صفحات الثقافة

زياد لأي شعب؟

رشا الأطرش

أخيراً، واجه زياد الرحباني منتقديه. ليس في مواقع التواصل الاجتماعي، ولا على صفحات الجرائد، ولا عبر التلفزة. تلك “احتكاكات” ظلّت في إطار “الحوار” من بُعد. حوار لم يبدُ زياد معنياً به، بل كاد، والمنساقون في حبّه غير المشروط، يجاهرون باحتقارهم له. هو المُمانع الأزلي. الأيقونة. المناضل الشيوعي العتيق، وفنان “الشعب المسكين”. صاحب نشيد الأممية الذي لا يخطئ، وقائد الوعي المعمّم الذي لا تتعطل بوصلته، مهما تهتّكت بالغُبار وناءت بثقل زمن آفِل ودوغما. زياد “الصامد” برصيد سخريته من الكل، حتى من نفسه وعقيدته (الستالينية؟)، رصيد “تساميه” القديم فوق الطوائف والنظريات والتقاليد كافة (حتى الموسيقية). ولمّا انحصرت السخرية في طرف دون الآخر، لمّا أخذ نفسه والخطاب على محمل الجدّ، ظل “النبي” في عيون المكتفين بالإجابات دوناً عن الأسئلة، بل وفي آذان من قبلوا تحنيطه موسيقاه في قديمها.    

ما لم يقيّض لزياد الرحباني في القاهرة، حيث أحيا حفلة مؤخراً وألغيت وقفة احتجاجية كانت مقترحة أمام المسرح الذي استضافه، لاقاه في بيروت. في جامعتها الأميركية، حيث نُظّم معه حوار مفتوح على هامش مهرجان “التزم تغييراً أفضل” بدعوة من “مركز الالتزام المدني وخدمة المجتمع” في الجامعة. تمّ ما تمّ بهدوء شديد، وبعبارات مستوحاة من مسرحياته وأغنياته، خُطّت على لافتات، وسار بها طلاب سوريون ولبنانيون بهدوء وصمت، من آخر المسرح، إلى منصّته، إلى باب الخروج. الهدف أن يرى زياد، ومعه الحضور والجمهور العريض الذي تناقل عبر الانترنت صور التحرك – بالغ البساطة والعمق.

لا جديد في الرسالة الموجهة إلى زياد. الحدث أنه مرّغ فيها ناظريه، والحدث الأكبر تلك الـ”برّا… اطلعوا برّا” إذ انبرت إحداهن من بين الحضور لترشق بها الطلاب معارضي زياد الذي لا يرتاح “أبناؤه” إلى ما يتحدّى “ثوابتهم”، ولو بسلمية مطلقة… وإن هلّل “الأبناء” أنفسهم من قبل لحركات طبق الأصل صُفع بها طوني بلير (خلال زيارته إلى لبنان بعد حرب تموز 2006)، وفوجئت بها وزيرة الصحة اللبنانية الأميركية السابقة دونا شلالا (خلال منحها دكتوراه فخرية في الجامعة الأميركية العام الماضي)… بل وإن جَعلوا من راشق جورج بوش بحذائه، عَلَماً من أعلام النضال التحرري. “برّا… اطلعوا” لمن لا يقول قولنا ولا يؤمن بما نقدّس.

“شي فاشي”… “عايشة الثورة بلاك وبلا تنظيرك يا ولد”… “زياد الرحباني مع الشعب الفقير وقاتله”… “بخصوص الكرامة والشعب العنيد (كتبت بألوان علم الثورة السورية)”… “موهوب فنياً وساقط إنسانياً”… هكذا، عاتبه الشباب بكلماته، بقفشاته. هو الذي قال إنه لا يعترف، في لبنان، إلا بحزب الله والحزب القومي. وهو الذي صرّح في مقابلة سابقة بأن من حق النظام السوري الدفاع عن نفسه ضد المؤامرة، وأن من يفكر في تغيير النظام السوري بهذه الطريقة (الثورة) كذاب، يريد السلطة فحسب، فيما كل الانجازات الاقتصادية النسبية تدمّر، من أجل بيزنس إعادة الإعمار، مثلما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية. هو الذي عبّر عن “آخر همومه” إزاء خيبة أمل الكثير من محبيه بسبب مواقفه مما يحدث في سوريا. وهو الذي ذكّر، بعد خروج حَمَلة اللافتات المؤيدة للثورة السورية من قاعة الجامعة، بأن اللبنانيين، كلما خرج الجيش السوري من بلادهم، كانوا يسعون إلى عودته، وأنه “مع الروس”، ويعرف أنه يخسر بعض جمهوره، لكنه ليس بصدد جمع جماهير حوله.

في الجامعة الأميركية في بيروت، حصلت المواجهة أخيراً، وبديموقراطية ورزانة مذهلتين. ليس بفضل رُشد مُبدع “رشيد”، بل بالحزم اللطيف لشباب مثّل تحركهم الهادئ حالة أكبر من موقف أرادوه صريحاً ومباشراً، عن زياد، وفي وجهه. هي حالة هدم الأصنام، كسر الأيقونات، إعادة صياغة أدوات النقد والنظرة إلى العالم والفن والسياسة. تفكيك القضية التي يعتنقون اليوم، والخطاب الذي ناموا في الماضي على حرير “أحقّيته” غير القابلة للنقاش. خدش الوهم. تبديد المسلّمات. تفصيل معرفة طازجة بلا مقاسات ولا قوالب. الحالة التي ما عادت منها عودة. لا وراء لها، فقط أمام، وأمامُه أمام. بدأت بإسقاط أنظمة وحكّام. ربما أتت بأسوأ منهم، وربما أيضاً لا تكون “النخبة” الجديدة آخر المطاف. لكن المؤكد هو اقتلاع حجر الأساس للثقافة المهيمنة، والوعي الذي ساد طويلاً، ومفهوم الدولة والعسكر والمواطن والناشط والإعلامي والمثقف واليسار واليمين والديموقراطية والدين والقانون والشرعية… وما زال الحَفر جارياً. حجارة جديدة تُصقل بدلاً من أساس رملي تزعزع… لعلها لم تثبت سويّتها بعد، لكنها قطعاً تُشحذ بأزاميل غير الأزاميل، بأذهان وأجساد تمدّدت خارج العُلب والرطانة والإيديولوجيات. لن تتوقف عند كتّاب أو فنانين أو أي آباء من أي نوع، مهما كانوا مكرّسين، ومهما كان عيار الذهب الذي صَكّ به مريدوهم كلماتهم وألحانهم وحتى دعاباتهم. بين المريدين اليوم من يراجع ذاته ومسلّماته بموازاة مراجعة العلاقة بشخصيات أسّست لوعيه… هو وعيه هذا الذين يستدير له ليُمعن فيه نظراً وتفنيداً.

قبل وقوف معارضي زياد بلافتاتهم، وقبل إعطاء الضيف ساحة الكلام، قدّم عريف الندوة ضيفه بمطالعة مفادها أنه إذا أردتم عودة زياد الرحباني مسرحياً وصانعاً لرأي عام، عليكم استعادة الأجواء التي أزهر فيها زياد، أجواء السبعينات من القرن الماضي، ثقافتها وحراكها… والمفارقة هنا ليست في أن العريف وضيفه، لم يكونا في تلك اللحظة، ليتكهّنا بلافتات “الكرامة والشعب العنيد”، بل في أنهما، اليوم، ما زالا يظنان أن مثل هذا الكلام يسري.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى