صفحات الثقافة

نصوص – عماد ندّاف، دارين أحمد، دانا العقباني، شيرين عبد العزيز

 

قف (عماد ندّاف)

أيها السوري، قف أمام المرآة. قف بصدق. فإذا شعرتَ أنك مريض بالطائفية، وإذا شعرتَ أن الطائفية تنخر جسدك، هزَّ برأسكَ معاتباً نفسكَ، وافعل ما يفعل السوري الحقيقي في هذه الحال: ابصق على المرآة لتنظف.

* * *

الضحية

أيقظني الانفجار. كان الكلام الحلو قد نوّمني كمغناطيس. نهضتُ كما ينهض الميت من قبر مفتوح، والتفتُّ حولي: كان ثمة دخان تحرقه النار، وقطط تموء مقطّعة الأرجل. كان هناك أشلاء أزهار صبغها لون واحد، وكان هناك صوت قهقهة من جثة مفضوحة. سمعتُ صوت توجّع العصافير، وبكاء نسوة قريبات. على الرصيف شاهدتُ جثتي مرمية بلا يد تكتب، وبلا عين تقرأ، وبلا قدمين تعبران شوارع الوهم إلى المحبة.

* * *

حرب أهلية

اتركني! لم أعد أحبّكَ. ما تفعله لا يعنيني. أنتَ بعتَ حبّي للشيطان. بعتَ كل شيء بيننا. بعتَ حتى الأشياء الصغيرة التي تجمعنا. أتذكر؟ أتذكر كيف أخذتَ من جديلتي شعرةً طويلة وزرعتَها في تراب الحديقة؟ كم بكيت يومها! قلت لي: سينبت شعركِ حبّاً في هذه الأرض؟!

اليوم، كيف تخلع تلك الشعرة الطويلة، وتعلن موسم الكراهية؟

اتركني!

* * *

طارتْ. تْ. تْ

الطاولة مدوّرة. كل الكراسي كانت مريحة. كانت هناك زجاجات ماء وصودا ومآخذ صوت. جلس كلّ واحد على كرسي. كان كلٌّ منهم يرتدي ربطة عنق. وُضعت الملفات على الطاولة. أمام كلّ شخص كان هناك ملف. ابتدأ الحديث: تعالت الأصوات. لم تعد الطاولة مدوّرة. لم تعد الكراسي مريحة. فكّت ربطات العنق. أهرق الماء والصودا على الطاولة. طارت الملفات. طارتْ. طارتْ. تْ. تْ!

* * *

مذبحة

كان الوقت ليلاً، والأطفال يحلمون بطابة ومنفوش السكر المعروف بغزل البنات، وكانت الصبايا يحلمن برسائل تأتيهن من تحت الباب، وكانت الأمهات يدعين الله أن يعود الشباب سالمين إلى القرى. شقّ الصمت والعتمة صوتُ رصاص متقطع. كان يزداد أحياناً ويتراجع أحياناً أخرى. تعالى صراخ من كل الجهات، اختلط الصراخ مع الولاويل، ثم غاب الصراخ، وتراجعت الولاويل، وبقيت أصوات حشرجة لأشخاص لم يموتوا بعد! الشاهد لم يصدّق. جنّ، وقال: هذه لعبة “بلايستيشن” أميركية!

* * *

الندى الذي رأيته (دارين أحمد)

وأنتَ تفقد سلالاتكَ كما يفقد الربيع لونه، تصفّحْ وجهَ الحُرِّ فيك.

قبِّلْه على خدّه الغائر. وامسحْ عرقكَ عن جبينه. احضنْه فقد مشى حين استرحتَ. وحين نمتَ كان صانع الأحلام؛ الندى الذي رأيته اليوم، هو دمعُه، وهو الطريق الذي أوصلك. الصدى بينكما قرعٌ خافتٌ للخوف، والصراخ سمٌّ لا أفعى له. أغرزْ نابيكَ في صدره، يشتاق كلّ ظلٍّ فيه إليك. لوِّحْ ذراعيكَ كمسيحٍ ضاحك. نجوتَ، وهذا الحُرُّ صُلِب.

* * *

الكلمات تتسلق يدي. أنا الخشبة الجافة في حيِّز الوردة الضيِّق. فيَّ تنخفض السماء قليلاً، حتى يلامس القمر وجه اللغة الميت ويتنفس العالم. الكلمات ذوات الأصابع الصغيرة، الكلمات ذوات العقد، التجاعيد، الكلمات المبتورة الدامية، الكلمات المتوحشة بأظفارها تحزُّ جلدي في سيل العالم الحيّ. فيَّ يرتفع السهل قليلاً، حتى يسقط الدمع من عيون الموتى في قبورهم. على وجهها يحدق عاليًا في قبة الصمت المظلمة.

* * *

وعد (دانا العقباني)

ستكون بدايةَ النبضِ الجديد، تكويرةَ الحلم. ستكون القبلةَ الأزلية التي لن تمحى. ستكون روحي قبل جسدي. فأنا أحببتكَ منذ طفولتي، وعندها لم يكن لي نهدان.

لن أكون يوماً قصيدتكَ المفضلة، أو بجعتكَ المفضلة في البحيرة. سأكون الصقيع الممدد في غرفتكَ المظلمة بعد أن يعبث الشوق بالتفاصيل. أعدكَ بهذا.

* * *

بطل (شيرين عبد العزيز)

لا غرامة على البدء من نقطة النهاية. حتّى البدايات لا بدايةَ لها. هي لا تُخلِّفُ سوى الدخان. تناوُلُها أشبه بتناول ورقةٍ من نباتٍ مخدّر لا يطلق سوى الأوهام.

لا غرابة في الشتم، إن كان الفاعل شاعراً أو إلهاً شاعراً. التراب لا يخلّف سوى التراب، ولا مقدّس سوى البحر، منبع الهواجس والخفايا. أما الحنين المغلّف بالموت والشواطئ المغمورة بأعقاب السجائر، فمقاعدها خالية إلا في قصائد الحروب. ففي الحروب تكثر الامطار. ولتعلمْ أنكَ لستَ الوحيد. يكفي أن تنظرَ حولكَ. ورقة شجرة تكفيكَ لتذكّركَ بوجودكَ. انسَ الحطام وبقايا الذكريات. انسَ ملامح الوقت والتاريخ. لوِّحْ بقبعتكَ عارياً، مستهزئاً بعيون المراقبين. تحليقكَ أنتَ، لا يحتاج موافقة أحد. وإن وُجِدَ إلهٌ يسيّركَ، فتبرّأ إذاً من كلّ الآلهة. كنْ حرّاً بما يكفي. وكنْ ساطعاً بما يكفي. لتبدأ من حيث تنتهي. ولتدرك أنّ لا فرق بين بدايةٍ ونهاية إن لم تكن أنتَ بطلَ قصتكَ القصيرة.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى