مراجعات كتب

نكران الثقافات

 

 

صدر عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، «نكران الثقافات» لعالم الاجتماع الفرنسي صاحب «المواطنة المدنية تحت الاختبار» (1959)، و«التوترات المدينية والاحتجاجات خاصية فرنسية» (2005) وفي بلاد الاغتراب، حياة مهاجرين من الساحل الى المنطقة الباريسية (2013)، ترجمة الزميل والباحث والصحافي سليمان رياشي، المتمكن وذي الخبرة، والتدقيق في النقل الى العربية. من ترجماته «أوروبا والمتوسط» لبشاره خطر، و«انتصار المواطن» لبيار رونزانفالان، و»الشهابية» لمروان حرب.

انه كتاب علمي دقيق، يتوغل في عمق ازمة المهاجرين العرب والأفارقة والآسيويين في البلدان الأوروبية وخصوصا فرنسا واشكالية محاولات ادماجهم في البلدان المضيفة، واستغلالهم في بعض الفترات. وهو يتناول هذه المواضيع من وجوهها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبنى العائلية وأنماطها، واثر هؤلاء في المساهمة في تعددية المجتمع الفرنسي، اثنياً، دينياً وثقافياً.

قام الزميل سليمان رياشي بمهمة دقيقة في ترجمة هذا الكتاب الضخم، ذي المصطلحات المحددة، وذي اللغة التقنية والعلمية المجردة.. وقد تمكن رياشي ذو الثقافة والخبرة الواسعتين، من تجسيد النص بنص مترجم باخلاص، وبحيوية، وبنفاذ الى عمق الاسلوب والفكرة والاختصاص.

وضع سليمان رياشي احدى مقدمات الكتاب ونشرها كاملة.

يضع «المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات» بين أيدي المتخصصين والباحثين العرب والقراء كتاب نكران الثقافات للباحث الفرنسي هوغ لاغرانج (Hugues Lagrange). لدى تعريبه عنوان الكتاب تردد المترجم أمام مفردتي «إنكار» و»نكران»، ففضل الثانية لأنها تعبر بصورة ادق عن الحالة، واقرب الى روح النص الفرنسي، ويبقى على القارئ ان يحكم في النهاية ايا من المفردتين اقرب الى الصواب.

يعالج الكتاب مشكلة ادماج المهاجرين العرب والافارقة والآسيويين في البلدان الأوروبية، خصوصا فرنسا، فهو يعكف، في مدى مئات الصفحات على دراسة وتحقيب هذه الهجرات المتتالية في ضوء حاجة الاقتصاد الفرنسي الى اليد العاملة الأجنبية خلال فترة الازدهار الاقتصادي التي اعقبت الحرب العالمية الثانية. يتبنى الكاتب مصطلح «العقود الثلاثة المجيدة» في فترة الازدهار وكذلك فترات الركود وتفاقم مشكلات البطالة وتبدل المزاج الرسمي والشعبي تجاه قضية الهجرة والمهاجرين، ويتناول بالتفصيل تطورات السياسات الرسمية وفق تعاقب «اليسار» و«اليمين» على السلطة ونقاط التقاطع والفصل بينهما، مشيراً الى حدود التمايز كلما وجد الى ذلك سبيلا. كما يناقش بالتفصيل المفاهيم التي حكمت تعاطي السلطات الرسمية الفرنسية وكذلك أجهزة صناعة الرأي تجاه الهجرة، أو في ضوء تطور موجات الهجرة وطبيعتها وجوانبها المباشرة وخلفياتها. وهو اذ يميز بين هجرة «العقود الثلاثة المجيدة» التي انعشتها حاجة الصناعة الى العمالة وسعيها الى استقدام العاملين، والهجرات «غير الشرعية» التي تفاقمت منذ حقبة الثمانينات تحت ضغط الازمات الاقتصادية والمناخية البيئية وتفاوتات الدخل والحروب الأهلية والاضطهادات السياسية او الطائفية او العرقية في بلدان المصدر التي تحولت الى بلدان طاردة، فانه يستفيض في اكثر من سياق، في شرح تداعيات هجرات الموجة الثانية في تزامنها مع تداعيات مرحلة كاملة تلت «السنوات المجيدة» في بلدان الاستقبال، وخصوصا فرنسا. وهذا في ما يتعلق بتوسع البطالة وتفاقم التفاوت الاجتماعي والاستقطاب المتميز بتكدس الثروات من ناحية، والافقار وتراجع «دولة الرعاية» من ناحية ثانية، ومدى تأثير ذلك في نظرة السلطات الرسمية وشبه الرسمية وتعاطيها مع الهجرة، وكذلك المجتمع السياسي ممثلا بأحزابه، ومنظمات المجتمع المدني كما تجلت في الاعلام ومؤسسات الرأي وبرامج الأحزاب وفي نتائج الانتخابات التشريعية من دورة الى اخرى وبين عهد وآخر، وصولا الى متابعة ردود فعل المهاجرين الصاخبة في الشوارع في محطات عديدة، او انكفائهم وانطوائهم نتيجة لما جابههم به الواقع المستجد، أكان ذلك في الدولة وادارتها السياسية والأمنية ام في المجتمع. كل ذلك في ظل تأثير العولمة في طرفي معادلة الهجرة ومجتمعات الاستقبال، وهي عولمة اقتصادية ليبرالية جديدة شرعت حرية انتقال رأس المال والسلع والاعلام وتفننت في سد المنافذ امام الانتقال الشرعي للبشر من بلد الى آخر، وضربت في الصميم دولة الرعاية في بلدان الاستقبال، وزادت من نسبة الافقار ومن هشاشة الطبقات الوسطى في مجتمعات الاستقبال التي باتت شرائح منها ترى في المهاجرين شرا لا يعوضه نفع، مع ما يرافق ذلك من ازدهار الأحكام المسبقة واشكال من العنصرية تغتذي من طروحات اليمين السياسي وتغذيها في الوقت نفسه. وقد رافقت العولمة الاقتصادية هذه عولمة ثقافية، سلمت شكلا بتعددية الثقافات، لكنها تنتقل الى الاعتراف الفعلي بخصوصية هذه الثقافات، فيما بقي موضوع الثقافات جزءاً من سياق الهيمنة الكونية.

في سياق نظرته الشاملة والمقارنة لأحوال عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية والعالم الراهن، وتحليله لأحوال مجتمعات الهجرة في بلدان الاستقبال وعلى وجه خاص في فرنسا، يتطرق لاغرانج الى الثقافة الاصلية للمهاجرين بوصفها محمولا بالغ الأهمية في تعاطي هؤلاء مع المجتمعات الجديدة. وهو يعتقد جازماً بأن نكران هذه الثقافات، كما نكران الثقافات الفرعية المتولدة عن احتكاك ثقافة الاصل مع ثقافة مجتمع الاستقبال، يقعان في اساس تعثر، بل اخفاق عملية ادماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة. كما يرى ان محاولات التيار المركزي قرض الثقافة «الجمهورانية الفرنسانية» على مهاجرين من ثقافات مختلفة، وعدم اخذ ثقافاتهم هذه في الاعتبار، دفعت باتجاه عملية مزدوجة: فمن ناحية شجعت على تقوقع المجتمع المحلي الفرنسي على نفسه في وضع استعلائي من «الرضى عن الذات»، يمارس الازدواجية عبر اشهار القيم الجمهورية والاصرار على حفظ المسافة البينة مع مجتمع او مجتمعات الهجرة، ومن ناحية ثانية شجعت انكفاء المهاجرين نحو ترسيخ الصلة بقيمهم الاصلية واحيائهم التقاليد البطريركية، فانعكس ذلك على بنية الاسرة، وخصوصا الاناث فيها، وعلى وضع المرأة بوصفها أما وكائناً منقوص الاستقلالية بعيدا من سياسة «تمكين» حقيقية تحفظ للمرأة كرامتها واستقلاليتها.

يشرح لاغرانج هذه الفكرة المركزية بصورة واسعة وتفصيلية من خلال تسليطه الضوء على مجتمعات الهجرة الافريقية، وخصوصاً مجتمعات الساحل الافريقي، وعلى أنماط عيشها وإنتاجها. وهو في هذا يميز اقتصاد الغابة ومجتمعها، ويدرس بقدر من التفصيل اثنيات الساحل والفروق بين أنماط عيشها والتشابه والاختلاف في بناها العائلية، وذلك وفق منهج ثقافي وأنثروبولوجي سياسي محكم، مقارنا بين بنية العائلة الساحلية غير المسلمة وبنية العائلة المسلمة، وشارحاً كيف عزز الاسلام السلفي الوافد من الشرق العربي، وخصوصا السلفية الوهابية، البنية البطريركية في مجتمعات الساحل الافريقي.

[ موجات الهجرات الأفريقية

وبعد استعراض تحليلي واسع وتفصيلي للبنى الاثنية، يتناول الكاتب موجات الهجرة الافريقية بدءاً من ثمانينات القرن الماضي بظروفها الاقتصادية المستجدة محلياً وفي مجتمع الاستقبال، مركزاً على الاتساع الهائل للفجوة في الداخل بين البلدان الافريقية وبلدان أوروبا، ما يشكل دافعاً اضافياً للهجرة بوجهيها الشرعي وغير الشرعي، والاستقطاب الكبير في الغنى والفقر في مجتمعات الهجرة ومجتمعات الاستقبال. وفي بلد الاستقبال، يتابع الكاتب بصبر لافت سيرورة تشكل الثقافات الفرعية الناتجة عن الهجرة، وكذلك صيرورتها، عبر تفحص دقيق للسياسات الرسمية الدولية والمؤسسات الاجتماعية والتربوية مستعيناً بالاحصاءات المتاحة الغزيرة، وباللوحات التوضيحية، ويتحاور مع المؤسسات ومع السياسات الرسمية ومع اقرانه من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، فيدحض بالوقائع الكثيرة فكرة الدمج الاجتماعي والثقافي، ويؤكد ان لا مناص للتيار المركزي الفرنسي من التخلي عن ادعاء الأحادية والتسليم بأن المجتمع الفرنسي، شأنه في ذلك شأن مجتمعات أوروبية عديدة، قد اصبح مجتمعاً تعددياً، وعليه ان يسلم بهذه التعددية الثقافية ويحترمها. ولذلك يحارب الكاتب من دون هوادة فكرة الادماج والاصرار عليها، ويدعو الى ممارسة سياسة تقوم على احترام الثقافات الفرعية المتبلورة على الارض الفرنسية. وهو إذ يستعيد افكار كلود ليفي ستروس في كتابيه العرق والثقافة والعرق والتاريخ، فانه يشير خصوصا الى التقرير الذي قدمه ستروس الى الأمم المتحدة العام 1964.

[ ثغرة

يعتمد لاغرانج في رسم الاطار العام لأطروحته عن مركزية المسألة الثقافية في موضوع الادماج الثقافي والاجتماعي، على منهج محكم، ويبدي قدرة على الامساك بتلابيب الموضوع ويقدم بعض المفيد من كل شيء على طريقة العديد من المثقفين الفرنسيين، والباريسيين منهم على وجه الخصوص. ففي بحثه من الاقتصاد ما يفيد في الاضاءة على موضوع الهجرة بموجاتها ودوافعها المختلفة، وما يفيد عن سيادة الليبرالية الجديدة في اطار العولمة وآثارها في الاستقطاب والتوتر في مجتمعات الاستقبال، ما ساهم في تحويلها مجتمعات طاردة للهجرة. وفيه ايضا من المقارنات المفيدة جداً بين المهاجرين السود الى فرنسا ومهاجري الكاريبي الى الولايات المتحدة، ومقارنات مضيئة في البنى الذهنية ونظام القيم بين مهاجري الساحل والمغرب العربي وتركيا ومهاجري شرق آسيا وخصوصا المهاجرين الكوريين الذين يميزهم على صعيد تعلقهم بقيم العمل، ويربط ذلك بالثقافة التي حملوها معهم، من دون ان يوضح ما إذا كان هؤلاء الكوريون قادمين من المدن أو الارياف. ولكن في الكتاب ثغرة لم يلجها الكاتب، بل دار حولها بملاحظات من هنا وهناك، ونقصد تجنب الخوض المنهجي في المرحلة الاستعمارية وتداعياتها الأكيدة على موضوع الهجرة، والتصور الذي اجتهد الكاتب كثيراً في بلورته لجهة توفير سبل اندماج المهاجرين في مجتمعات الاستقبال. فطالما ان الأمر يتعلق ببلدان حكمتها الامبراطورية الفرنسية واستغلت مواردها وجندت ابناءها في جيوشها فحاربوا تحت امرتها حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية في حروبها الاستعمارية، فان كثيرين من ابناء موجات الهجرة الأولى وما تلاها كانوا يطأون ارض الاستقبال، وهي فرنسية، بشعور الدائن القادم ليستوفي دينه، أو في الاقل ينتظر حضناً دافئاً او عرفاناً بالجميل. فظاهرة التجنيد في جيوش الامبراطورية شملت مئات الآلاف، والمهاجرون يفدون مشبعين بقصص بطولات «محاربيهم القدماء»، أي آبائهم وأجدادهم، الحقيقية أو الوهمية منها.

يصل المهاجر ليسكن في أحد احياء الهجرة، ويرسل ابناءه الى مدارس تكرس اسماء اعلام الثقافة والفنون الفرنسية. وقد لفت نظرنا في الحشد من اسماء الاحياء والمدارس التي يوردها المؤلف، غياب اسم الشاعر ورجل الدولة السنغالي ليوبولد سنغور الذي نصبته فرنسا رئيساً للفرنكوفونية واعتبرته علماً من أعلام الشعر الفرنسي، وهذا على سبيل المثال وليس الحصر.

أما عندما يتعلق الأمر ببلدان المغرب العربي، فان هذه الثغرة تصبح اشد اتساعا ومأوساوية نتيجة العلاقة الخصوصية التي نشأت بين شعب المتروبول وشعوب المغرب العربي، والمواجهات الدومية التي حصلت بدءاً من العام 1830 في الجزائر وملابسات مرحلة الحماية التي نشأت في المغرب وتونس منذ مطلع القرن العشرين. وعندما يتعلق الامر بالجزائر فالمشكلة تزداد تعقيداً ويصبح غياب طرحها على حقيقتها في صلب المسالة الثقافية، مصدر ارباك وارتباك.

[ تميز الجزائر

لقد تميزت الجزائر في الحقبة الاستعمارية بخاصيتين اثنتين: الاولى انها شهدت استعماراً استيطانياً، حيث لم يكن ذلك الاستيطان احلالياً كما في الحالة الصهيونية وفق الشعار الشهير البائس «ارض بلا شعب لشعب بلا ارض«، بل ان الاستعمار الفرنسي سعى الى مصادرة الاراضي الخصبة في شمال البلاد لصالح المعمرين الفرنسيين ممن سوف يسمون بالأرجل السود (PPieds noirs) ومارست فرنسا استغلال الفلاحين الجزائريين كيد عاملة في الزراعة وفق ما كان معمولاً به في أكثر من مستعمرة فرنسية أو بريطانية أو سواها. وسوف تكون لهذه الخاصية الاستيطانية أبعاد خطيرة العواقب سنأتي على ذكرها في سياق هذه الملاحظات الموجزة. أما الخاصية الثانية التي تتشارك فيها الجزائر مع المغرب وتونس، ولو بدرجة أقل حدة، فتمثّلت بعمل استئصالي دؤوب للثقافة واللغة العربيتين وخصوصاً في الجزائر، والقيام بمحاولة تفتيت للبنى التقليدية السياسية والاجتماعية والثقافية ليس لمصلحة مشروع تحديثي على المثال الأوروبي، بل من خلال ممارسة ازدواجية فاقعة في المعايير والقيم وعلى كل صعيد، وخلق الشرخ وتوسيعه بين العرب والأمازيغ على الصُعد السياسية والاجتماعية والثقافية. ومن يطالع ويتمعّن في «الظهير البربري» الصادر في العام 1928 في المغرب، يدرك كم أن الشعب المغربي قاوم هذا النهج بشدة، ورأى فيه نكوصاً واضحاً نحو الأعراف والتقاليد الأمازيغية ومحاولة فصل بين العرب والبربر، وليس خطوة نحو التحديث بمعناه الأوروبي. فالمطلوب هو إحداث الشرخ بين مكوّنات المجتمعات المغاربية والحرص على إدامته وتوسيعه. وهذا ينطبق على سياسة التمييز النسبية، ولكن المنهجية التي مارستها الإدارة الاستعمارية في الجزائر والمغرب العربي عموماً. وليس المطلوب في سياق هذا العرض التوقف عند مآلات هذه السياسة ومدى نجاحها أو إخفاقها، بل الإشارة إلى أن مفاعيلها كانت سلبية وتعطيلية في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار وفي المرحلة الاستقلالية التي تلتها. والمشكلة أن هذه السياسة ما زالت قائمة، ولا تزال مؤسسات رسمية تتبناها في فرنسا. ليس موضوع الجدال إحياء الثقافة الأمازيغية وتطويرها، فهي ثقافة محترمة ككل الثقافات، بل في السياق والدينامية اللذين جرت وتجري من خلالهما هذه العملية. وهما سياق ودينامية انشقاقيان وتفتيتيان لا يساهمان في شد أواصر المجتمعات المغاربية محلياً ولا وسط الجاليات المغاربية التي تمثل أكثر من نصف المهاجرين في فرنسا. ثم إن الجالية الجزائرية هي الأكبر بين جاليات المغرب العربي بسبب التاريخ ومخططات الإدارة الاستعمارية التي لم يُكتب لها النجاح كاملة. لذا، ليس نافلاً التساؤل بشأن معنى أن يقيم المهاجرون المغاربيون في مدن الهجرة ويرتاد أبناؤهم مدارس تحمل أسماء أعلام ثقافية فرنسية من دون أن يكون فيها ذكر لأعلام تاريخهم وثقافتهم، وهم يعتبرون أنفسهم ورثة تاريخ وثقافة. وهؤلاء الأعلام وهذه الثقافة ليست مجهولة من النخب الفرنسية، بل من جمهور عريض أحياناً. وعلى سبيل المثال وليس الحصر: الأمير عبدالقادر الجزائري قاتل المحتلين الفرنسيين بشرف ونبل وعندما هُزم صالحهم بشرف ونبل كذلك، وهو يحتل في الوعي الفرنسي مكانة إيجابية، سواء عندما كان في الجزائر أو عندما أقام في فرنسا أو عندما ارتحل عنها إلى سوريا. أفلم يكن مناسباً إطلاق اسمه على مدرسة يرتادها كثرة من التلامذة الجزائريين والمغاربيين؟ وإذا كان الأمير عبدالقادر شخصية إشكالية لأسباب لا نعرفها، هل إن اسم القديس أغسطينوس، أحد أكبر اللاهوتيين الكاثوليك من مقاطعة نوميديا إبان الإمبراطورية الرومانية، وهو جزائري، يطرح إشكالية؟ أم أن اسمه يصدم المؤسسة الرسمية بعلمانيتها الخاصة؟ هل الملك محمد الخامس رجل الخصام والمصالحة مع فرنسا من أجل استقلال المغرب، شخصية صادمة؟ وهل الحبيب بورقيبة خصم فرنسا إبان الوصاية وصديقها الدائم بعدها، وباني النموذج السياسي والاجتماعي الأقرب إلى مثل الفرنسيين، أنموذج صادم؟ نحن أمام أيقونات وطنية مغاربية وهي رموز محبّبة لجاليات المغرب العربي وجسور عبور آمنة بين العرب والفرنسيين. وإذا كان قد تم تغييب أسماء هؤلاء لأنهم ليسوا مثقفين أو رسامين… إلخ، أفلم يكن ابن رشد مكرّماً ولقرون عدة في أوروبا، بوصفه ناقل الفكر الأرسطي وموفّق بين الفلسفة واللاهوت؟ وابن خلدون أليس شخصية ثقافية قدّرها المثقفون الفرنسيون واعتبره بعضهم مؤسساً لعلم الاجتماع؟ إن الرموز الثقافية العربية وسواها تشكل نقاط وصل وليس قطع مع الثقافة الفرنسية، لكن المشكلة تكمن في عدم الاعتراف الفعلي بأن للمهاجرين ثقافة أو ثقافات ليس على فرنسا أن تقبلها كما هي، بل أن تعترف بها في ظل تعددية عززتها العولمة، وأن تقتنع النخب الفرنسية المعنية بشؤون الهجرة بأن زمن الانصهار الدمجي قد انقضى لمصلحة مجتمعات تندرج فيها ثقافات متعددة تتبادل الاعتراف والتأثر.

في الذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية، ومن ضمن الشخصيات العالمية التي دعيت للاحتفاء بالمناسبة، حضر الملك المغربي الحسن الثاني، وشارك الحرس الملكي المغربي بالعرض مرتدياً زياً يعود إلى ثمانية قرون خلت، زيّ حراس يوسف بن تاشفين أمير المرابطين! وها نحن من خلال التراث والثقافة أمام دعوة للاعتراف بالندية.

ونحن في هذه المقدمة، لا نرغب في إيقاظ شياطين نائمة، بل في درء شر شياطين يقظة تزداد تحفّزاً في ضوء جملة من العوامل المتداخلة في ظل العولمة، وتزرع المصاعب في وجه التفاعل والتقارب بين الثقافات. فاللغة العربية التي طوردت بلا هوادة، لجأت إلى حمى المؤسسات الدينية في بلدان المغرب العربي الثلاثة، كما هو معروف؛ فتحوّلت هذه المؤسسات إلى الحصن الحصين الحاضن للطموحات الوطنية وخصوصاً في الجزائر، وبات الإسلام ديناً وثقافة حاضنين للوطنية، على الأخص في الجزائر، في ظاهرة تحمل أوجه شبه مع الكاثوليكية في بولندا والأرثوذكسية في اليونان. وقد حاولت الإدارة الاستعمارية بدعم واضح من المتروبول، وفي سياق السياسة الازدواجية ذاتها، اختراق هذا الحصن. وليس من قبيل المصادفة أن تشرّع فرنسا أكثر القوانين العلمانية جرأة في تاريخها العام 1950، وتطلق في الوقت نفسه حملة تنصير غير مسبوقة في الجزائر. وعلى الرغم من أن الحملة لم تؤت ثمارها، فإنها لا تفقد دلالتها على ازدواجية في المعايير ما زالت قائمة في الميدان الثقافي فضلاً عن السياسي.

ثم كيف يتعاطى جزء من الأنتلجنسيا الفرنسية، وبرعاية من المؤسسة الرسمية، مع اللغة العربية في فرنسا؟ يتم تعليم اللهجات العربية المحلية: التونسية والمغاربية والجزائرية على سبيل المثال، ويجري تقعيدها كلغات مختلفة، فيصبح الطالب الذي يتفاهم مع أقرانه من المغرب العربي من دون عسر، دارساً للغة أخرى تحاصره في خصوصيته وتحد من قدرته على التفاعل مع فضائه الثقافي الأوسع، المغاربي والعربي. وليس من شأن هذا التشريخ أن يساهم إيجاباً في الاندماج الثقافي المنشود رسمياً ولا في الاندراج الثقافي المطلوب والمأمول. أليس هذا حيفاً في حق اللغة العربية وفي بلد مثل فرنسا أعطى للعالم نخبة من خيرة المستعربين والمستشرقين؟ وهل الإعلاء من شأن الفرنكوفونية سبيله المس بموقع اللغة العربية ومكانتها؟ لأن النخبة الفرنسية كانت معنية، تعلم أكثر من غيرها أن محاولات إحلال العامية المحلية مكان اللغة العربية الجامعة في المشرق والمغرب العربيين، لم تفتح أفقاً. فلماذا، إذاً، هذا الرهان الذي ينتمي إلى عصر مضى؟!

ثم إن الثقافة الأمازيغية ثقافة محترمة بالتأكيد، وابتداع أبجدية أمازيغية أمر مطلوب، وقد قصّرت النخب العربية في ذلك. لكن الفرنسيين بادروا إلى خلق أبجدية أمازيغية بحروف لاتينية! أفلم يكن من الأجدى أن تكون هذه الأبجدية بالحرف العربي أسوة بأبجدية اللغة الفارسية أو الأبجدية الباكستانية، ويكون من شأن ذلك التقريب بين الثقافات والشعوب؟!

[ المشكلة الرئيسية

يتضح اليوم أن المشكلة الرئيسة المرتبطة بالهجرة في فرنسا تتعلق بالمغاربيين، ويكاد أن يكون وجهها الغالب جزائرياً. وهذا ليس لأن المتورطين في جريمة الهجوم على مجلة شارلي إيبدو من أصل جزائري، بل لأن المرحلة الاستعمارية بين الجزائر وفرنسا انتهت من غير أن تنتهي فعلاً، أي من دون أن تُصفّى آثارها وتداعياتها بصورة سليمة في الجانب الفرنسي خصوصاً. وليس من باب التخندق في حصون الذاكرة التذكير بأعداد الجزائريين الذين رحلوا عن بلدهم مع الفرنسيين، بعدما خدموا في الجيش الفرنسي ضد ثورة بلدهم التحررية الوطنية. هؤلاء تتراوح الأرقام المتداولة بشأنهم بين 125 و175 ألفاً من المجنّدين الذين اعتبرهم الجزائريون «خائنين لوطنهم وشعبهم». لكن كيف جرى التعامل مع هؤلاء في وطنهم الجديد، ليس من حيث منحهم الجنسية، بل من حيث إدراجهم في المجتمع الفرنسي؟ ثم مع رحيل الجيش الفرنسي، رحل ما يقرب من 800 ألف مستوطن فرنسي كانوا يعتبرون أنفسهم أسياد الجزائر. وهؤلاء رحلوا قسراً خلافاً لاتفاقية إيفيان (Evian) الجزائرية الفرنسية، وفي ظل مسلسل من العنف الإرهابي الدموي الذي نظمته ومارسته «منظمة الجيش السري» (OAS) الفرنسية من خلال حملة دموية أدت إلى رحيل مأسوي ترك جراحاً غائرة، فرنسية فرنسية وفرنسية جزائرية، تعرفها النخب الفرنسية السياسية والثقافية جيداً. ومن بين هؤلاء برزت رموز غذّت التيارات اليمينية الشوفينية الفرنسية، ولعل عنواناها الأبرز على رأس «الجبهة الوطنية» جان ماري لوبان وابنته ووريثته مارين. إن هذا الكلام ليس استطراداً نافلاً، بل دعوة ضرورية لتصفية شجاعة لإرث لم تتم تصفيته بصورة سليمة، وما زال يعتمل داخل المجتمع الفرنسي. لقد قاد فرنسي شجاع هو الجنرال شارل ديغول مرحلة تصفية الاستعمار في الجزائر وإفريقيا، ولكن فرنسا الجمهورية صاحبة الإرث العظيم في إطلاق حقوق الإنسان وترسيخها، لم تحظ، على ما نرى، بمن ينكبّ على مرحلة ما بعد الاستعمار فيصفّي آثارها لمصلحة الشعب الفرنسي والشعوب التي عانت من المرحلة الاستعمارية. ونحن إذ نقدم هذه الملاحظات، فإننا نستذكر قولاً لجان بول سارتر في معرض نقده للماركسية، حيث يعتبر أن ماركس لا يهتم بالإنسان إلا عندما يقبض أول أجر، أي العامل الأجير. وهذه العبارة، بصرف النظر عن مدى دقّتها التاريخية وصرامتها العلمية، تبقى شديدة البلاغة والإيحاء، وتقودنا إلى القول بأن المهاجر الجزائري أو المغربي أو السنغالي او المالي… لم يُولد يوم وطأت قدماه الأرض الفرنسية. إنه يحمل على منكبيه تاريخه الحقيقي والوهمي، ثقافته وأساطيره المؤسسة.

نحن مدينون كثيراً لهوغ لاغرانج بتعيينه لـ»نكران الثقافات» سبباً جوهرياً لتعثّر عملية إدراج الهجرة في الاجتماع الفرنسي، ولكننا خسرنا عدم تخصيصه حيّزاً وازناً وبارزاً للإشكالات الخاصة بالمغرب العربي، كما خسرنا عدم تعرّضه الوافي للمرحلة الاستعمارية. فهذه المرحلة، كان لها مؤرخوها وسوسيولوجيوها وأنثروبولوجيوها الفرنسيون، والكاتب لاغرانج يمتلك الجدارة العلمية والنزاهة اللتين تمكّنانه من غربلة هذا الإرث وفصل قمحه عن زؤانه لمصلحة مجتمع فرنسي تعددي ومصالحة حقيقية بينه وبين شعوب المستعمرات السابقة. وهو لو فعل ذلك لكان بالتأكيد أخذ في الاعتبار ما كتبه عبدالله العروي في تاريخ المغرب، خصوصاً ما كتبه فرانز فانون (Frantz Fanon) بشأن إفريقيا والجزائر في نصوص أربعة: جلد أسود وأقنعة بيضاء 1952، سوسيولوجية ثورة أو العام الخامس من الثورة الجزائرية 1959، معذبو الأرض 1961، ومن أجل الثورة الإفريقية 1964؛ وقد نشرت الكتب الأربعة في فرنسا وكذلك نُشر كتاب العروي باللغة الفرنسية.

يمكن الاستضافة في إعطاء الأمثلة والشواهد على هذه القضية التي اعتبرها الباحث هوغ لاغرانج، وعن حق، قضية مركزية. ونحن نعتبر هذه الفقرات القليلة في مقدمة المترجم، إضافة ضرورية، وليست نقضاً لمضمون الكتاب القيّم وخلاصاته الرئيسة. فالسياق الاستعماري، من وجهة نظرنا سياق لم ينقطع على الصعيد الثقافي، وكان يجب إلقاء الضوء عليه أكثر مما فعله الكاتب في هذه الدراسة الرصينة والنزيهة. وما دمنا في ميدان الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الثقافيين والسياسيين، فلعلّه كان من المفيد أن يلقي الباحث الضوء على ما فعلته ومهّدت له أنثروبولوجيا وسوسيولوجيا الاستعمار في البلدان التي اعتنت بدراستها، خصوصاً بلدان المغرب العربي وعلى الأخص في الجزائر.

إن جوهر الدراسة يقوم على البحث عن أفضل الوسائل لإدماج المهاجرين في المجتمع الفرنسي، واستطراداً في المجتمعات الاوروبية وسواها. يُورد الكاتب أكثر من مرة أن الفارق في الدخل كان من 1 إلى 3 بين سكان المستعمرات العام 1830 وسكان المراكز الاستعمارية. أما في العام 1960، وهو عام الاستقلالات المتسارعة، خصوصاً في إفريقيا، فقد بات الفرق من 1 إلى 14! وهذا يشكل إدانة بليغة لتلك المرحلة، ويترك جراحاً وطموحات وأوهاماً حملها المهاجرون معهم، وهو يؤشر في الوقت نفسه إلى صعوبة الفصل بين المراحل، بين مرحلة الاستعمار وما بعده، خصوصاً على الصعيد الثقافي.

لقد حرص المؤلف على ذكر أن كتابه أُنجز قبل تفجر ثورات الربيع العربي وتداعياتها، ونحن نشير إلى هذه الملاحظة لأننا على ثقة بأنه لو انكبّ على دراسة الوضع العربي الراهن لأنتج نصاً جديداً جديراً بالدراسة والتأمل. ثم إن موضوع الهجرة واندراجها في المجتمعات الأوروبية يطرح نفسه بحدّة متزايدة اليوم، وهذا عامل يعطي لدراسة هوغ لاغرانج قيمة راهنة مضافة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى