عماد الدين موسىمراجعات كتب

أنطولوجيا الشِعر النسوي الإسباني : نحو ذائقة مختلفة/ عماد الدين موسى

 

 

يبقى حالُ الترجمة في العالم العربي أشبه بحال الكتابة الإبداعيّة، تعتمد بالدرجة الأولى على الجهد الشخصيّ للمبدع وحده، فعلى الرغم من صدور العديد من الترجمات للأدب العالمي على سبيل المثال لا الحصر، ليس ثمّة استراتيجيّة واضحة يتبعها هؤلاء المترجمون وإنما نجد ما يمكن وصفه بالفوضى العارمة والعشوائيّة في اختيار العمل المُراد ترجمته، عدا عن أنها تخضع للذائقة الشخصيّة للمُترجم، ففي الوقت الذي يصدر كتاب ما بأكثر من ترجمةٍ وفي أكثر من بلد عربي، نجد هناك كتباً عديدة يتم تجاهلها، على الرغم من ذلك قليلاً ما تصدر بين الفينة والأُخرى نماذج تستوفي القيمة الجماليَّة للنصّ الأصلي ليكون بمثابة الهدية التي تبعث الطمأنينة في الذات الكاتبة، وفي الوقت عينه يغدو أملاً من الممكن أن يتطوّر لتصل الترجمة إلى مبتغاها الأصلي وهو المضيّ في تقديم باقي الثقافات نقلاً إلى اللغة العربيَّة للاستزادة وتطوير التجارب أو حتّى ربمّا صهرها.

في إصداره الجديد “رقة ماء يتبدد بين الأصابع/ أنطولوجيا شِعرية”، الصادر مؤخراً مع مجلة الفيصل الثقافية (الرياض- 2017)، ينقل الشاعر والمترجم العراقي عبد الهادي سعدون ولأوّل مرّة إلى العربيّة قصائد لست وستين شاعرة إسبانيّة مُعاصرة، بدءاً من شاعرات مولودات في القرن العشرين حتى آخر الأصوات المتميزة من آخر أجيال الشعر النسائي الإسباني لما يسمى بشعرية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.

سعدون، المقيم في إسبانيا منذ سنة 1993؛ إضافةً إلى كتابته في أكثر من حقلٍ إبداعي من شِعرٍ وقصةٍ وروايةٍ، يُعتبر بمثابة جسر للتواصل بين الثقافتين العربيّة والإسبانية، إذ يُترجم من العربيّة إلى الإسبانية وبالعكس في الآن معاً، وله العديد من الأعمال المترجمة لكتاب وشعراء عرب وإسبان.

أثر الشِعر النسائي

في تقديمه للكتاب، يؤكّد سعدون أنّ “لهذه الأصوات النسوية دوراً مهماً ومتميزاً داخل الأجيال الشِعرية الإسبانية منذ حركات التحديث منذ بداية القرن الماضي حتى اليوم”. مُشيراً بإدراجه آخر الأصوات الشابة إلى منح القارئ العربي (والأديب على وجه الخصوص) الفرصة ليطلع على ماهية شعريتهن، وما يقمن بكتابته، ومدى تقاربه أو تباعده من ذائقتنا وكتاباتنا بصورة عامة، والنسوية منها تحديداً”.

مؤكّداً على أنّ الأسماء المختارة “هي حتماً أسماء جديدة لم يسمع أو يقرأ لها القارئ العربي إلا القليل، الذي لا يتعدى بالتأكيد أصابع اليد الواحدة. لكنها أسماء شعرية كونت نفسها بشكل صلب ومتماسك، وعلى معرفة واعية بشعريتها وهدفها”. وها هنا مكمن الفائدة المُرتجاة بغية الاطّلاع الأكبر على تجارب غير معروضة سابقاً ضمن الثقافة العربيَّة.

أن تكون المرأة عمقاً وبعداً شعريَّاً مكتوباً بلغةٍ هي غير العربية ومنقولة إليها ترجمةً، فعلٌ يودي إلى سعة الإطلاع على التجارب الغيريَّة التي من الممكن أن تُفيد في حراكٍ ما، أو انقلابٍ من خلال اطّلاعٍ على تجارب أخرى في الحساسيَّات الشعريَّة، وعلى هذا الأساس يقول المترجم في مقدّمة الكتاب: “الأسماء النسوية مرت بمراحل ابتعاد وإقصاء، ومراحل نشر بأسماء ذكورية والتعكز على أسماء أزواج أو الدخول في مقاسات أدبية معينة حتى تجد لها مكانها، فاليوم وإن اختفت تلك الظواهر وأصبح الاسم الأنثوي بإمكانه مجابهة الجانب الذكوري في الثقافة والاجتهاد الأدبي والتنوع المتاح”، ذاك التنوّع هو المقصود من نشر أنطولوجيا لشاعرات إسبانيَّات معاصرات يكتبن الوجع الإنساني وفقاً للتفصيل اليوميّ الرتيب، تلك التفاصيل التي تتشابه في كلّ الأمكنة (على الأقلّ شعريَّاً) فتكتب الشاعرة غلوريا فويرتس في إحدى القصائد/المكاشفات:

أكتب في الليل

وكثيراً ما أمضي إلى الحقول

كلّ أقربائي ماتوا منذ زمن،

وحيدة، أعيش عزلتي.

نشرتُ قصائد في الروزنامات

أكتب في صحيفةٍ للأطفال وأرغب في شراء زهرة طبيعية بالأقساط

من تلك التي يهدونها لـ”بيمان” في مناسباتٍ عديدة.

غلبة النمط القصير

يغلب على القصائد المختارة في هذا الكتاب النمط القصير والقصير جداً، بواقع ثلاث قصائد لكل شاعرة، أي ما مجموعه مئة وثمان وتسعون قصيدة، مع تعريف موجز بكل واحدة منهن، ذلك يشكّل نماذج غائبة عن الثقافة العربيَّة من ناحية الاطّلاع وصعوبة كصعوبة اللغة الإسبانيَّة، حيث التقاطع مع الثقافة العربيَّة وتكرار ذات الأبعاد الكتابيَّة إن جاز التعبير. ولعلّ ما يلفتُ الانتباه هو العنوان ذاته المختار للأنطولوجيا (رقّة ماء يتبدّد بين الأصابع) هذا العنوان المُحيل إلى الرقّة في الكلمات والدقّة في تصنيف المشهد الشعريّ المختلف، الآخر الذي يمنحُ الكتابةَ بُعداً مغايراً ومتفقاً في الآن ذاته، من خلال نصوصٍ/ومضات يمكن الاتّكاء على جماليتها لفرز كامل الأصوات الواردة في الأنطولوجيا. تكتب أيضاً الشاعرة غلوريا فويرتس بشكلٍ مقتضبٍ صريح:

زجاج غيبتك آذى صوتي

المبدد ليلاً

في صحراء قبتي الجليديَّة.

أردت أن أكون ملاكاً ولست سوى ذئبة.

أردت أن أكون منيرة لك

لكنني لست سوى ظلامٍ تابع لي.

قصائد الأنطولوجيا برمّتها تعكس شاعريَّة من الممكن القول عنها إنّها غريبة بعض الشيء عن الذائقة العربيَّة، وإن كانت تلتقي في بعض الأنحاء اعتماداً على مبدأ أنّ الشعراء يكتبون قصيدةً واحدة، كما وأنّها غير مقروءة بحكم عملية الترجمة التي تنسى أو ربمّا تتناسى عن نقل تجارب ضروريَّة كهذه، لكن هذه التجارب وعرضها من الممكن أن يساهما في توسيع الرؤى الكتابيَّة الحديثة من خلال التأثّر الذي يفضي بدوره إلى طرق وأساليب جديدة.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى