صفحات العالم

سوريا.. اليوم يوم المرحمة


مشاري الذايدي

حسنا فعل رئيس المجلس الوطني السوري عبد الباسط سيدا حينما دعا الطائفة العلوية والمسيحيين السوريين إلى الوحدة الوطنية ومد لهم يد الإخاء، وشجعهم، أو شجع المتردد منهم، على الانضمام للثورة السورية، خصوصا أن النظام بدأ يتهاوى بشكل سريع بعد انشقاق رئيس الحكومة رياض حجاب، وهو رئيس الحكومة الذي أعلن بشار الأسد أمام أعضائها، أن نظامه يعيش حالة حرب. للمرة الأولى.

الشخص، كشخص، قد لا يكون مهما، فهو مجرد موظف حكومي، رفيع، لكن موقعه الجديد، كرئيس للحكومة، وفي هذا الظرف العصيب، هو الذي يعطي قيمة كبرى للانشقاق.

ساعة النظام الرملية تتسرب حبات رملها سريعا نحو القاع، المتبقي من الزمن ثوان، لكنها الثواني الأصعب والأخطر، ثوان من الدم والعصبية، والنار، والأحداث المفاجأة، ثوان سترسم ملامح سوريا المقبلة، ثوان من إعادة الخلق والتشكيل، لن تتكرر لاحقا، فهي ثوان من سيوجد فيها فاعلا، سيظل فاعلا، فردا كان أو حزبا أو تيارا جديدا، ومن يغب عن هذه الثواني، فسيطول غيابه، ومن يتريث ستكون فاتورة عودته للحلبة السياسية باهظة ومكلفة.

ميزة الثورة السورية، ومزاياها كثيرة، هي أنها قد سبقت بما جرى في ليبيا وتونس ومصر واليمن، ربما كان الدم الساخن الذي دفعته الثورة السورية مدة نحو العامين من عمرها، هو على ألمه، فرصة لمخططي الثورة السورية وقادتها من أجل تجنب الأخطاء التي وقع فيها غيرهم في هذه البلدان، فالسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره.

هل يعني هذا أنه يمكن مطابقة المشهد بين كل هذه البلدان، على طريقة النسخ واللصق؟ طبعا لا، وقد مارس بعض الكتبة العرب، وبعض المعلقين، حتى من الغرب، هذه الطريقة الخفيفة في مطابقة كل المشاهد العربية الثورية ببعضها، حتى إن هناك من كان يقول هذا الزعيم خطب ثلاث خطب ثم خلع، وفلان خطب خطبة واحد وبقي له خطبتان، حتى يخلع! وهكذا في طريقة انفعالية كاريكاتيرية. مارس وما زال، كثير من المثقفين العرب، الهتاف والتصفيق والأدعية، لهذه الثورة أو تلك، دون أن نجد في ركام الحكي والنصوص المكتوبة أثارة من فهم أو تفهيم، إلا قبسات يسيرة في حلكة الظلام الصاخب.

يقال إن المشهد في سوريا كالمشهد في ليبيا مثلا أو العراق، على اعتبار أن ما جرى في هذين البلدين هو الأقرب لسوريا، لجهة التنوع والاحتراب الطائفي، في العراق، والقبلي الأصولي، في ليبيا، وتوفر السلاح في البلدين، وكذلك المجاميع الأهلية المقاتلة، وفوق هذا وذاك، حالة «الجهاد» التي سيطرت على الشبان المقاتلين في كل هذه البلدان، ضد الحكم الموجود.

حسنا، هذه أوجه شبه معتبرة، لكن هل هي كافية؟

الحق أن القول بالتطابق يبدو مغريا في هذه الحالة، ولكن للناظر من بعيد، فنحن نرى أن النسيج السوري أكثر تعقيدا من العراق وليبيا بطبيعة الحال، فأكبر وجود مسيحي في الهلال الخصيب هو في سوريا، وكذلك أكبر وجود للطائفة العلوية، في الهلال الخصيب، هو في سوريا، ناهيك عن التنوع العرقي من خلال الأكراد والتركمان والشركس، وغيرهم، وكذلك التنوع داخل الطائفة المسيحية، وفوق هذا وذاك التاريخ المديد من «التمدن» السوري خصوصا في حواضرها الكبرى، دمشق وحلب، وللناظر في التاريخ السياسي الحديث في سوريا أن يرى رموزا وطنية من شتى الاتجاهات تنتمي لكل المكونات السورية، من فارس الخوري إلى سلطان الأطرش إلى صالح العلي إلى مردم بك والجابري والقوتلي، وغيرهم.

في الثورة السورية نفسها هناك أسماء حملت أرواحها على أكفها نصرة للثورة السورية، لدينا الروائية السورية المقاتلة سمر يزبك، وهي تنتمي اجتماعيا إلى الطائفة العلوية، لكنها مشبعة جدا بالروح الوطنية الثورية، وهي كما حدثتنا في اجتماع مع بعض الزملاء الصحافيين، ترى أن عائلة الأسد قد اختطفت الطائفة العلوية، وعسكرت مشايخها، وهي، أي سمر، قد أخبرتنا أن ما يهمها الآن هو تكريس التماسك الوطني وتحقيق السلام الاجتماعي، وقد قامت بمبادرات عملية على الأرض لتحقيق هذا المعنى من خلال التفاعل مع القيادات الاجتماعية والروحية للطوائف، من طرفها قامت هي بمخاطبة القادة الاجتماعيين للطائفة العلوية، وهي قد أخبرتنا أن هناك تجاوبا من حيث المبدأ، وأن هؤلاء القادة الاجتماعيين (المشايخ) لا يهمهم أمر بشار الأسد وعائلته، لكنهم ببساطة «خائفون» من المستقبل، ويعتقدون أن هناك «ورطة» أوقعهم بها النظام الأمني الأسدي، وهناك صعوبة في تلمس طريق الخروج منها، إضافة للخوف من لغة التكفير والتطهير التي يقوم بها بعض المقاتلون في صفوف الجيش الحر أو الكتائب المنسوبة إليه.

هنا يجب علينا أن نكون واقعيين، ننظر بعين العقل لا بعيون العواطف، وكاتب هذه الأسطر كان وما زال من أكثر الناس حماسة لسقوط هذا النظام القبيح، بل وأعتقد أنه هو من أطلق وحش الطائفية من صدور الجميع، عامدا أو جاهلا، لا فرق، اليوم أزيد أنني لن أتفاجأ لو وقعت أخطاء بل «خطايا» من قبل الثوار الآن، وبعد النصر وسقوط النظام القبيح، فأنت لا تستطيع ضبط الجميع، وهناك إرث مديد من الحقد والثارات، ودوما بعد سقوط الأنظمة القمعية الشمولية تحصل حالة من الانفلات وتطبيق العدالة باليد، وجو «ميلشياوي» هذا سيكون، للأسف، مهما حذرنا ومدحنا لغة ساسة الثوار.

السؤال هنا، هل سيتم رسم خطة عملية للحد، ولا أقول لمنع، من التداعيات السلبية لسقوط النظام القبيح الشمولي؟

يجب أن نعترف أن هناك من وقف مع بشار الأسد ونظامه ليس حبا فيه، ولكن خوفا من المجهول، وهناك من وقف معه بمحض إرادته خوفا من تفشي الانتقام وإعادة رسم الثقافة السورية، خصوصا أن هناك من تبنى لغة دينية تكفيرية في تعبئة من يقاتل أو يقف ضد أسد القبح والإجرام، بشار.

هذا الاعتراف صحي، ويساعد على القيام، من الآن، بخطوات وقائية «للتخفيف» من ألم المرحلة الانتقالية، يجب تطمين الجميع، تطمينا عمليا وحقيقيا، وليس عبر البيانات المنمقة، بل عبر النزول إلى الأرض، والتخاطب مع مخاوف الناس بصراحة، في كل مكان من سوريا، يجب أن يفهم الناس، أن المقبل في سوريا ليس نظام انتقام، ولا «ثارات» كربلائية، بل نظام عدل وقانون، وحتى تراحم.

ما دمنا في شهر رمضان، فليتذكر المتدينون وغيرهم في صفوف الثورة السورية مقولة نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام حين دخل مكة فاتحا، وكان صناديد قريش الذين أبدوا صنوف العداوة والإيذاء للمسلمين، في غاية الخوف من الانتقام، لكن المقولة التي نزلت عليهم بردا وسلاما كانت: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». وطويت صفحة المرحلة العدائية كلها.

هكذا يجب أن تكون الروح البنائية، على الرغم من كل الألم والبشاعات التي مارسها هذا النظام القبيح، الذاهب قريبا إلى المقبرة.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى