صفحات الثقافة

إلا أن تنساها/ ناصر كامل

 

 

1

«إن كل ذلك هراء»، كان هذا رد أنتونين دفورجاك (1841 – 1904)، الموسيقار التشيكي، على مئات الصفحات التي كُتبت عن تأثره الواضح؛ في سيمفونيته التاسعة المسماة «من العالم الجديد»؛ بموسيقى الهنود الحمر وموسيقى الجاز في أميركا، لكن النقد الموسيقي من وقتها، وإلى الآن، يعاود التدليل على أن سيمفونية دفورجاك التاسعة؛ التي كتبها إبان إقامته في أميركا لثلاث سنوات، مديرا لمعهد الموسيقى الوطني في نيويورك (1892- 1894)؛ احتوت على تأثيرات كثيرة بموسيقى الهنود الحمر وموسيقى الجاز، كما تضمنت «اقتباسات» – للمفارقة – من سيمفونية بيتهوفن التاسعة، وستكون الحجة الحاسمة المضادة لجملة دفورجاك المستهجنة: إن الموسيقيين يفعلون ذلك – يتأثرون ويقتبسون – كثيرا.

2

يقبل المسرحيون بأبعد من التأثر، فجانب هائل من تاريخ المسرح قائم على مقاربات أخرى لموضوعات سبق طرحها، يخبرنا طه حسين في تقديمه لترجمته لمسرحية أندريه جيد «أوديب ثيسيوس» أن قصة أوديب «روتها الأساطير اليونانية منذ أبعد العصور؛ فقد تحدثت بها الأودسة في نشيدها الحادي عشر، كما تحدثت بها أقاصيص ثيبا نفسها بعد ذلك» ثم يذكر أن «قصة أوديب – التي وردت في أسطر قليلة فى الأودسة – قد عرض لها إيسكولوس ثم عرض لها بعده سوفوكل، ثم عرض لها بعدهما أوريبيد، ثم عرض لها شعراء آخرون من اليونان لم يجد أحد في ذلك حرجا»، ويكرر طه حسين في المقدمة التأكيد أنه «كان من الطبيعي والمألوف أن يعرض المتأخر منهم لما عرض له المتقدم، لا يجدون في ذلك حرجا، بل يجدون فيه سبيلا إلى الإجادة والإتقان».

3

في رواية «المسّرات والأوجاع» لفؤاد التكرلي يبدأ توفيق لام، الشخصية الرئيسية في الرواية، وهو يدخل عامه السابع عشر، «تاريخا طويلا وغريبا من القراءة الروائية. مارسها توفيق أولا لقضاء الوقت ثم تغلغلت في نفسه وعقله حتى صارت تتماشى مع فعل الحياة»، ويداوم توفيق على القراءة، طارحا رؤاه النقدية في الأعمال التي يقرأها، وكان رأيه أن ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) حكايات تليق بالعجائز. في الذكرى الأولى لرحيل نجيب محفوظ يقول التكرلي لعبده وازن ردا على سؤاله عن تأثير محفوظ على نتاجه الإبداعي: «لقد أثر فيّ إيجاباً حين مهّد لي ولغيري طريق الرواية ودفعني سلباً الى البحث عن لغتي القصصية ذات الدلالة الملائمة للكتابة الروائية».

4

في الحديث الشائع عن «صنعة الشعر» عند العرب تتكرر حكايات عدة عن التأثر وعلاقته بالحفظ والنسيان: في كتابه «أخبار أبي نواس» يورد ابن منظور الآتي: «استأذن أبو نواس خلفًا الأحمر في نظم الشعر، فقال له:‏ لا آذن لك في عمل الشعر إلا أن تحفظ ألف مقطوع للعرب ما بين أرجوزة وقصيدة ومقطوعة.‏ ‏فغاب عنه مدة وحضر إليه، فقال له:‏ ‏قد حفظتُها.‏ فقال له خلف الأحمر: أَنشِدْها.‏ ‏فأنشده أكثرها في عدة أيام. ثم سأله أن يأذن له في نظم الشعر، فقال له:‏ لا آذن لك إلا أن تنسى هذه الألف أرجوزة كأنك لم تحفظها.‏ فقال له:‏ ‏هذا أمرٌ يصعب عليَّ، فإني قد أتقنت حفظها.‏ ‏فقال له:‏ ‏لا آذن لك إلا أن تنساها.‏ ‏فذهب أبو نواس إلى بعض الأديرة، وخلا بنفسه، وأقام مدّة حتى نسيها. ثم حضر فقال:‏ ‏قد نسيتها حتى كأن لم أكن حفظتها قط.‏ ‏فقال له خلف:‏ ‏الآن انظم الشِّعر!»، نصيحة مشابهة تنسب للشاعر أبو تمام متعلقة بحفظ ألف بيت من أجود أشعار العرب ثم نسيانها، حتى يكون المنصوح مؤهلا لنظم الشعر، أبو تمام نفسه هو القائل «ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغ القَلْب» ضمن نصيحته المشهورة للبحتري.

تلك الحكايات إذا كانت متعلقة بطرائق «التكوين الشعري»، كما تبدو للوهلة الأولى، إلا أنها فعلت فعلها حتى في مراحل النضج والتكريس، فالحفظ والنسيان خطوات دائمة، متفق عليها في «المدونة الإرشادية» في المسار الشعري العربي القديم، بجانب خطوات أخرى تتفاوت أوجه الاتفاق والاختلاف حولها، يقدم الجاحظ اللفظ على المعنى، إذ يرى أن المعاني ملقاة على الطريق يتناولها البدوي وكل صاحب قلم، وإنما التفاضل في الشعر والنثر معا بالألفاظ، ويرى الجرجاني العكس تماما، رأي الجاحظ قد يجد سندا قويا في قصة بيتي بشار بن برد وسلم الخاسر، كان بشار يفخر بقوله:

من راقب الناس لم يظفر بحاجته/ وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

حتى قال تلميذه سلم الخاسر:

من راقب الناس مات هماً/ وفاز باللذة الجسورُ

فلما سمع بشار هذا البيت لطم وجهه وصرخ: لقد ضاع والله بيتي!

وفي كتاب «سير أعلام النبلاء» للذهبي ترجمة لسلم الخاسر، يذكر فيها أنه سلم بن عمرو بن حماد «من فحول الشعراء من تلامذة بشار بن برد، مدح المهدي والرشيد، وعكف على المخازي، ثم نسك، ثم مرق، وباع مصحفه، واشترى بثمنه ديوانا، فلقب: بالخاسر. وقد أجازه الرشيد مرة بمئة ألف. لا أعلم في أي سنة مات، لكنه مات قبل الرشيد».

المدهش في ذلك المثال؛ الذي يضرب تدليلا، مرة، على تأثر التلميذ بالأستاذ لحد محاكاته في معانيه، وثانية، على تفوق التلميذ على أستاذه، وثالثة، في سياق الانتصار لرأي الجاحظ؛ المدهش، أن ترجمة الذهبي للخاسر؛ المقتضبة للغاية؛ تبدو أكثر جاذبية، وأبعد معنى من شعره.

5

لا يكشف الشعراء عن مصادر تأثرهم بسهولة، وإن فعلوا لا يفعلون في المراحل الأولى لتكونهم الشعري. في تقديمه للجزء الأول من الأعمال الشعرية «الليالي كلها» يذكر سعدي يوسف الآتي: «كثيرا ما يرد تعبير الدهشة، توصيفًا للشعر أو لما يثيره، وقد استوقفني التعبير طويلًا، وجعلت أتمثل بيت المرقش الأصغر:

تحلين ياقوتًا وشذرًا وصنعةً/ وجوعًا ظفاريًا ودرًا توائمًا

نساء المرقش الأصغر، هؤلاء الحلوات المتحليات، كيف برزن إلينا، في هالة الفن البهية؟ نساء سان جون بيرس وريلكه، كيف أتيننا؟

لم يقل المرقش الأصغر غير أشياء سمّاها، إنها أشياء نعرفها، لكن الشاعر وضعها أمامنا بحيث نراها للمرة الأولى، لقد منحنا اللون والشكل، أعطانا الملمس المتقري والعيون الواسعة، ودعانا عبر الملمس والعين إلى الدخول في عالم من التصور والتخيل لم نكن لندخله لولاه، لولا هذا المدهش المنهمر أمامنا كمطر ملون».

في ذلك المقطع يكاشفنا سعدي عن بعض مصادر تأثره الشعري، ونلاحظ، أولا، أن بيت المرقش الأصغر به بعض الخطأ، وهو في الغالب خطأ مطبعي، فنصه هكذا في جميع المصادر:

تَحَلَّيْنَ ياقُوتاً وشَذْراً وصِيغَةً/ وجَزْعاً ظَفارِيًّا ودُرًّا تَوَائِمَا

ونلاحظ، ثانيا، أن ترجمة الأصفهاني في «الأغاني» للمرقش الأصغر، شديدة الحيوية، صاخبة بالحسية والشهوانية، ونلاحظ، ثالثا، أن بيرس الممدوح في تلك المقدمة – مكتوبة، كما يخبرنا سعدي، في 1992- يوجه له في 2013 هجاء قاسيا… «وجاؤونا باليميني الشكلاني سان جون بيرس»، ونلاحظ، رابعا، أن ريلكه بحضوره القوي في المقدمة «في بيروت 1982، في الأيام الأولى، ومنذ الرابع من حزيران، أخذت أكتب قصائد شخصية، جاءت الغارة الأولى على المدينة الرياضية، وأنا أكتب قصيدة، أتتبع فيها مريم العذراء عند ريلكه، مع الأيام بدأت تحولات مريم التي بلغت تجليها الأخير في قصيدة «مريم تأتي» التي كتبتها يوم الخامس والعشرين من تموز. «يزداد ألقا» في 2013 «يتوهّم كثيرون أن ريلكه هو من يقرأونه مترجَماً، نثراً. لكنهم لا يعرفون أيّ صانعٍ ماهر، هو بالألمانية… لا يعرفون دقّته في الوزن، وفي التقفية، وفي تحديث اللغة…».

(كاتب مصري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى