صفحات العالم

نقاشات الإسلاميين بين التجربتين المصرية والتونسية/ ماجد كيالي

تباينت تجربة الإسلاميين في الحكم. هذا ما حدث في مصر وتونس والسودان، وفي إيران وتركيا. تماماً مثلما حصل مع تجارب القوميين في مصر والعراق وسوريا وليبيا، او مع تجارب الشيوعيين في روسيا والصين وألبانيا وكوريا مثلاً.

ويمكن تفسير هذا التباين، بأن التيار الاسلامي متعدد ومتنوع في منطلقاته وغاياته ووسائله، مثل غيره من التيارات اليسارية والقومية والليبرالية والعلمانية، ففيه المعتدل والمتطرف، السلمي والعنيف، المنفتح والمنغلق، المتنوّر والظلامي، الديموقراطي والاستبدادي. ويستنتج من ذلك أن ثمة تعسّف في التعاطي مع التيارات الإسلامية، السياسية أو الدعوية، باعتبارها نسيجاً واحداً، أو باعتبارها غير قابلة للتطور والتكيف مع معطيات الواقع والعصر والعالم، لكأن التيارات الأخرى أثبتت ذاتها في هذا المجال! وبديهي أن التعسّف الأشد يكمن في التعامل معها بوسائل القمع او الحظر، لأن ذلك يفضي إلى نتائج عكسية، أي إلى تغذية الاتجاهات أو النزعات المتطرفة والعنيفة بينها، ناهيك عن أن هذا المسار قد يقوض معنى المواطنة والحرية، إذ أن تقييد حرية أي تيار سيؤدي حتما إلى تقييد حرية التيارات الأخرى، ما يمهد لإعادة إنتاج الاستبداد.

على أية حال، فإن موضوعنا هنا يتعلق بمناقشة تجربتي مصر وتونس، باعتبارهما تجربتين متقاربتين ومتباينتين، في الوقت ذاته، إذ استطاع التيار الإسلامي المتمثل في «الإخوان المسلمين» في مصر وحركة «النهضة» في تونس، من حصد الأغلبية في الانتخابات، والوصول إلى الحكم. أيضاً، في هذين البلدين، لاقى صعود التيار الإسلامي مخاوف التيارات الأخرى، وواجه تحركات شعبية معارضة، على خلفية صياغة الدستور، وعلى خلفية التباين في الموقف من قضيتي الحرية والديموقراطية. أما التباين في هاتين التجربتين فهو ناجم عن تفرّد «الإخوان» في مصر بالسلطة، وبصوغ الدستور، واستعداء التيارات الأخرى عليهم، في حين ذهبت حركة النهضة منذ البداية نحو خيار التعاون مع التيارات الأخرى، في تشكيل الحكومة وتقاسم السلطات، وفي التوصل إلى صوغ دستور جامع. هكذا كانت النتيجة انهيار حكم «الإخوان» في مصر، ونجاح حركة «النهضة» في التعبير عن ذاتها كتيار إسلامي أثبت نضجاً أكبر في فهم الواقع والعصر والعالم.

ومع عدم إغفال حجم الهجمة التي تعرض لها نظام الرئيس مرسي في مصر، وضمنه من قيادة الجيش التي أرادت أخذ السلطة، إلا أن أخطاء «الإخوان» سهّلت عزلهم، وأسهمت في تغطية تدخل المجلس العسكري، بنوع من رغبة شعبية، لإزاحتهم.

ومفهوم أن مصدر العناد في موقف الإخوان المسلمين آنذاك أنهم جاؤوا إلى الحكم بواسطة صناديق الاقتراع، وان لديهم الشرعية الشعبية والانتخابية، التي تخوّلهم فرض برنامجهم، وضمنه صوغ الدستور وسنّ القوانين. وفي الواقع فإن «الإخوان» ضمن نشوتهم بالوصول إلى السلطة لم يتبصّروا على نحو جيد بالقوة التصويتية المقدرة لهم، بالقياس لأغلبية المصريين (10ـ13 مليون من 52 مليوناً أصحاب حق الإقتراع). فوق ذلك فهم لم ينتبهوا إلى أهمية الاستحواذ على رضى المصريين الآخرين في هذه المرحلة الانتقالية، ناهيك عن عدم إدراكهم لآلية عمل الدولة، وحقيقة موازين القوى فيها، وضعف قدرتهم على مواجهتها. وهذا لا يقتصر على الجيش وقوى الأمن، وانما يشمل مؤسسات الأزهر والقضاء والإعلام وصناعات الفن والثقافة.

ولعله من المفيد هنا تفحّص هذا الأمر من وجهة نظر الخبرة التونسية، طالما نحن بصدد المقاربة بين هاتين تجربتي تونس ومصر. فحسب الشيخ عبد الفتاح مورو، وهو نائب رئيس حركة النهضة، فإن «الإخوان» في مصر، «لم يحسنوا التعامل مع المرحلة، وتصوروا أن الدولة بأيديهم، وما غاب عنهم أن الدولة بأيدي «الدولة العميقة».. حين يكون لدينا تقاليد في أي دولة، لا يمكن تغييرها في يوم أو شهر أو عام. اليوم، المرحلة ليست مرحلة مغالبة بل وئام ومشاركة، وما هو موضوع على الطاولة لننفذه أكبر من قدرات أي شخص منا، ولن نخسر شيئاً إذا خدمنا الشعب، والقضية ليست قضية الحكم، ماذا يعني الحكم إن لم يكن خدمة الشعب؟ والسؤال الأهم هل يحتاج المجتمع المصري أو التونسي إلى أسلمة؟ لا.. نحن مسلمون منذ مدة وإسلامنا قائم في عقائدنا أو سلوكياتنا، بعد الثورة خرج المشايخ بلحاهم الطويلة يطلبون تطبيق الشريعة. يتصورون أن الشريعة لحية طويلة وحجاب إمرأة. أهم شيء في الشريعة هو حق المواطن في اختيار حاكمه، وعندما نحقق للشعوب حريتها وكرامتها ويصبح الإنسان محترما هنا يكمن تطبيق الشريعة» (اليوم السابع، 17/2/2014). اللافت أن الشيخ مورو لا يقف عند هذا الحد في نقده الجريء للتيارات الإسلامية، بل إنه يذهب إلى حد المطالبة بمراجعة شعار «الإخوان» الأثير: «الإسلام هو الحل»، الذي يرى أنه لا يقدم ولا يؤخّر، لأنه يحمّل الإسلام كدين فوق طاقته، ولأن المجتمعات تريد حلولا لمشاكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. (برنامج «شاهد على العصر»، في تلفزيون الجزيرة، 19/3/2014)

معلوم أن «حركة النهضة» خاضت تجربة مختلفة، فهي منذ البداية لم تشكل حكومة لوحدها، وإنما ذهبت نحو تشكيل حكومة ائتلافية مع شركاء آخرين، وعندما وجدت ذاتها في وضع حرج قبلت بتغيير الحكومة، ثم تنازلت عن ذلك لصالح تشكيل حكومة انتقالية محايدة. أما بالنسبة للدستور فقد أبدت «النهضة» تكيّفاً أكبر مع واقع تونس ومع متطلبات العصر، وأبدت رغبة مدهشة في التوصل إلى دستور يحظى بإجماع ورضى مختلف الأطراف. وهو ما حصل في أواخر الشهر الماضي، بإقرار دستور ينص على قيام دولة مدنية تضمن الحرية والمساواة لكل المواطنين، وضمنها حرية العقيدة والضمير، ما أعتبره الشيخ راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة «أعظم دساتير العالم». يقول الغنوشي: «دستور الثورة، دستور الوفاق، دستور لا غالب ولا مغلوب. هذه الوثيقة. أسست للحرية، مطلب الإسلام الأسمى. في الديموقراطيات المستقرة يكفي حزبا ليحكم الحصول على الأغلبية المطلقة +، أما في الأوضاع الانتقالية مثل حال دول «الربيع العربي»، فإن ذلك غير كاف، بل المطلوب ليس فقط أغلبية واسعة تصل إلى الثلثين وتقترب من الإجماع، وإنما تنوع تلك الأغلبية وتمثيلها لأهم التيارات السياسية والفكرية. تونس اليوم تؤكد. أن الخطر على الديموقراطية، وعلى الأمن والاستقرار هو الاستبداد، والفساد، واحتكار السلطة. تونس اليوم تقول للعالم والأصدقاء.. أن لا تعارض بين الاسلام والديموقراطية، وان الإسلاميين يقفون في مقدمة القوى المدافعة عن حق الاختلاف والتنوع الثقافي والتعددية السياسية، وحرية الضمير، وحقوق المرأة، وكل القيم الكونية التي تؤسس مجتمع الحرية والعدالة والتنمية.. أردنا دستوراً لجميع التونسيين، يحفظ حقوقهم وحرياتهم الأساسية ويؤسس لدولة القانون والمواطنة والمساواة. نعتقد أن حزبنا له حظوظ كبيرة في الانتخابات المقبلة، ولكن مع هذا فإننا نعتقد أن البلاد لا يمكن أن تحكم بتيار أو حزب واحد..هذا هو الدرس التونسي، درس تونس الدولة الصغيرة برقعتها الجغرافية ومواردها الطبيعية، الكبيرة بشعبها المحب للحرية والديموقراطية والسلام.» (من نص كلمة ألقاها راشد الغنوشي في مركز كارنيغي للدراسات بواشنطن، 26/2/2014) ولعل كلمة الغنوشي هذه تؤكد على التباين في وجهات النظر وفي الخبرات السياسية بين قيادتي التيار الاسلامي الأخواني المصري والتونسي.

هكذا، فإن التجربتين المصرية والتونسية تؤكدان قابلية التيارات الإسلامية (والعلمانية أيضاً)، لهضم مسائل الديموقراطية والدولة المدنية والمواطنة والحريات، باعتبار ذلك جزءاً من الصراع على الوعي السياسي والثقافي، للتكيف مع الواقع والعصر والعالم. كما تؤكدان زيف الفكرة التي روّجتها النظم الاستبدادية، والتي مفادها أن ثمة شيئاً جوهرياً في الإسلام يميل إلى العنف، ونبذ الديموقراطية.

أخيراً، هذه لحظة يشق فيها التيار الإسلامي في تونس في المغرب العربي طريقا آخر، بعد أن اثبت نفسه، فهل يستطيع هذا التيار تعميم خاصيته ومفاهيمهم بعد أن كان صدى للتيارات الناشئة في المشرق العربي؟ وهل تكون هذه بمثابة لحظة الانعطافة التاريخية في تجربة التيارات الإسلامية، أم انها مجرد حالة استثنائية؟

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى