صفحات الناسعماد مفرح مصطفى

هل من «حرب كردية ـ عربية» في سوريا؟/ عماد مفرح مصطفى

تنذر المواجهات المسلحة المستمرة بين «قوات الحماية الشعبية»، المحسوبة على «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي، والكتائب الإسلامية المتطرفة، والتي شهدت بلدة تل براك أحد فصولها قبل فترة، بتحول منحى الصراع من مرتبة الاختلاف السياسي إلى التناحر الأهلي.

صراع يغذيه «الوعي النمطي» المكتنف في جنبات العلاقة العربية ـ الكردية، والنزوع الأيديولوجي العنيف لكل طرف في تكريس مشروعه على الأرض، واستغلال الحالة السورية وفق توجهاته العقائدية، عبر تسخير كل التناقضات الأهلية من أجل معركته الحزبية والميليشياوية.

وإذ تتباين الأسباب المضمرة من وراء تلك المواجهات، من طبيعة الحالة الكردية وتداخلاتها الإقليمية، مروراً بالفقر السياسي والاقتصادي، وما خلفه حكم البعث من «عطالة سياسية» أججت الهواجس المجتمعية، فإن الطبيعة العشائرية للمنطقة، وازدياد عدد الضحايا خلال المواجهات، تضع سمت العلاقة العربية – الكردية في مهب النزاعات المستقبلية المحتملة، مع ظهور مقدمات اجتماعية وخطابات عنصرية متشنجة، وتهويل كل طرف لمشروع الطرف الآخر، وغياب المشروع الوطني القادر على احتواء جميع الأطراف.

والحال، إن طرفي الصراع، الطامحان إلى حكم الجزيرة السورية، ذات الموارد النفطية والزراعية الكبيرة، يستثمران في مخاوف قاعدتيهما الشعبية، ففي حين يستثمر «حزب الاتحاد»، ذو الأيديولوجية القومية، في الذهنية الكردية المنفعلة وشعورهم القومي ومظلوميتهم التاريخية، تستثمر الكتائب الإسلامية في المخاوف العربية حول «الانفصالية» الكردية، بعد استغلال شعورهم الديني ورموزهم المقدسة.

هذا التنافر الأيديولوجي بين المشروعين «القومي الكردي» و»الديني العربي» في الجزيرة السورية، مع اختلاف المصالح والمرجعيات، يزيد من حدة الصراع وتوتره، ذلك أن حزب الاتحاد ينتهج رؤية «حزب العمال الكردستاني»، صاحب التوجهات القومية الكردية والأسس الماركسية، رغبة في الحصول على ما يشبه الحكم الذاتي لكرد تركيا، ولا يضرّه تحويل كرد سوريا إلى منصة عبور وورقة ضغط، للوصول إلى تلك الأهداف. كذلك فإن الكتائب الإسلامية المتطرفة، لا تخفي تبنيها لمشروع دولة الخلافة، وانتهاج التفسيرات المتطرفة لأصول الحكم الإسلامي، مع انخراطها في تمرير أجندات إقليمية، لمواجهة واحتواء النفوذ الكردي المتنامي في المنطقة.

غير أن الخطر الكامن في تلك المشاريع، يأتي من مضامينها العابرة للحدود والكيانية السورية، وتبرير استخدام العنف، «كفعل ثوروي»، ضد الآخر المختلف في الثقافة والرأي السياسي، من أجل بناء مجتمع أيديولوجي منغلق، يزيد من مستوى الارتياب في المنطقة. فالقوى الإسلامية تخشى من أن تكون المشاريع الكردية هي الخطوة الأولى على طريق التغيرات الجيوسياسية العميقة في المنطقة، وعلى حساب الدول والمجتمعات الإسلامية. مثلما تعتري «القوى الكردية» شكوك جدية حول قدرة الحركات الإسلامية، مستقبلاً في دخول عملية سياسية وديموقراطية. يضاف إلى ذلك، أن كرد سوريا لا يجدون أنفسهم في أي مشروع سياسي ديني، فهم تقليدياً من أقل الشرائح السورية ارتباطاً بالأيديولوجية الدينية، وذلك لاعتبارات تاريخية وسياسية، نتجت عن الدور السلبي للدين ورجالاته، في الوقوف في وجه الطموحات القومية الكردية، إلى جانب تعاطي البعض من الكرد، مع الإسلام على أنه الحامل والحامي الأمين لعروبة «البعث» وإجراءاته الاستثنائية ضد الكرد.

طبعاً، لا يعني تغليب البعد القومي على الديني لدى كرد سوريا، بأنهم في حالة عداء وصراع مع الإسلام. على العكس، يحتمل ظهور تيارات سياسية إسلامية بين كرد سوريا في المستقبل. فالمتوقع أن تكون الصبغة الإسلامية واضحة على أي حكم مستقبلي في العاصمة المركزية دمشق، والتي بدورها ستؤثر على الأطراف بتوجهاتها السياسية. كما أن الأسباب المبررة للتشدد القومي لدى الكرد، تشهد تحولات معينة، وقد يكون التعبير الديني السياسي أحد أشكاله في المستقبل، في ظل ما شهدته السنوات الأخيرة من انتشار لظاهرة التدين الشعبي في الأوساط الكردية السورية. وقد بدا ذلك واضحاً في بروز شخصية الشيخ الشهيد «محمد معشوق الخزنوي» خلال سنوات 2004 ـ 2005، الذي حظي بمكانة مميزة في الأوساط الشعبية الكردية، بأفكاره الإسلامية المتنورة، والقائمة على «الرابطة الأخوية المتكاملة»، والتي يمكن اعتبارها الحالة الكردية الوحيدة المصنفة ضمن الإسلام السياسي في سوريا.

صحيح أن الإسلام يلعب دوراً عضوياً وفاعلاً على صعيد الحالتين الشعبية والاجتماعية، ويشغل حيزاً مهماً من الفضاء الكردي العام، وصحيح أن الإسلام بصيغته الشمولية يتوافق مع بنية المجتمع الكردي ووعيه، رغم ادعاء البعض بمزاجيته اليسارية. لكن الصحيح أيضاً، أن إشكالية العلاقة بين تيارات الإسلام السياسي والتيارات القومية الكردية، بدأت تتفاقم في ضوء اختلاف المرجعيات والمشاريع المطروحة، ومحاولة كل طرف ابتلاع الآخر، والاستيلاء على حيزه الحيوي، خصوصاً أن الايديولوجيتين في تصاعد مستمر، القومية الكردية واستحقاقاتها، والأيديولوجية الإسلامية وتصورتها، بعد تصدرها الصراعات الإقليمية والمحلية.

الحقيقة، أن مركزية الإسلام في الوجدان السوري، رغم التعددية القومية والمذهبية، تجعل آلية الحفاظ على الوطنية السورية ومحدداتها، من مسؤولية الإسلاميين، ما يفرض عليهم إيجاد السبل الكفيلة بإعادة بوصلة الثورة السورية باتجاه قيم الحرية والكرامة، واحترام حقوق الإنسان، التي أجمع عليها السوريون، ونادت بها الثورة منذ بداياتها.

مهما يكن، فإن قيم الثقافة الواحدة التي تجمع الكرد والعرب، والإسلام أحد مرتكزاتها، لا تجعل منهما طرفي صراع على المستويين الشعبي والأهلي، بل تجعل منهما فضاءات متكاملة ومتفاعلة. لذا، من المستحسن استمرارية التواصل، وتحييد عوامل الصراع من العنصرية القومية، والعنف والانتقام الاجتماعي. فالأزمة السورية المستعصية تستوجب الانفتاح السياسي والايديولوجي لجميع الأطراف على بعضها البعض، بغية الوصول إلى مستقبل أفضل لسوريا ومجتمعها المتعدد والمتنوع.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى