، وسينفجر معها التاريخ الخاص لكل مظلومية نافياً التاريخ الذي بدا مشتركاً حتى وقت قريب، أو أُريد له أن يكون هكذا. التاريخ الخاص المستقل سيتقدم خطاب الجماعات، مسلحاً أكثر من أي وقت بالمُنتج العنيف للحداثة، ومستغلاً عند اللزوم بعضاً مما تلاها. بفضل هذه الخلطة، سيظهر التاريخ كأنه في المتناول الآن، أيضاً على النحو الذي يصوّره مخيال كل جماعة عن تاريخها الخاص، وعن إسرائيلها أو محرقتها في ذلك التاريخ.

إسرائيل نفسها لن تخرج من سياق التراشق بالاتهامات، فنرى مثلاً عرباً سوريين يتهمون نظراءهم الأكراد بالسعي إلى إنشاء وطن قومي على غرارها، بينما يتهم أكراد تجربة البعث بالنقيصة ذاتها، من دون الأخذ بالاعتبار أولئك الذين صار طريق قدسهم يمر من حلب أو يبرود أو سواهما من المدن السورية. الجمع البسيط لمحصلة الاتهامات يكفي للقول بتقاسم إسرائيل على الجانبين، مع تعزيزه بانتقائية تاريخية تجعل الزمن موصولاً لدى كلٍّ من الجماعتين، ويمتلك الأسبقية ولو اقتضى نسب جماعات منقرضة إلى الجماعة الحالية لتبرير سرديتها.

الآخر في أحسن حالاته ضيف ثقيل على التاريخ النقي للجماعة، وفي السائد هو مقيم عنوة. وعلى رغم أن التاريخ يحفل بالعنف، إلى درجة القول بأنه محصلة له، إلا أن عدم وضع العنف في إطاره الزمني يعني قدرته المتجددة، والمأمولة، لإعادة تصحيح ما يُعتقد أنه أخطاء تاريخية. الاحتكام إلى «تصحيح» التاريخ بأدواته القديمة ذاتها لن يتمثّل فقط في مشروع إبادة طويل الأمد، بل أيضاً في الوقوع تحت طائلة التاريخ الذي يُكتب اليوم.

الأمر لا يتعلق بالأرض فحسب، فالصراع الشيعي – السني المفتوح قائم أيضاً على قاعدة الحق التاريخي، وإذا أمكن مستقبلاً تسوية الصراعات الدموية الخاصة بالجغرافيا فالقصاص التاريخي هنا لا يتحقق إلا بالغلبة التامة، المترافقة على الأرجح بترانسفير غير مسبوق. تصحيح التاريخ في هذه الحالة يقتفي أمثولة الوعد الإلهي، مع تجريد الأخير من حيزه الجغرافي، فالثأر موجّه إلى البشر بصفتهم مغتصبي حق «مقدّس» لا مغتصبي أرض، والتكفير المتبادل لا يعني في العرف السائد سوى محو الآخر كلياً بحيث لا ينجو سوى بالانتساب إلى الجماعة الغالبة على النحو الذي حدث في الماضي.

ولا نعدم في غمرة هذه الصراعات جميعاً من يشير إلى مصلحة إسرائيلية في تأجيجها، أو إلى انحياز إسرائيلي مزعوم هنا أو هناك، بحيث تحتفظ بمكانتها في ما يُظن أنه مخيال مشترك راسخ. بينما تتغاضى غالبية المنخرطين في الصراع عن إسرائيليتها المتعينة بمقولة الحق التاريخي، فوفق ذلك المخيال لا بد لإسرائيل من أن تبقى خارجية دائماً، حتى مع تغلغل أسس تكوينها في المحيط الجغرافي كله، وحتى مع انكشاف المخيال عن مدى تمثيله لأصحابه وهو يبني صورة العدو.

بل سيأخذ التاريخ مداه مشرقياً، فمثلاً يستقر وصف بوتين بالقيصر ووصف أردوغان بالسلطان، في كتابات يُفترض ألا تفتقر إلى الرصانة، لكنها تفصح عن الميل العام إلى التاريخ واعتباره الفاعل الأقوى. إن نحو مئة عام من انخراط الغرب في المنطقة ستكون فترة خارجة عن سياقها الطبيعي، وهي تحديداً الفترة التي رُسمت فيها حدود الكيانات السياسية الحالية، ولا ننسى أن الغرب هُجي بلا هوادة طوال قرن، ليُستأنَف التاريخ أخيراً مع انكفائه.

بالمقارنة، تبقى الأفضلية الإسرائيلية نابعة من وضوح الأهداف السياسية وحسن إدارتها، بخلاف الإسرائيليات الأخرى المتفجرة حديثاً، والتي لا تملك مشروعاً سياسياً، أو قدرة على تنفيذه. وسواء تعلق الأمر بالأقليات أو الأكثريات، لن نجد ما يتعدى الرغبة في الثأر، مشفوعة بالإصرار على النأي عن أي مشترك تُبنى عليه التسويات السياسية، حتى إذا كان المشترك هو الخسارة الفادحة للجميع. لعل هذا ما يؤكد غربية إسرائيل، قياساً إلى مشرقية تقتفي أثرها لكنها تظهر كطائر بجناح وحيد، ولا يكف أصحابها علناً أو ضمناً عن توسل دعم الغرب المتهم باصطناع إسرائيل الأولى.

ماذا لو سُحِب «الحق التاريخي» نهائياً من التداول السياسي في المنطقة؟ ما الذي يبقى من كل ما هو مطروح الآن بقوة؟ ربما تدلنا الحصيلة المفترضة على بؤس ما نحن فيه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى