صفحات سوريةهوشنك أوسي

نحن محظوظون وكذلك أولادنا وأحفادنا


هوشنك أوسي

فتحتُ عينيَّ على وطنٍ، لا يعترف بيَّ مواطناً سوريّاً، بل ‘أجنبيّاً’ مجرّداً من الجنسيّة، ومن كل حقوقي المدنيّة والإنسانيّة، ناهيكم عن الحقوق القوميّة والثقافيّة. ولدتُ في وطنٍ، وهويّتي القوميّة والثقافيّة في مرمى القتل والصهر والتعريب والإنكار والتصفية. ورويداً تفتّقت مداركي على وطنٍ هو غير ما عرفناه في أناشيد شاعر البعث والعروبة، سليمان العيسى، التي كان مدرّسونا يلقّنوننا إيّاها. وكان كِتاب القراءة في المنهاج المدرسي، الابتدائي، يدرج هذه الاناشيد، ‘الوطنيّة’، تحت بند ‘المحفوظات’، علينا حفظها عن ظهر قلب، كي ننال عليها الدرجات. وبالفعل، كنا نرددها ونحفظها، عن ظهر قلب، دون ان ندرك فحواها، إلاّ لاحقاً. تفتّقت مداركنا على وطنٍ، هو غير ما كان موجوداً في أناشيد محفوظات، العيسى، بل عرفناه وطناً، في جوهره حظيرة، يسمّى دولة البعث والأسد والاشتراكيّة، يسكنه قطيع يسمّى الشعب الأبيّ المناضل، هم عبيدٌ خانعون أذلاء، يترعرعون في كنف طاغية جلاّد، كان يسمّى القائد المفدّى حافظ الأسد.

كل صباح، كنّا نصطفّ في الطابور المدرسي، كي نردد: ‘أمّةٌ عربيّة واحد.. ذات رسالة خالدة’. أهدافنا: ‘وحدة.. حريّة.. اشتراكيّة’. ‘قائدنا إلى الأبد.. الأمين حافظ الأسد’.. ‘رفيقي الطليعي: كن مستعدّاً للدفاع عن المجتمع العربي الموحّد، والدفاع عنه../ ــ : مستعدٌّ دائماً’. هكذا، حين كنّا اطفالاً، حوّلونا الى ببغاوات، وزجّ بنا، غصباً عنّا وعن إرادتنا وطفولتنا وبراءتنا، في منظمة طلائع البعث التابعة لحزب القائد. وحين بدأت المراهقة تطرق أفئدتنا وخيالنا وأجسادنا الهشّة والهزيلة…، صرنا نردد شعار اتحاد منظمة اتحاد شبيبة الثورة البعثيّة: ‘عهدنا ان نتصدّى للإمبراليّة والصهيونيّة والرجعيّة، وعصابة الاخوان المسلمين العميلة’، دون ان نعرف، ما هذه الاشباح، ‘الامبرياليّة والصهيونيّة والرجعيّة’ التي سنتصدّى لها؟ وأين؟ ومتى؟ وكيف؟ ولماذا؟… ولم نعرف من هم هؤلاء ‘العملاء’ و’العصابة’ و’الاخوان المسلمين’؟. هكذا، لقّنونا أوهاماً وترّهات وأكاذيب وخرافات. ولم ندرك ذلك، إلاّ فيما بعد، حين أيقظتنا الأحزاب الكرديّة على هذه الخرافات، وهذا التنويم المغناطيسي الذي قضينا نصف عمرنا في رحابه.

رويداً، أدركتُ كرديّتي، من خلال الظلم والغبن والانكار الذي لحق بيّ وأقراني وشعبي. وأدركت سوريّتي، من الجور والاستبداد اللاحق بشعبي السوريّ ووطني، الذي غدا سجناً بأقفالٍ على العقول والأفئدة والألسن والخيالات والأحلام…، والهويّات، قبل ان تكون أقفالاً على الأبواب والنوافذ. ونال منّاً اليأس والقنوط واستمراء الاستبداد والفساد والافساد، حتّى صرنا قطعاناً من أشباه بشر، وبات الوطن مرعى، وغدا الطاغيةُ، الراعي، الحكيم، المناضل والقائد الأبدي. ومضى من عمرنا، من عمري 35 سنة، ونحن أشباه احياء، وأشباه اموات، على هذه الحال، في وطنٍ أسماء الحدائق، المستشفيات، الشوارع، الجسور، المتنزّهات، الجامعات، المدارس، المعاهد، الملاعب الرياضيّة، المسارح، المكاتب، دور السينما…، وغيرها، بأسم حافظ الاسد، وباسل الأسد. قضيّت 35 سنة من عمري، محاصراً بصور الزعيم، في كل مكان، حتى على الأوراق النقديّة. قضيّت نصف عمري، وأنا أبصق في سرّي، على صورة الأسد، التي كنّا مكرهين على رؤيتها في كل مكان، حتّى في منازلنا، وعبر التلفزة والصحف.

والحال هذه، حاولنا ان نقاوم الموت الذي يحاصرنا، والخوف الذي يجتاحنا، بالكلام، بالكتابة، بالاحلام، بالأفكار…، كي نحافظ على المتبقّي من الإنسان فينا. لكنّ الطاغية ومنظومته، ضيّقت علينا كلامنا وأحلامنها وخيالنا، فما كان بنا إلاّ الهرب من ظلم الوطن الموبوء بالاستبداد والفساد، لئلا نُحشرَ في عداد نزلاء الأقبية، ويَفقد الكلام المتبقّيَ من بصيصِ أمله فينا.

والآن، ألا يحقُّ لنا ان نفتخر؟. ذلك اننا فتحنا أعيننا على صور وأصوات وخطابات الطواغيت، ولن نغمضها عليها. لن يتوّلى التراب جثثنا، ولا زال الرعب والخوف من الطواغيت يسكنها. لن نكون نزلاء الأجداث، ولا زال يفسد في الوطن طاغية. لن نموت أسرى الحسرة والتوق الحارق المرير للوطن، ولا زال سجناً يورِّثه الطاغية _ السجّان، الجلاّد، لنجله وحفيده، وحفيدِ حفيده.

من قال، إننا لسنا محظوظين، كوننا صرنا شهود عيانٍ على اندلاعِ ثوارتٍ أطاحت بديناصورات الاستبداد والفساد، في تونس، مصر، ليبيا، وقريباً في سورية واليمن. نحن فخورون، لأن ‘دهـــاء التاريخ ومكره’ صادف أعمارنا. فخورون لأننا رأينا الخوف والرعب يتدفقان من أعين ومحيّا الطغاة وأزلامهم، وأزلامَ أزلامهم. ولا يتأتّى هذا الفخر، من نزعـــة الانتــقام والتشفّي، بقدر ما يتأتّى من شعور المظلوم برحيل ظالمه، وانزياح الكوابيس من على صدر المظلوم. نحن فخورون لأن الــــتاريخ، قال كلمته، ولو متأخّراً: ‘من دخلني بالدم، وعلى اجساد أبناء شـــعبه، سيخرج منّي بالدم، وعلى أجساد حاشيته’. نحن فخورون أن التاريخ، وبعد سقوط الطاغيّة صدّام حسين، عاد ليلقي على الشرق دروسه، في تونس ومصر وليبيا، ولكنّ، من قال: إن الطغاة، أصحابُ بصيرةٍ وينصتون؟.

نحن فخورون، وكذا أولادنا واحفادنا، لكونهم تأكّدوا بأنه لن يحكمهم أولاد وأحفاد بن علي ومبارك والقذّافي والأسد.

نحن محظوظون وفخورون، وكذا اولادنا واحفادنا، لأن التاريخ أكّد لنا بأن الشعار الذي رددناه في سورية، ونحن صغار، لن يتحقق، ولن يكون قائدنا الى الأبد… ‘الأمين’، من آل الأسد.

نحن فخورون لأن المتــــظاهرين في ســـورية، صــاروا يواجهون الرصاص بصـــدورهم، وأيديهم ترفع لافتة كتب عليها: ‘بن علي هرب، ومبارك سجن، والقذافي قتل، والأسد..؟’. هكذا، تتجاســــر الشعوب على طواغيتها، أفلا يحقُّ لنا ان نفتخر ونفرح، لأننا شهدنا هذا اليوم؟.

‘ كاتب كردي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى