صفحات العالم

دوائر نفوذ صينية وروسية … انزلاق إلى الكارثة/ روبرت كاغان

 

يقابل تعاظم طموحات ونشاط أكبر قوتين مراجعتين، الصين وروسيا، أفول ثقة العالم الديموقراطي بنفسه وقدراته، وفي الولايات المتحدة على وجه التحديد. ويبدو أن أميركا تتردد في الحفاظ على موقعها المهيمن في النظام العالمي منذ 1945. ومع تقاطع انحسار رغبة الولايات المتحدة وحلفائها في الحفاظ على النظام العالمي مع تعاظم رغبة القوى الرجعية في تغييره (النظام هذا)، سنبلغ لحظة ينهار فيها النظام الدولي وينزلق فيها العالم الى عنف منفلت من كل عقال، على نحو ما حصل 3 مرات في القرنين الماضيين. وكلفة الانزلاق هذا، البشرية والمادية، وفي مقياس خسارة الحريات وتبدد الأمل، عظيمة ومزلزلة.

ويميل الأميركيون الى اعتبار أن استقرار النظام الدولي راسخ وثابت، على رغم شكواهم من الأثقال الملقاة على كاهل بلادهم للحفاظ عليه. والتاريخ شاهد على انهيار الأنظمة الدولية، وغالباً ما يكون الانهيار السريع والعنيف مباغتاً. وكانت نهاية القرن الثامن عشر ذروة التنوير في أوروبا، الى أن هوت القارة الى هاوية الحروب النابوليونية. وفي العقد الأول من القرن العشرين، توقع أذكى المراقبين نهاية النزاعات بين القوى العظمى على وقع ثورات الاتصالات ومساهمة وسائل النقل في الربط ما بين الاقتصادات وتقريبها ما بين الناس. فاندلعت أكثر الحروب دماراً في التاريخ بعد 4 سنوات. وهدوء ما بعد الحرب في عشرينات القرن المنصرم تبعه عقد الثلاثينات المثقل بأعباء أزمة اقتصادية كبرى، ثم حرب عالمية أخرى. ولكن أين نحن اليوم من هذا السيناريو الكلاسيكي، وكم نحن على مقربة من المنعطف؟ وتتعذر الإجابة عن السؤال هذا؟ ولكن لا شك في أن العالم يسير على درب الكارثة.

وتشير مؤشرات أولية الى أن الإدارة الجديدة في عهد دونالد ترامب ستسرع وتيرة الانزلاق الى الأزمة أكثر مما ستكبحها. فممالأة روسيا تشجع فلادمير بوتين وتعضده، والنبرة الحازمة مع الصين ستحمل بكين، على الأغلب، على امتحان عزم الإدارة الجديدة عسكرياً. ويبدو أن الرئيس لم يحتسب، الى اليوم ما يترتب على خطابه وأعماله.

والصين وروسيا قوتان مراجعتان تقليديتان. وعلى رغم أنهما لم تعرفا يوماً مرحلة لم تهدد فيها قوى خارجية أمنهما مثلما هي الحال اليوم، تطعن كل منهما في توزيع القوى الدولي. وتسعى كلتاهما الى العودة الى الهيمنة في مناطق نفوذهما التقليدية، وهذا يقتضي: هيمنة الصين على شرق آسيا وصدوع اليابان وكوريا الجنوبية ودول جنوب شرق آسيا بإرادة بكين ومماشاة مصالح الصين الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية؛ وهيمنة روسيا على وسط أوروبا وشرقها ووسط آسيا. وترى كل من بكين وموسكو أن ضيماً لحق بهما في توزيع القوة والنفوذ والمكانة في النظام العالمي ما بعد الحرب الثانية على رأسه أميركا. والنظامان الصيني والروسي مستبدان، ويشعران بأن القوى الديموقراطية المهيمنة على النظام الدولي والديموقراطيات على حدودهما تهدد نظامهما، ويُجمعان على أن الولايات المتحدة هي حجر عثرة يعوق طموحهما.

والى وقت قريب، حال تماسك النظام الدولي والقوة التي تصونه وتحميه، أميركا، دون بلوغ روسيا والصين طموحاتهما. وقيد النظام هذه الطموحات بقيود إيجابية وسلبية. فاستفادت بكين وموسكو من النظام الاقتصادي الدولي المشرع، ولم تتحدياه أو تنقلبا عليه. ولكن الأوجه السياسية والاستراتيجية من النظام هذا، خالفت مصالحهما. فازدهار الحكومات الديموقراطية في العقدين التاليين على انهيار الاتحاد السوفياتي، هدد قدرة بكين وموسكو على التماسك. ومنذ نهاية الحرب الباردة، رأى كل منهما في تقدم المؤسسات الديموقراطية- وتحديداً تمدد الأنظمة الليبرالية الديموقراطية في جوارهما- خطراً وجودياً. فمثل هذه الأنظمة (الروسية والصينية) يخشى عدوى الليبرالية، وتمدد الديموقراطية الى حدوده، وسيولة المعلومات الخارجة على طوق رقابته، والرابط الخطير بين الأسواق الرأسمالية الحرة والحريات السياسية. ولكن في السنوات الأخيرة، اهتزت أركان النظام الدولي. فالنظام الديموقراطي أصابه الوهن، وتشقق على وقع أحوال اقتصادية سيئة، وانبعاث القومية والقبلية، وبروز قيادات سياسية ضعيفة ومترددة وأحزاب رئيسية مصابة بالشلل تقف موقف المتفرج، وعصر جديد من الاتصالات بدا أنه يرجح القبلية عوض إضعافها. وهذه العوامل نفخت في أزمة ثقة في الأنظمة الديموقراطية وطعنت في المشروع الليبرالي التنويري نفسه الذي يُعلي مكانة عالية حقوق الأفراد والمصلحة البشرية العامة، ويرجح كفتها على كفة الاختلاف العرقي والديني والقومي والقبلي. وفي العقد الأخير، برزت المشاعر القبلية والقومية، وغلب الانشغال بخطر «الآخر» في المجتمعات كلها، وضمرت الثقة في الحكومات والنظام الرأسمالي والديموقراطي. ولكن التاريخ، على خلاف ما توقع فرنسيس فوكوياما، يعود الى عهده بأكثر جوانب النفس البشرية قتامة، ومنها التوق الى قائد قوي يرشد الناس في أوقات الارتباك. ويعصى على الجيل المولود إثر طي الحرب الباردة فهم البنى السياسية والاقتصادية الأمنية الموروثة من ما بعد الحرب الثانية. وأبناؤه لا يطلعون على ظروف إرسائها في الثانويات ولا كتب التاريخ في الجامعات المهووسة بتسليط الضوء على شرور وحماقة «الإمبريالية» الأميركية. وصارت أزمات النصف الأول من القرن العشرين وحلولها في 1945، منسية. ولذا، ينفد صبر الأميركيين من أثمان ومصاعب أداء بلادهم دوراً ريادياً عالمياً. ولم تخلف الحرب الكورية في 1950 وحرب فيتنام في الستينات والسبعينات- وهما حربان فاشلتان- وأزمات اقتصادية سابقة، مثل أزمة الطاقة والنفط في منتصف السبعينات، موقفاً سلبياً من الدور الأميركي الدولي، ولم تؤلبهم هذه الحوادث عليه، على خلاف ما حصل إثر حربي العراق وأفغانستان الفاشلتين وأزمة 2008 المالية. وانتهج اوباما مقاربة ملتبسة من دور أميركا الدولي، ولكن نواة استراتيجيته كانت التقوقع والانسحاب وتقليص الدور هذا. فإدارة اوباما عالجت إخفاقات إدارة جورج دبليو بوش في العراق وأفغانستان من طريق تقليص القوة الأميركية ونفوذها عوض شد عودهما وتقويتهما. ودار كلام الإدارة السابقة على الاستدارة الأميركية الى آسيا والهادئ وإعادة تموضع السياسة الخارجية الأميركية، ولم يترتب على الكلام هذا غير تقليص الالتزامات الدولية الشاملة ومسايرة القوى الرجعية على حساب أمن الحلفاء.

ووجه سعي الإدارة الأميركية المبكر الى «إعادة إطلاق» (reset) العلاقات مع روسيا الضربة الأولى الى صدقية دورها مع الحلفاء. فعملية «إعادة الإطلاق» جاءت بعد الاجتياح الروسي جورجيا، وبدت كأنها مكافأة للعدوان الروسي، في وقت تخلت واشنطن عن برامج المساعدة العسكرية في بولندا وتشيخيا، وكانت سياسة بوتين القمعية في الداخل الروسي تتفاقم. ولم تحمل «إعادة الإطلاق» بوتين على سياسات أفضل، بل غذت ميوله العدوانية. وفي 2014، على رغم أن الرد الغربي على قضم القرم واجتياح اوكرانيا كان أقوى من رد إدارة بوش الهزيل على اجتياح جورجيا، أظهر اكتفاء واشنطن بالعقوبات على موسكو ترددها في إعادة روسيا الى دائرة نفوذها السابقة. وأقر أوباما بمكانة روسيا في أوكرانيا، في وقت كانت بلاده وأوروبا تسعيان الى حماية السيادة الأوكرانية. وفي سورية، كان وقوف إدارة اوباما موقف المتفرج في مثابة دعوة علنية الى روسيا بالتدخل، وعزز موقفها هذا الانطباع بأن نفوذها يتقهقر في الشرق الأوسط (وهو انطباع برز إثر سحب كامل القوات الأميركية من العراق، وهو انسحاب يفتقر الى الحكمة وغير مسوغ). ولم ترد واشنطن على أعمال روسيا التي رفعت دفق اللاجئين من سورية الى أوروبا، على رغم أن موجات اللاجئين قوضت ديموقراطية المؤسسات الأوروبية. وكأن لسان حال إدارة اوباما: «هذا ليس من شأن أميركا». وتبين أن «الاستدارة» الى آسيا والهادئ اقتصرت على الخطابة فحسب من غير خطوات فعلية. واستبعد الإنفاق الدفاعي وسائل تعزيز مرابطة أميركا الإقليمية في المنطقة، وتركت إدارة اوباما حلقة اقتصادية حيوية من «الاستدارة»، أي «اتفاق التجارة العابرة للهادئ»، الى مصيرها في الكونغرس، وسقط الاتفاق ضحية معارضة الحزب الديموقراطي. ولم يغفل العالم ما يترتب على الانسحاب المبكر والمكلف استراتيجياً من العراق واتفاق تسوية برنامج إيران النووي، وعدم التزام اللجوء الى القوة ضد الرئيس السوري (رداً على انتهاك محظور دولي وأميركي، أي الهجوم الكيماوي).

وثمة مقولة أو أسطورة ذائعة الصيت في الديموقراطيات الليبرالية مفادها بأن النزول على مطالب القوى الرجعية ينزع فتيل الحرب. وتسوغ المقولة الانسحاب الأميركي من العالم، وتزعم أنه يقلص التوتر والتنافس. ولكن مع الأسف، كلما اطمأنت القوى الرجعية، زاد طموحها وسعيها الى تغيير النظام وترجيح كفتها فيه في غياب ما يردعها. ويبدو أن أكبر قوتين رجعيتين تتوسلان وسائل متباينة لبلوغ الأهداف. فالصين أكثر حذراً وصبراً من روسيا، وتسعى الى بسط نفوذها من طريق زيادة دالتها الاقتصادية وتعظيم قوتها العسكرية لردع الخصوم وبث الرعب في دول الجوار الإقليمي، ولم تلجأ بعد الى القوة في بحر الصين الجنوبي، على رغم إقدامها على خطوات عسكرية الطابع تشي باستراتيجية يعتد بها. وعلى خلاف بكين، انتهجت موسكو، وهي أضعف من الأولى، نهجاً أكثر عدائية في جورجيا في 2008 وأوكرانيا في 2014، وأرسلت قواتها الى سورية، وتتوسل بهيمنتها على سوق الطاقة الأوروبية سلاحاً في جبه الاتحاد الأوروبي. وهي استلت السلاح السيبرنيطيقي في حربها على دول الجوار، وشنت حرب معلومات دولية. وبلغت موسكو هدفها: تشتيت صفوف الغرب وعرقلة دوران عجلته. فتدخلت في الأنظمة السياسية الديموقراطية، وشنت حرباً اخبارية ومعلوماتية، وساهمت في «خلق» موجة اللاجئين من سورية الى أوروبا. فقوضت ثقة الأوروبيين بأنظمتهم السياسية والأحزاب السياسية. وتشير مؤشرات الى سعي دول آسيوية الى ابرام اتفاقات تجارية إقليمية في معزل من الولايات المتحدة مع الصين، وتتقرب الفيليبين منها، في وقت تتقرب أكثر فأكثر دول في شرق أوروبا ووسطها من روسيا، استراتيجياً وأيديولوجياً. وقد تشن القوتان الرجعيتان في القريب العاجل عمليات عدوانية وعسكرية، وتهددان الأمنَين الأميركي والدولي في آسيا وأوروبا في آن.

وتضييق تعريف مدار المصالح الأميركية، وهذا ما يفعله ترامب وقبله أوباما والمرشح الديموقراطي بيرني ساندرز، يساهم في تسريع الانزلاق الى الاضطرابات والنزاعات كما كانت الحال في سالف الزمن. وفي مثل هذه الأوقات العصيبة، يحسب كثر أن التنافس الجغرافي – السياسي يذلل من طريق التعاون والتسويات. وما اقترحه أخيراً نيال فرغسون، أي عالماً تتشارك أميركا وروسيا والصين في توجيه دفته، لا يحمل جديداً. ومثل هذه السيادة المشتركة سبق أن اقترح كلما سعت القوة الرائدة في النظام الدولي الى جبه تحديات القوى الرجعية. ولكن عجلة هذه الاقتراحات لم تدر. فالقوى الرجعية لا ترضى بأقل من الاستسلام. ودوائر نفوذها مهما اتسعت تبقى قاصرة ولا توافق مشاعر الفخر والحاجة الى الأمن.

* باحث في «بروكينغز إينستيتوشن»، صاحب «عالم صنعته أميركا»، عن «فورين بوليسي» الأميركية، 6/2/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى