صفحات سوريةعمر قدور

إسرائيل كأداة معايرة وتعيير/ عمر قدور

 

 

 

يبدو أن بعضاً من الحرج قد أصاب تنظيم “داعش” بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة، ما دفعه إلى تبرير قتاله في سوريا والعراق وعدم قتاله الإسرائيليين. الرد الـ”داعشي” على “تويتر” استشهد بالقرآن الذي حضّ على قتال المنافقين “العدو القريب” لأنهم أشدّ خطراً من الكافرين، واستشهد بحروب الردّة التي كانت لها الأولوية على تحرير القدس، وأيضاً بحرب صلاح الدين الأيوبي على الشيعة قبل توجهه إلى بيت المقدس. أما حزب الله والنظام السوري فليس من المرجّح أن يشعرا بالحرج الداعشي، لأنهما سبقا التنظيم بأشواط حين أعلنا أنهما يقاتلان إسرائيل في سوريا، وعليه لا يصعب عليهما القول بأن معركتهما على غزة لا تعدو كونها انتقاماً لهزيمتها في سوريا، وهكذا تكون إسرائيل قد هزمت مرتين؛ مرة بالحرب الذي يشنّها النظام وحزب الله على السوريين، ومرة أخرى بقصفها “الجبان” لفلسطينيي غزة.

قد يجد البعض أن مجرّد اضطرار “داعش” وحزب الله ومجمل حلف الممانعة وأطنابهم إلى تبرير تقاعسهم عن نجدة الفلسطينيين هو انتصار للقضية الفلسطينية، لأنه يحافظ على أولويتها في المنطقة، مثلما يجد البعض الآخر في التبريرات الركيكة فرصة للانقضاض عليهم واتهامهم بالتخلي عن القضية المركزية. لكن في أغلب الحالات لا يمكن إنكار عودة إسرائيل إلى الواجهة كأداة معايرة وتعيير. فهي أداة معايرة من جهة الذين يقارنون هجومها الوحشي الحالي على غزة بحروب الطغاة العرب على شعوبهم، بخاصة حرب النظام السوري الحالية، وهي أيضاً أداة معايرة حيث الموقف منها “وهو لفظي أو وجداني دائماً” تعلو أهميته على عموم قضايا المنطقة، إذ لا يخلو من دلالة أن يحظى الفلسطينيون بتعاطف سريع وواسع تمنّى السوريون الحصول على مثله خلال ثلاث سنوات من الوقوع تحت قصف قوات النظام.

الطريف أن النظام السوري بادر فوراً إلى مطالبة المجتمع الدولي بالتدخل في غزة، مضيفاً إلى ذلك مطالبة “ما يسمّى الجامعة العربية” بحسب تعبير وكالة الأنباء الرسمية “سانا”، وهو بذلك يقصد تعيير الجامعة العربية بعد قدرتها على اتخاذ قرارات ذات جدوى في الشأن الفلسطيني، وربما من طرف خفي تعييرها بعدم قدرتها في وقت سابق على إلزام النظام السوري نفسه بأي بند من بنود مبادرتها آنذاك. والنظام الذي يعيّر الجامعة العربية والمجتمع الدولي بالعدوان الإسرائيلي سبق له أيضاً عدم الالتزام بالقرارات الدولية، وبخاصة منها القرار الذي ينصّ على إدخال مساعدات غذائية للمنكوبين. إلا أنه ربما وجد فرصته أخيراً للانتقام من أعدائه، فقد سبق تعييره بإسرائيل أيضاً عندما كان طيران الأخيرة يقصف مواقع سورية متى يشاء، من دون ردّ من قواته المنشغلة في قتل السوريين. أيضاً، نستذكر هنا المقارنات التي عقدها السوريون بين السلوك الوحشي للنظام ولإسرائيل منذ مستهل الثورة، حيث كان مجرد التشبيه يُعتبر شتيمة كبرى للنظام، ذلك قبل أن ينكشف تهافت المقارنة بميل كفة الوحشية نهائياً لصالح الأخير.

في كل الأحوال، تحضر إسرائيل في الوجدان والثقافة السائدين بوصفها شراًّ مطلقاً، وعلى المستوى السياسي تحضر كقضية لا يجوز الاختلاف حول العداء المطلق لها. أي جرم ترتكبه إسرائيل تنبغي إدانته قبل الدخول في التحليل السياسي، بينما الجرائم التي ترتكبها الأنظمة تخضع غالباً للتحليل السياسي قبل الوصول إلى حكم أخلاقي مختَلف عليه، فيأخذ الفلسطيني قيمته من عدوّه “الخارجي” لا من إنسانيته، ويجري التغاضي حتى عن انتهاك حقوقه من قبل سلطتيه “في الضفة والقطاع”، تماماً مثلما يُعتبر انتهاك حقوق السوريين في بلدهم شأناً سياسياً أدنى. هذا لا شك يلغي استخدام إسرائيل كمعيار، على كثرة استخدامها هكذا، إذ تبقى معياريتها أسيرة الإنشاء اللفظي، وحتى عندما يتوصل الكثير من العرب مثلاً إلى الخلاصة القائلة بأن وحشية النظام السوري فاقت بمراحل وحشية المحتل الإسرائيلي فذلك لا يرتّب على أصحاب هذه القناعة عداء له يوازي عداءهم لإسرائيل.

غير أن أهم ما في استخدام إسرائيل كمعيار أو تعيير هو استلهام الأفكار ذاتها التي روّجتها الأنظمة المستبدّة والتنظيمات المشابهة لها، ولو بذريعة استخدام السلاح نفسه ضد أصحابه الأصليين. ففي هذا المضمار لن يؤذي “داعش” أو حزب الله أو حلف الممانعة سوق المآخذ على أدائهم تجاه إسرائيل، وربما كان تبرير “داعش” هو الأصدق والأكثر وضوحاً. فاستخدام إسرائيل المتبادَل يحقق غاية الأنظمة والتنظيمات إذ يحرّف النقاش عما يفعلانه في الداخل، حيث يخوضان معركتهما الأصل. وإذا بات مألوفاً منذ زمن طويل القول بأن الأنظمة العربية استخدمت إسرائيل للتغطية على جرائمها فلن يكون مفيداً إثبات ذلك مع كل اعتداء إسرائيلي جديد. على سبيل المثال، كان حزب الله واضحاً في أن إسرائيله أضحت في القصير ويبرود السوريتين، وكان النظام السوري واضحاً في أن ردّه على الغارات الإسرائيلية في مزيد من قتل “عملائها” السوريين، كذلك هي داعش واضحة في إسرائيلها الخاصة. المشكلة تقتصر على أولئك الذين لا زالوا لا يرون شرّاً سوى في إسرائيل، ويظنّون العداء لها كفيلاً بجمع المتناقضين، وبالطبع يعتقدون بوجود إسرائيل واحدة في المنطقة!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى