صفحات الحوار

عباس بيضون: النثر يغريني والشعر فن مكبوت مكتوم الإرادة فيه معدومة

 

 

زهرة مرعي

بيروت ـ «القدس العربي»: يقول الراوي في رواية عباس بيضون الصادرة بداية 2016 «خريف البراءة» وهو يُحدث ابن خاله عن نفسه «ولدت وسط تلك الجريمة وكأنني ابنها. الذنوب التي نحملها من غير قصد هي التي تظهر في وجوهنا». إنه «غسّان» بطل الرواية يحمل منذ الثالثة من عمره ـ أي يوم ازرّق عنق والدته واختنقت بين يدي والده الكبيرتين ـ وزر تلك الجريمة وعلى خطين.

عبء مرهق على طفل عاش لدى خاله، وعليه تنهال سهام العيون والأسئلة عن أمه. هل كانت عاشقة على أبيه؟ وعن أبيه القاتل، الذي كان «يبادر إلى معاقبة من لا يطيعه».

في «خريف البراءة» ليس هذا الواقع الضاغط فحسب، بل يتبعه هرب القاتل إلى درعا، وعودته بعد حوالى 20 سنة حاملاً سيف التطرف، يبطش ويحاكم وينفذ باسم الدين. ربما هي ضغوط المرحلة ولونها القاتم، ومن خلالهما خطّ بيضون جديده الروائي، فجاء مشابهاً لقلقنا العام واستنكارنا لهذا التحول الإجرامي في سلوك البشر. ما حصل في قرية «صيعون» التي اخترعها الروائي استغل واستفاد بحسبه من تطور الأحداث في سوريا. بمناسبة جديده كان مع الشاعر والروائي عباس بيضون هذا الحوار:

■ هل اخترت عنوان «خريف البراءة» كونها حالة أعدمت في واقعنا؟

□ تقريباً هي كذلك.. «غسّان» هو نموذج البريء بمعنى ما. هو ليس بريئاً بمعنى أنه ساذج، وليس بريئاً بمعنى أنه نقي. هو بريء بمعنى أنه تحمل جريمة غيره. هذه الجريمة وصمته. أمضى حياته وهو يتجنب أن ينحاز، أو أن يكون في جهة ما، لأنه يشعر تماماً بوطأة جريمته. هذا الشعور وهذا العبء الذي حمله «غسّان» هو ما أعنيه ببراءته. البريء هنا هو الذي يتحمل جريمة والده، ويشعر بأنه ابن هذه الجريمة، وأنه بصورة أو بأخرى نسل هذه الجريمة. أما الخريف بحد ذاته فقد يعني ما يعنيه دائماً. هو ذبول البراءة. مقتل «غسّان» هو «خريف البراءة» وذبولها.

■ بدأت رواية «خريف البراءة» بالقتل العائلي وختمتها بسطر مأساوي «كان الابن ينطفئ والدم العائلي يصبغ الموج». هل ترى نموذج بلدة «صيعون» إلى ازدهار؟

□ ليست بلدة «صيعون» أكثر من رمز. لست بصدد محاكمة المجتمعات القبلية، أو العلاقات العشائرية. العائلة في الرواية هي رمز وقد تعني في ما تعنيه البلد نفسه. الدم العائلي هو دم الابن الذي قتله الأب، وهو في الرواية إرهابي أصولي. وبالعودة إلى كون الأب إرهابيا، والابن يُقتل على يده، فالمأساة هنا ليست عائلية فقط، بل هي مأساة داخل التنظيم، المجتمع، وداخل العلاقات الإرهابية الإسلامية.

■ نعم «الدم العائلي» الذي سألت تفسيراً له وهو أن الأرهاب وصل لقتل فلذة الكبد؟

□ وصول الإرهاب لأن يقتل الأب ابنه فهذا تأكيد على انفلاته من كافة الحدود. هنا تحول القتل إلى قيمة، وهو القيمة العليا لدى الإرهابيين.

■ في الثلث الأول من الرواية لجأت لصيغة الراوي وراهنت على سرد غسّان لطفولته من منظار البلوغ. لماذا هذا الخيار الروائي تحديداً؟

□ لم يكن اختياراً واعياً. وجدت نفسي أفعل ذلك. بالنسبة لي بدأت حكاية غسّان مع الجريمة التي أودت بأمه. هذه الحكاية رويت بلسان الابن بعد أن شبّ. بالنسبة لي كمنت المسألة في كيف كبُر هذا الشخص، وكيف نضُج على حدود هذه الجريمة التي تُشكل على نحو ما صُلب حياته.

■ الحكم والخواطر لها حضورها في الرواية «الذكريات ليست ثمناً مناسباً للحياة، إنها فقط من رواسبها». هل هي محطات راحة واستقرار لأفكارك؟

□ بل هي من صلب العمل. لماذا أصل إلى درجة أفكر فيها بالحوادث؟ هذا نوع من تفكير العالم. في هذه الرواية حضور للأفكار. لا أتصور رواية من أجل الإخبار، أو رواية تُتلى كخبرية. تعني الرواية دائماً شيئاً يتعداها. وهي تملك رمزية ما. تطرح مسائل وقضايا. على الأقل المسألة هكذا بالنسبة لي، فلا استطيع تصور رواية لأني حكواتي، أو لأنني أحب أن أخبر أو أسرد. «خريف البراءة» عبارة عن طرح أسئلة على الحياة، العالم والنفس.

■ هي رواية تقارب المرحلة التي نعيش، فهل هي حث للتفكر بما ستؤول إليه حالنا؟

□ أتكلم فيها عن فكرة وليس عن قضايا عامة. الفكرة هي تأمل الأشياء ورؤيتها من الداخل، التفكير بها وتحويلها إلى أفكار.

■ القتل يتمدد في الرواية من «عائلة قاتلة تخنق نساءها» إلى «رايات الهدى» والقتل شمالاً ويميناً. فهل من وجه شبه بينهما؟

□ لا فرق بينهما. الدم الذي هو نُسغ الحياة يسيل في العائلة، لأن تصور مسعود للحياة والجهاد دموي. مسعود شخص دموي، وتصوره للحياة دموي. القتل بالنسبة له قدس الأقداس. وتالياً قتل الزوجة هو جزء من عملية قتل جامعة. هو من روح دموية قاتلة، بدأت بقتل زوجته لتنتشر بعد ذلك إلى قتل للجميع.

■ لم يبتعد الزمن كثيراً عن بدء أحداث سوريا، لكن درعا ومسعود و»رايات الهدى» والقتل باسم الله موجودة في رواياتك. أليست قراءة مبكرة للمرحلة؟

□ أثناء كتابة الرواية وربما قبلها أو بعدها بدأ الإرهاب الأصولي يُقدم لي مادة وثائقية استفدت منها. بدأت الرواية بجريمة قتل الأم، وبنشأة غسّان في منزل خاله، وبالكلام عن الحرب الأهلية اللبنانية، وهذا الموضوع ليس قريباً جداً وليس مباشراً. بُعيد كتابة الرواية انفجر الوضع في سوريا، وقدمت لي الأحداث مادة وثائقية فاستعملتها.

■ بخلاف درعا أمكنة الرواية وهمية. لماذا درعا؟ هل من رمزية لها في الأحداث السورية؟

□ قد تكون رمزية درعا في الحدث السوري سبباً، إنما لم أكن معنياً بالتأريخ، والرواية ليست كذلك رغم صلتها بالتاريخ وبالوقائع التي حدثت وتحدث.

■ هل كان للأحداث السورية أن تُكمل بعضاً من خطوط روايتك؟

□ اقتحمت الأحداث السورية الرواية التي بدأت قبلها وكُتبت بخطة مختلفة. بطبيعة الحال لم تكن الأحداث السورية هي الوحيدة التي تمثل الإرهاب الأصولي. كان في خطة الرواية ما يشبه ذلك، لكن كما قلت قدّم الانفجار السوري مادة وثائقية، ولم أجد غضاضة في استغلالها.

■ من «صيعون» إلى درعا وردت أكثر من إشارة لعجز «مسعود» الجنسي. كم يلعب هذا العجز دوراً في أن يكون الرجل منتقما، قاسيا وقاتلا؟

□ لا أريد القول إن العجز الجنسي هو الدافع لسلوك مسعود أو غيره. في الرواية كان مسعود أنيقاً، جميلاً، وسيماً ومحبوباً من النساء. العجز الجنسي إشارة لعجز عقلي، فكري ونفسي.

■ هل يغادرك العمل الروائي عندما تنتهي منه؟ وكيف تتعامل معه بعد ولادته؟

□ عادة الفرصة الوحيدة التي تُعطى لي لإعادة قراءة ما كتبته عندما يعود كي أصححه بعد الطباعة.

■ ألا تعمل حينها لتعديل ما؟

□ قليلاً ما يحدث ذلك. وهذا ليس فضيلة ولا مأثرة. هناك كُتّاب يعيدون كتابة الفصل نفسه عشرات المرّات. مثلاً همنغواي كان يعيد كتابة الخاتمة عشرات المرّات. أنا شخص ضجر. لا اتحمل القيام بالعمل نفسه مرتين. ولا أتحمل أن أعيد كتابة ما كنت كتبته. وهذا يحدث في شعري ورواياتي. ربما أحذف لدى القراءة بعد الطباعة، ولكنني لا أضيف. غالباً ما أحذف في الشعر ثلث ما أكتبه. إنما لست قادراً على إعادة الكتابة، ولا أتحمل ذلك.

■ هذا السلوك حيال ما تكتبه ألا يدفعك أحياناً للندم؟

□ طبعاً. قد أندم. وربما يتراءى لي في لحظات ما يبقيني حائراً وقلقاً. وأقول لنفسي هل كان ينبغي أن تنتهي رواية «خريف البراءة» كما انتهت، أو أن تنتهي على نحو آخر.

■ أنت في حوار ذاتي دائم حول ما تكتبه؟

□ ولا أجد في ما فعلته هو الصواب. ما أفعله يكون بدفع داخلي. في رواية «خريف البراءة» وجدت نفسي أعرِّض غسّان للقتل. وقبيل كتابة هذه الخاتمة لم أكن قد صممت على أن أنهي الرواية هكذا. لكنّني وجدت نفسي أنهيها كما انتهت. أعترف بأنها نهاية صادمة وقاسية جداً، وكان ممكناً الخروج بخاتمة أخرى. ولكن شيئاً ما في لاوعيي، وفي بنيتي النفسية قادني إلى هذه الخاتمة.

■ سواء بنيتك النفسية أو لاوعيك أليسا متأثرين بالواقع الذي نعيشه حتى وصلت لما وصلته؟

□ في العمل الأدبي والفني هناك بنية قائمة بذاتها، ليست طبق الأصل عن الواقع أو محاكية له. نحن لا نكتب الواقع. الكتابة شيء والواقع شيء آخر. نحن نؤلف الواقع. نصنع واقعاً. للعمل الروائي واقعه. نصنع العناصر والبنية الداخلية للعمل الروائي، وعلاقاته الداخلية بقوة اللاوعي. بقوة الحلم. بقوة الخيال.

■ أن يُقتل غسّان بهذه الطريقة وعلى يد والده أليست القراءة الواقعية لما نعيشه ونراه؟

□ قد يكون. هي القراءة المأساوية لما هو مأساة في الواقع إن جاز التعبير. إنما في الرواية هناك دائماً درجة من كسر الواقع. والمبالغة هي نوع من كسر الواقع. وعندما نكسر الواقع يبدو أكثر واقعية. أن نتكلم عن قتل الابن، فهذا كسر للواقع يجعله أكثر واقعية. فقتل الابن على يد أبيه أقصى ما يمكن أن نصله. وهو مأسوي إلى آخر ما للكلمة من معنى، أو مأساوي بلا حدود.

■ أنت مع الرواية منذ سنوات طويلة فهل بات صعباً أن تختلي بالشعر؟

□ في الواقع أنني كتبت الرواية الأولى سنة 1992وهي «تحليل دم»، وقد سبقتها رواية ولم أنشرها، والأرجح أنه مضى عليها ثلاثون سنة. بالتالي لم تكن كتابة الرواية بالنسبة لي قفزة إلى فن آخر، ولم تكن انتقالاً اضطرارياً. ولم يكن السبب هو كساد الشعر. لا أعرف أنني روائي منذ حداثتي، لكنّ النثر يغريني لأن أكتب نثراً، وأن أكتب أيضاً شعراً نثرياً. الشعر هو فن مكبوت وهو أقرب إلى الصمت. ومن يكتب شعراً بالقدر الذي كتبته قد يشتاق لأن يبوح ويتفسّح ويتوسع في الكلام. بهذا المعنى لا تختلف الرواية بالنسبة لي كثيراً عن الشعر. فالرواية أيضاً هي بناء لغوي وكلامي.

■ لماذا قلت في حوار «الشعر عمل خانق»؟

□ لأن الشعر عمل مكبوت، مكتوم وصامت. في الشعر لا نقول الأشياء وإنما نُلمح لها. وفيه تبدو الأشياء مختزنة ومضمرة، مكتومة ومكبوتة في الكلام. الشعر عمل يقوم على التركيز الهائل. ويقوم على ما يشبه الوحي. نحن لا نستطيع أن نقول أو نكتب الشعر ساعة نشاء. ولا نستطيع أن نستدعيه ساعة نشاء. الشعر إصغاء. هناك كلام يأتينا من فوق نسميه الوحي. في الشعر وحي. وهناك كلام يتركب ويتكون بعيداً عنّا. وكأنه يتكون خارجنا، ويُملى علينا. كأننا نسمعه ونصغي له. إذا كان الشعر إصغاء فليست الرواية هكذا. في الرواية مقاطع طويلة تصدر عن اللاوعي. لا أستطيع أن أدافع عن كل جملة كتبتها. هناك عبارات، وسطور ومقاطع جاءت كما يأتي الشعر، من اللاوعي نفسه. الشعر أو الرواية هو عمل داخلي، أي عمل دور الإرادة فيه قليل. ودور الإرادة في الشعر خاصة معدوم.

■ ألا تتهيأ للشعر؟ ألا تضع ذاتك في زمان ومكان معينين؟

□ أكتب الشعر في مرحلة واحدة. أتحضر، أتهيأ، أفكر، يخامرني الشعر، يدور في رأسي، يطرق على أحاسيسي، لكن انتظر. وعندما أجلس للكتابة وقد أجلس مراراً ثانية وثالثة وعاشرة ولا أصل إلى شيء إلى أن ألتقط طرف الخيط. إلى أن تأتي العبارة الأولى، وهي تأتي عسيرة وصعبة، ويكون البناء عليها كذلك صعباً، ولكن مع الوقت تسلس الامور، وتتضح الرؤيا. ورغم أن الشعر هو عمل لاواع، لكنني في لاوعيي أصبح واعياً تماماً للاوعيي. وأستطيع أن أرى هذا العالم الداخلي مفتوحاً وفسيحاً أمامي. أكتب الرواية والشعر بانتظام. تقريباً عندي فترة كتابة يومية، أو يوماً بعد يوم. قد يفوتني يومان من دون كتابة، لكن الزمن لا يفوتني تماماً. أكتب لفترة من الوقت إلى أن اشعر بأنني استنفدت ما كتبته، أي ما كان يسميه همنغواي «عصارة». أي أن هذه العصارة نضُبت ونشُفت، وأني وضعت الخط الأخير. وأنتهي عند هذا.

■ هل تُصنف نفسك في مرحلة من العطاء الخصب؟

□ عندما قررت بعد سبع سنوات من الانقطاع عن الكتابة العودة ونشرت «صور» سنة 1985 وهي كتبت مع بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، ومن ثم انقطعت ثانية. والأسباب هي أن «صور» كُتبت بلغة ملحمية نشيدية، وهي لم تعد ممكنة أثناء الحرب، فقد ضاقت اللغة وضاقت الحياة، وتحولت إلى جزيئات. ولم يعد بوسعي كتابة النشيد الذي أكتبه، فانتظرت فترة طويلة إلى أن عدت إلى الكتابة، وكتبت «الوقت بجرعات كبيرة».

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى