صفحات الرأي

مواجهة الإرهاب بين الصحافة العربية والغربية/ أحمد عبد اللطيف

 

 

ثمة فروقات جلية في تناول الأحداث الإرهابية بين الصحف العربية والصحف الغربية. ليس في نشر الخبر أو التقرير الصحافي فحسب، بل قي المقالات التي تسعى لقراءتها وتحليلها، وعادًة ما تكون مقالات لمثقفين، سواء من الأدباء ذوي الشهرة أو من المتخصصين في العلوم السياسية. ولو اتخذنا حادثة برشلونة الإرهابية الأخيرة نموذجًا ومقارنتها بأحداث إرهابية جرت في مصر سيتجلى وعي الصحافة في كلا البلدين ودور المثقفين في كل منهما في انتقاد الإرهاب مع التحليل لأسبابه وانتقاد الذات والتحذير من العنف المضاد، من ناحية، أو تأجيج المشاعر وإلقاء مزيد من الحطب إلى النار والتخلي عن العقل من ناحية أخرى.

ترفع الصحافة المصرية، كحالة للدراسة، شعار “الحرب ضد الإرهاب”، وهو شعار رفعته السلطة منذ 3 يوليو/تموز 2013 وتبنته الصحف للإيهام بأن المعركة الوحيدة التي يخوضها البلد هي “الإرهاب”. وسواء كانت الصحف قومية أو خاصة (يصعب استخدام وصف “مستقلة” حتى لو لم تكن صحفًا مملوكة للدولة، إذ الاستقلال يعني سياسات تحريرية غير موجهة وغير خاضعة للتدخلات الأمنية) فما يجمع بينهما السرعة في إطلاق الأحكام بمجرد وقوع حادثة ووصفها بأنها “إرهابية” بل وتحديد الجماعة التي ارتكبتها قبل الشروع حتى في التحقيقات. سيحدث ذلك بتكرار في حالة اغتيال شخصية عامة (النائب العام مثلًا) أو تفجير كنيسة، أو حتى حادثة قطار لابد أن جماعة ما هي التي دبرتها. وتعتمد التقارير الصحافية التالية للأخبار على مجموعة من الخبراء الاستراتيجيين والأمنيين الموتورين الذين يقومون، إعلاميًا، بدور النيابة والقاضي في ذات الوقت. سيلائم هذا النوع من الهيستيريا التعتيم المطلق على سيناء، حيث تقذف قرى كاملة تندس فيها الجماعة الإرهابية وسط المدنيين، فلا تعرف أبدًا، كمتلق، القتلى الإرهابيين من المدنيين الأبرياء، إذ ترفض السلطات أي تغطية إعلامية أو صحافية في المنطقة المتأججة. سنلاحظ أثناء ذلك أن الصحافة لا تقوم بدورها في خدمة المواطن بإطلاعه على الحدث، بل تعمل لخدمة السلطة وتتبنى خطابها الهيستيري وتعتمد بياناتها غير الموثوقة (أو على الأقل في محل شك). لا ينفي كل ذلك وجود الإرهاب، لكنه ينفي حرية الحصول على المعلومة ونشرها، ما يمنع بالتالي تحليل هذه المعلومة والرجوع لطبيعة الصراع وتقديم رؤية قد تكون قادرة على مواجهة الأزمة.

التحريض المطلق على العنف

إذا كانت التقارير الصحافية تقوم بهذا الدور استجابة لتوجيهات سلطات عليا، أو لنفترض أنها عن قناعة هيئة التحرير، فمقالات الرأي، إذ يفترض فيها تقديم رؤية ما مخالفة ومختلفة أو تحليل يمكن أن يتجاوز التسرع في نقل الخبر، ليست إلا ترديدًا لنفس التقارير. كل الأصوات المعارضة لسياسة الدولة ستختفي من الصحف المصرية، لتحل محلها أصوات مثقفين ومحللين سياسيين يطالبون بالعنف كوسيلة وحيدة لمواجهة الإرهاب، وبدلًا من البحث عن الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت للإرهاب ستنطلق دعوة “تجديد الخطاب الديني” الذي، رغم الاحتياج إليه وأهميته، سيخول به الأزهر (المؤسسة الدينية الحكومية المناهضة للعقلانية). ما يهمنا في هذا السياق هو التحريض المطلق على العنف من قبل الصحافة وتلقيها لأحكام الإعدام بأريحية وغض البصر عن كم هائل من انتهاكات حقوق الإنسان بالسجون، إذ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” هو الشعار المرافق للحرب على الإرهاب. في صحافة من هذا النوع، سيكون كل مشتبه فيه إرهابيًا، ليس بحسب تحقيقات النيابة وأحكام القضاء، بل بحسب نفس الصحف من دون أن يرجف لهم جفن. أما لو ظهرت صحافة مختلفة بعيدة عن هذا القطيع، مثل موقع “مدى مصر”، فحل السلطة هو الحجب، وهي وسيلة يمكن أن تعكس للمتلقي ما نوعية الأخبار التي ترى السلطة صلاحيتها، والدور البطريركي والوصائي على الموطن.

في المقابل، لا تعمل الصحف الغربية بنفس الطريقة عند معالجة الأحداث الدامية أو العنيفة. في حادثة برشلونة الأخيرة لن تنسب أي جريدة إسبانية الحادث إلى أحد إلا بعد التحقيقات الأولية من النائب العام، لن يظهر خبراء أمنيون في الصحف، بل مسؤولون في وزارة الداخلية يروون ما يعرفونه من دون تخمينات. أعداد القتلى والجرحى هو ما يهم في هذه اللحظة، هو ما يعرفونه. الأخبار تتوالى كل ساعة تقريبًا بمقدار ما تتقدم التحقيقات، الأمر حُسم ببيان أصدرته داعش بعد الحادث بساعات تتبنى فيه العملية الإرهابية. عبر الأخبار والتقارير المتوالية، ستلاحظ مدى المهنية والموضوعية، والدقة في اختيار الألفاظ. الأمر ليس فقط أن الصحافة تعرف ما تقوله وتعطي للموضوعية الأولوية الأولى، بل بالإضافة لذلك هناك قانون يعتبر أي مظهر من مظاهر الإسلاموفوبيا عنصرية، وهي جريمة يعاقب عليها نفس القانون. بالعودة إلى عناوين الصحف في اليوم التالي، لن نجد أي عنوان عن الإسلام الذي دمر أوروبا، أو المسلمين الذين يعيثون في الأرض فسادًا. المسألة واضحة: إرهاربيون ينشرون الرعب في “لا رامبلا”، مقتل 13 وإصابة 120 في الحادث الإرهابي بـ لا رامبلا. اللافت أن كتالونيا، كمقاطعة حكم ذاتي كانت تستعد لاستفتاء انفصالها عن إسبانيا في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، استغلت الحادث (استغلالًا مشروعًا) لتعزز، بحسب الصحف الإسبانية، أسباب الانفصال: فساد الحكومة وتواطؤ الملك في صفقات بيع الأسلحة في سورية. ممثلو الحكومة الكتالونية رفضوا زيارة الملك ورئيس الحكومة، وقاطعوا التأبين الذي حضراه لالتقاط الصور والتأكيد على تبعية كتالونيا لإسبانيا بل والدعوة لإجهاض دعوة الانفصال في هذه اللحظة المفصلية. تعكس الصحف، بكل شفافية، انتقادات الحكومة الكتالونية للحكومة الإسبانية وترد أسباب الحادثة الإرهابية إلى نفس الحكومة.

تدخل كبار الكتاب

في نفس السياق، تظهر مقالات الرأي لكبار الكُتّاب من طراز ماريو بارغس يوسا. وفي الوقت الذي يدين فيه الحادث ويعزي أهالي الضحية، يشير إلى وجود العنف على مدار التاريخ وعدم انتسابه إلى دين بعينه أو فئة بعينها. وبينما يبث كلمات متفائلة عن قرب انتهاء الإرهارب في العالم، كمصير طبيعي للعنف في مواجهة الحضارة، يحذر الحكومة الإسبانية من التخلي عن دولة القانون أو الانقلاب على مبادئ الدولة الديمقراطية الحديثة. يكتب يوسا:

“قد يكون الخطر الأكبر من هذه الجرائم الفظيعة أن يتأثر أفضل ما بالغرب- الديمقراطية، الحرية، الشرعية، المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، احترام الأقليات الدينية والسياسية والجنسية- فيجد الغرب نفسه متخليًا عنها من أجل معركته ضد عدو خفي وخسيس لا يظهر بوجهه بل يسير مقنعًا في المجتمع، وبالطبع يغذي التعسفات الاجتماعية والدينية والعنصرية لدى الجميع، ويجبر الحكومات الديمقراطية، المدفوعة بالخوف والغضب الضاغط إلى التخلي عن مبادئ حقوق الإنسان شيئًا فشيئًا بحثًا عن فاعلية ذلك”.

هذا التذكير بمكتسبات الحضارة الغربية، والتحذير من الوقوع تحت ضغط الغضب والخوف، هو ما يجب أن يقوم به المثقف حين تتاح له مساحة صحافية، إذ الحلول الأمنية التي يقدمها الأمنيون ليست كافية وحدها لحل هذا النوع من الأزمات.

من بين التحليلات الأخرى التي ظهرت مقال للأكاديمي مانويل توريس سوريانو، المتخصص في العلوم السياسية، يرجع فيه الإرهاب الجهادي في إسبانيا لسببين، أحدهما “استعادة الأندلس والانتقام لها” وثانيهما “تدخلات إسبانيا في سورية” (من دون توضيح نوع التدخل). يكتب:

“الفيديوهات التي كانت ترسم حياة يوتوبية في الخلافة الجديدة المشيدة في سورية والعراق ستصير بالنسبة للأجيال المستقبلية دعوة للانتقام من دول، مثل إسبانيا، ساهمت بفاعلية في إفشال الخلافة الجديدة. وبالتالي، ستكون بلدنا تحت التهديد الكبير في العقود المقبلة لسببين جليين: للقضاء في الماضي على الخلافة القرنوسطية وإجهاض تشييد الحلم الجهادي الجديد في الحاضر”.

عن المهاجرين وادماجهم

المقال هنا يربط الماضي بالحاضر للوصول إلى خصوصية إسبانيا في العقلية الجهادية، أو الذرائع التي يتكئ عليها الجهادي. وهو إذ يفعل ذلك لا يلبي لنداء السلطة، لا يتبنى موقفها ولا يبرر لها، إنما يقدم خدمة للمتلقي بتحليل محتمل للأزمة. وهو نوع من التحليل يتسق مع العقلانية والبحث عما وراء الأحداث، وهي الطريقة الأسلم لمعالجة المسألة: الوصول للأسباب لاجتزازها من جذورها. لا تحتاج أوروبا إلى إعادة قراءة التراث العربي الديني، ولا ينتفض الإرهابيون فيها ضد نظم استبدادية، لأن المتابع للعمليات الإرهابية في أوروبا مؤخرًا سيلاحظ أنها عمليات انتقامية، كما يبدو أن الخطاب الداعشي لا يستهدف إلى إقامة ولاية إسلامية في إسبانيا، حتى ولو كانت الأندلس كروما للبعض. وبالإضافة لتجنب أسباب الانتقام، فعلى أوروبا العمل على برامج إدماج تستوعب المهاجرين وأسرهم قد يكون له الأثر الإيجابي في تقليل الشعور بالغربة والإحساس بالانتماء للأرض الجديدة.

وبالإضافة لإتاحة مساحة كتب فيها رئيس الجالية الإسلامية في إسبانيا مقالًا يدعم فيه الحكومة في تصديها للإرهاب مؤكدًا على أن مسلمي إسبانيا يقتسمون الأحلام والأحزان مع المواطن الإسباني، وهي لفتة هامة ومهنية في سياق أن الإرهاب الجهادي لا يمثل مسلمي أوروبا في شيء، وهي رسالة ذات مضمون هام للمواطن الإسباني العادي الذي لا يفرق عادة بين مسلم وإسلاموي وجهادي، فثمة مقال آخر أود أن أسلط عليه الضوء المناسب، وهو مقال إنريكي خيل كالبو، الأستاذ المتفرغ لعلم الاجتماع بجامعة كومبلوتنسي.

عنون كالبو مقاله بـ “جذور العنف”، وربط فيه بين ثلاثة أشكال للعنف وقعت مؤخرًا: العنف ضد المرأة، الإرهاب العنصري والاعتداءات الجهادية، ووصفها بأنها “مشكلة ثقافية وبنيوية” في العلاقة بين الرجل والمرأة، الأبيض والزنجي والغربي والمسلم. الحادث العنصري هو ما وقع في ولاية فيرجينيا الأميركية إذ قام مواطن “مسيحي”، بنفس طريقة جهادي لا رامبلا، بعملية دهس لمتظاهرين نجم عنها ثلاثة قتلى وأكثر من ثلاثين جريحًا. أما العنف الجندري، فيشير كالبو إلى حادثة وقعت قبل أسبوع من حادثة برشلونة وصرح بعدها رئيس جزر الكناري، فرناندو كلابيخو، بأن “العنف الذكوري مشكلة فردية”. ويخلص كالبو إلى ثلاثة أنواع من الإرهاب: الذكوري، العنصري والجهادي، دون أي تفرقة فيما بينها. المنتصر الوحيد والدائم، بحسب كالبو، هو الرجل الغربي الأبيض. وبتبني نفس مصطلحات السلطة السياسية، لماذا لا نقول إن الحادث الإرهابي فردي يتحمل مسؤوليته صاحبه لا الإسلام، كما لا يتحمل الجنس الذكري أي تجاوزات من أحد الذكور ضد المرأة؟ بمعنى آخر، يوضح كالبو، لا الإسلام ولا كراهية الأجانب ولا الذكورية هي التي تقتل، بل الجهادي والعنصري والذكوري. ثم يفسر بأن أسباب المشاكل الثلاثة ليست فردية بحتة، إنما ثقافية وبنيوية بالأساس، لها علاقة بالشعور بالعلو والسلطة أو بالضعف والدناءة. والمسؤول عن هذا الشعور مؤسسات الدولة.

من أجل المصلحة العامة

يلاحظ في المقالات التي طرحناها للعرض، كما في مقالات أخرى، أن الرد النموذجي على الحادث الإرهابي ليس العنف المضاد ولا التخلي عن دولة القانون ولا التعامل مع الحادث باعتباره عارضًا، إنما التحليل الدقيق للأزمة ومعرفة أسبابها المتعددة لتجنبها والتخلي عن عبارة مثل أنهم “أربعة مجانين دهسوا مواطنين أبرياء” إذ لم يكونوا مجانين بل مجرمين. والأهم هو القدرة على نقد الذات، نقد السلطة التي عادة ما تكون سببًا جوهريًا في هذه الأزمات.

هنا تقوم الصحافة بدورها الطبيعي، أنها تنير الطريق للسلطة السياسية بل وترسم لها المسارات عبر الاستعانة بمثقفين ومتخصصين في علوم السياسة وعلم النفس والاجتماع، فائدتهم الكبرى هي توجيه والسيطرة على العقلية الأمنية حتى لا ترتكب حماقات سيدفع الجميع ثمنها غاليًا.

ربما هذا ما نحتاج إليه في الصحافة العربية، بعيدًا عن هيستيريا العنف والعنف المضاد.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى