صبحي حديديمراجعات كتب

أحزاب محمود درويش الشاب/ صبحي حديدي

 

 

في الذكرى التاسعة لرحيل محمود درويش (13 آذار/ مارس 1941 ـ 9 آب/ أغسطس 2008)، أتوقف عند عمل متميز حول الراحل، أنجزته الأكاديمية الفلسطينية منى أبو عيد، بعنوان «محمود درويش: الأدب وسياسة الهوية الفلسطينية»؛ صدر السنة الماضية باللغة الإنكليزية في لندن، عن منشورات I. B. Tauris. وإذا كانت فصول الكتاب الخمسة تتناول درويش في موضوعات ليست جديدة في تراث الدراسات الكثيرة التي كُرّست لشعره وحياته ومكانته (دور المثقف، الاقتلاع والمنفى، الأدب وبناء الأمّة، نقد السلطة، الحرب والسلام…)؛ فإنّ ما يميّز قسطاً كبيراً من اشغال أبو عيد هو البحث المعمق في شخصية درويش السياسي، أو المسيّس، العضو في حركات وأحزاب وتيارات، خلال أطوار اليفاعة والشباب في فلسطين، وكذلك خلال العقود التي أعقبت خروجه إلى العالم العربي في سنة 1970.

على سبيل المثال، ثمة تفصيلات ثمينة (لدى القارئ العريض إجمالاً، ولكن أيضاً لدى القارئ غير المتبحر في سيرة درويش، ثمّ ذاك الأجنبيّ بصفة خاصة)؛ حول انضمام درويش، في أواخر الخمسينيات، إلى «حركة الأرض»، التي أسسها في حينه منصور كردوش وحبيب قهوجي وصالح برانسي وصبري جريس. وتنقل المؤلفة عن قهوجي ترحيباً مبكراً بشعر هذا الشاب، الطالب في مدرسة كفر ياسيف الثانوية، خلال أمسية شعرية أقيمت في عكا، سنة 1958. لكنّ أبو عيد، واهتداءً بمبدأ ناظم في منهجها يستوجب تمحيص كلّ التفاصيل الغائمة في حياة درويش، التي لا تتوفر أدلة قاطعة تحسم الجدل حولها؛ تعود إلى جريس، الذي ينفي: «محمود درويش لم يكن، أبداً، عضواً في حركة الأرض. ولم يتخلّ أبداً عن دوره كشاعر، لا فائدة بالتالي من وضعه داخل فئة من أيّ نوع، أو تصنيفه سياسياً. إنه شاعر، وهذا كلّ ما في الأمر».

لكنّ جريس، في الجزم هكذا، يخالف وقائع سياسية وحزبية ثابتة تماماً في حياة درويش، آخرها عضويته في منظمة التحرير الفلسطينية، وأوّلها انتسابه إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي (ماكي، في التسمية العبرية) سنة 1961، بعد انتقاله إلى حيفا. هناك، ومن خلال صفوف الحزب وكوادره، والعمل في صحيفتَيه «الجديد» و»الاتحاد»؛ التقى درويش بقادة الحزب الفلسطينيين، من أمثال إميل توما وتوفيق طوبي وإميل حبيبي؛ وكان، أصلاً، قد تأثر بالفكر الماركسي من خلال نمر مرقص، أستاذه في ثانوية كفر ياسيف، الذي لعب دوراً مبكراً في تشجيع ميوله إلى الشعر.

وفي وسع المرء أن يعود إلى حوار مع الشاعر، أجراه محمد سعيد محمدية في موسكو خلال إقامة درويش فيها كطالب، تضمن سؤالاً عن الماركسية، وهل أثّر إيمانه بالمنهج الاشتراكي في صياغة شعره؛ فأجاب: «في الصياغة لا أعتقد. إنه ترك أثراً حاداً في الجوهر والمضمون، والمنهج الاشتراكي ليس شكلاً، إنه مضمون. المنهج الاشتراكي العلمي أعطاني الأسلوب أو المنهج لفهم التطور الاجتماعي والتاريخي، وأغنى رؤياي وآفاقي بالأمل الواعي، وفسّر لي السؤال الصعب الموجه باستمرار لكل البشرية، وهو: ما هو سرّ تحمّل البشرية لكلّ هذه الآلام، ومعنى استمرارها مصلوبة على هذا الصليب الكبير؟».

لم تقتبس أبو عيد هذه الفقرة، للأسف، لكنها في المقابل عادت إلى ما يقوله درويش عن تجربته في جريدة «الاتحاد»، احتفاءً بالذكرى الستين لتأسيسها (1944 ـ 2004): «لعلي كنت في مدرسة لا جريدة. هناك تعلمت الكتابة الصحافية، من صياغة الخبر إلى التقرير إلى الريبورتاج إلى المقالة والافتتاحية. وهناك تعلمت المشي على طريق المستقبل بثقة الشباب الممتلئ حماسة. وهناك أيضاً تعلمت الاهتداء إلى ذاتي وإلى علاقتها بالجماعة». أيضاً، لم تكن «الاتحاد» في نظره «جريدة إخبارية، بقدر ما كانت ورشة عمل لاجتراح الأمل للخارجين من ليل النكبة. لقد أسهمت في بلورة وعينا بحقوقنا القومية، وبحقوقنا كمواطنين في دولة ليست لنا! وساعدتنا في التعرّف على هويتنا الثقافية التي كانت مهددة بالتشظي والتمزق، ومنها وصلت أصواتنا الشعرية إلى العالم».

يصحّ القول، في هذا الطور من حياة درويش، أنّ تحزّبه الجوهري، ماركسياً كان أم قومياً، اتخذ صفة مناهضة الشخصية العنصرية للدولة الإسرائيلية، والتشديد على الهوية الوطنية الفلسطينية؛ الأمر الذي قاده إلى السجن خمس مرّات، إدارياً وعسكرياً دائماً، دونما محاكمة غالباً: السجن الأول، سنة 1961؛ والثاني، 1965، بسبب سفره إلى القدس دون إذن، والمشاركة في مهرجان شعري أقامه اتحاد الطلاب العرب هناك (حيث ألقى قصيدة «نشيد للرجال»، التي يقول مطلعها: «لأجملِ ضفة أمشي/ فلا تحزنْ على قدمي/ من الأشواكْ/ إن خطاي مثل الشمسِ/ لا تقوى بدونِ دمي!/ لأجملِ ضفة أمشي/ فلا تحزنْ على قلبي/ من القرصانْ/ إن فؤادي المعجون كالأرضِ/ نسيمٌ في يد الحبّ/ وبارودٌ على البغضِ!». وفي سجن الرملة، تحديداً، كتب درويش عدداً من أرفع قصائده خلال هذا الطور في حياته الشعرية

وأمّا في أطوار لاحقة، وإلى جانب تحزّب أوّل حاسم لصالح فنّ الشعر، فقد انحاز درويش إلى خيار المثقف النقدي الذي يصدح بالحقّ والحقيقة في وجه السلطة، حسب تعبير مواطنه إدوارد سعيد، كما تساجل أبو عيد بعمق ورصانة.

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى