صفحات الناس

عدسة سويدية في مخيّم الزعتري/ قيس قاسم

 

 

عنوان البرنامج التلفزيوني السويدي الخاص بمعسكر الزعتري مفتاحه: «ما أهمية الثقافة عندما يعيش المرء في معسكر للاجئين؟». للتوصل إلى مقاربة معقولة للسؤال الضمني ذهب معد البرنامج التلفزيوني السويدي «كوبرا» كريستوفر لوندستروم إلى معسكر الزعتري في الأردن لمعاينة المفردات الثقافية فيه من خلال مقابلات أجراها مع مجموعة من الفنانين والمبدعين السوريين الذين أجبرتهم ظروف الحرب الأهلية على ترك وطنهم هرباً إلى الأردن وليستقر بهم المقام في معسكر هو الخامس عالمياً من حيث المساحة وعدد المقيمين فيه. يعرض كريستوفر مشهداً عاماً للمعسكر ويقدم معلومات دقيقة عنه وعن الحياة هناك ثم يقارنه بمعسكرات أخرى من بينها الأكبر في العالم والمقام في كينا ثم يستعرض حالات من هجرات سابقة لمبدعين أقاموا في معسكرات وفيها أنتجوا إبداعاً ما زال يتذكره الناس من بينهم المغني والموسيقار بوب مارلي الذي ترك جامايكا في السبعينات لاجئاً وأكليف جان من هايتي التي هرب منها إلى الولايات المتحدة وغنى أغنيته الشهيرة «اللاجئ»، وأيضاً غلوريا أستيفان التي غادرت كوبا سراً في الثمانينات وعاشت في معسكرات موقتة للاجئين. بعدها يستعرض أهم الهجرات الكبرى المعاصرة وأكثرها مأسوية «الفلسطينية» بعد عام 1948. بهذا التمهيد اقترب البرنامج من مقاربته التي أرادها هذه المرة أن تكون سورية وفتش عن مبدعيها في معسكر يسكنه قرابة 88 ألف لاجئ يعيشون على مساحة جرداء تقارب خمسمئة هكتار.

التقى البرنامج داخل المعسكر الشاعر فادي الوالي الذي يكتب الشعر ويقول: «أحببت كتابة الشعر الغزلي، لكنني حين وصلت المعسكر صرت أكتب النوع ذاته ولكن بلمسة حزينة لم أعرفها من قبل». يعتبر فادي الشعر وسيلته الوحيدة للتعبير عن مشاعره مقترباً من تعبير الفنان التشكيلي محمود الحريري الذي يعتبر الرسم، أيضاً، لغة تواصله الأمثل مع الآخرين. «أنا لا أحب الكلام الكثير ولوحاتي هي لغتي التي أتواصل بها مع العالم».

الشاعر والتشكيلي كلاهما من مدينة درعا عملا في حرفتيهما الإبداعية قبل وصولهم إلى المعسكر بعد رحلة عذاب ومخاطرة يقول عنها الشاعر: «من يريد الانتحار أو روحه رخيصة عليه فليجرب قطع رحلة العذاب تلك!».

في «خيمة شكسبير» استمع كريستوفر الى مقاطع موسيقية عزفها له الفنان عمر النويران على الآلة الأحب إلى نفسه: العود. لقد أنتظرها أكثر من سنة وحين وصلت قال عنها: «العود أحب صديقة إلى نفسي والموسيقى التي تخرج منها تنقلني من حالة إلى أخرى تعبر عن دواخلي بلغة هي الأفصح بالنسبة إلي».

بعد سماعه عن تجربة المسرح الشكسبيري في المخيم ومن فرط استغرابه من الفكرة التي تبدو مستحيلة في الظروف التي يعيش فيها الناس في المعسكر قرر مقدم البرنامج الذهاب إلى عمان لمقابلة صاحب المشروع الممثل السوري المشهور نوار بلبل الذي عارض النظام ووقف مع الثورة السورية واضطر للهجرة إلى الأردن. في عمان قال بلبل: «مشروع «خيمة شكسبير» نابع من فكرة أن اللاجئين لا يحتاجون إلى الطعام والدفء والاستقرار فحسب، فهذه الأشياء ضرورية للحياة، لكنها قد تتوافر في الأشهر الأولى لوجودهم، أما المشكلة فهي أن إقامة اللاجئ قد تمتد إلى أبعد من ذلك… الى سنين». وبالفعل المعسكر بني قبل أكثر من عامين والناس فيه لم تعد تكفيهم مستلزمات العيش الضرورية المادية بل ينشدون الروحية معها ومن هذا المنطلق شرع بلبل في إخراج عملين لشكسبير هما «الملك لير» و»هاملت» وعنهما يقول: «ربما تبدو الفكرة غير مفهومة لأن عوالم شكسبير ضخمة فيها قصور وقلاع وأبطالها ملوك وفرسان ونبلاء والمعسكر ليس فيه كل هذا إلا فكرة واحدة أردتها أن تعبر عن مقولته الشهيرة «أن أكون أو لا أكون تلك هي المسألة». الناس في المعسكر عندهم القدرة على الحياة والتشبث بها والمسرحية التي أبطالها هم أطفالهم تغذي هذا الإحساس بالقدرة على المضي إلى المستقبل».

عن الثقافة واللاجئ في المعسكر قابل البرنامج خبيرة في الموضوع اسمها أويا أندميكائيل، وهي أميركية من أصل أريتيري تعمل لحساب الأمم المتحدة. في كلامها عمق يقارب الفلسفة لكنه قريب في الوقت ذاته من القلب إذ ركزت في شرحها على الفرق بين كلمتي «العيش» وبين «البقاء على قيد الحياة» والبون الشاسع بينهما. فالمرء داخل المعسكر أو في السجن يشعر أول الأمر بالحاجة للبقاء على قيد الحياة أي أن لا يموت ولكن وبعد مدة يبدأ البحث عن الحياة التي ينشدها فيتذكر ويتخيل أشياء تزيد من التصاقه بالماضي وتدفعه بقوة نحو المستقبل.

وتبقى الفنون والثقافة أكثر الوسائل التي تحقق له معنى كلمة «حياة» في ظروف أسره أو إقامته في معسكرات اللاجئين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى