صفحات العالم

إعادة تأسيس لبنان

 

حسام عيتاني

في أقل من نصف قرن، وجد اللبنانيون أنفسهم، مرة ثانية، أمام مهمة إعادة تأسيس بلدهم.

ليس من مبالغة في القول إن أوجه الخراب امتدت لتشمل كل نواحي الحياة وأن الإفلاس هو السمة العامة، سواء في رؤية الدولة لنفسها وفي الحياة السياسية العامة. فلم يعد على الساحة اللبنانية غير سياسات الهوية والغيتوات المغلقة والتحشيد الطائفي ودعاة الحروب المذهبية المقبلة. وتُدار الصراعات السياسية، مثلما تُبنى التحالفات، على أسس التوجس الأقلوي والخوف من الأيام المقبلة والعداء الراسخ لكل تغيير.

تشي حالة التفكك التي يعيشها لبنان اليوم، أن المهمة تشمل مؤسسات الدولة والنظام السياسي والعلاقات الداخلية وموقع لبنان في المنطقة والعالم ووظيفته، إضافة طبعاً إلى الاقتصاد السائر من سيء إلى أسوأ وسط أزمة اجتماعية حادة تعصف خصوصاً بالأجيال الشابة.

وليس سراً أن أعداداً كبيرة من اللبنانيين لم تعد مقتنعة بالتسوية التي أرساها اتفاق الطائف الذي جاء في إطار موازين قوى محلية ودولية تغيرت اليوم جذرياً. فالتقاطع السوري – السعودي انتهى باغتيال رفيق الحريري، وفشلت محاولات إحياء (التقاطع) في 2008-2009. وسحب الأميركيون تفويضهم النظام السوري إدارة الشأن اللبناني في 2005. وبسبب الفشل الذريع في بناء الدولة في حقبة «السلام السوري» (1990-2005)، عاد لبنان ساحة لتظهير التوازنات الإقليمية والدولية. وبعد الثورات العربية، خسر لبنان المزيد من دوره، حتى كساحة للصراعات وتبادل الرسائل العربية والدولية ونُحّيَ جانباً في انتظار اتضاح الصورة الأكبر التي ترتسم اليوم في أماكن أخرى.

اضمحلال الدور الإقليمي، بوجهيه السياسي والاقتصادي، وحالة الانتظار الطويلة لما ستسفر عنه الثورة السورية، تحديداً، يسير يداً بيد مع تعمق الفرز المذهبي في لبنان وتكريس مناخ من الاستعصاء على إدارة البلاد، ولو في حدود توفير الخدمات اليومية للمواطنين.

وربما تمكنت الحكومة التي يجري البحث في تشكيلها حالياً، من تحقيق بعض الانفراج الموضعي وتخفيف حالة الاحتقان على المدى القصير (عندما تتشكل)، لكن من الجلي أنها لن تكون مؤهلة لطرح القضية الوطنية اللبنانية بأبعادها التأسيسية والميثاقية، ناهيك عن علاجها والتقدم صوب اتفاق تاريخي جديد بين اللبنانيين.

فلا الموازين الداخلية واضحة بعد، ولا مجال للحديث عن رعاية عربية أو دولية لأي تسوية كبرى في لبنان، طالما أن مرجل التغيير في المنطقة العربية يغلي ويحفل بالمفاجآت.

يضاف إلى ذلك أن المناخ الذي عممته دعاية الرعب الأقلوي، أو ما بات يطلق عليه «السنّوفوبيا»، يحول عملياً دون التقدم على جبهتين. جبهة صوغ العلاقات الطائفية وفق الأحجام الواقعية من دون ضمانات مبالغ فيها للأقليات المذعورة. وجبهة بناء دولة المواطنة الديموقراطية والمدنية التي تتعامل مع المواطن الفرد الحر. عليه، يبدو أفق التغيير الداخلي مسدوداً سواء على المستويين الطائفي والمدني. وأن مسار الأمور يتجه إلى المزيد من انتظار التغيير من الخارج، وسط النزيف اليومي في ما تبقى من مساحات مشتركة ومعانٍ للمواطنة.

في الختام، يتعين القول إن هذا الضرب من النزف البطيء يبقى أقل كلفة من الدعوات العدمية إلى الإطاحة بالدولة، وفق منطق الخراب الدائم.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى