صفحات سورية

إلى قناص بشار الأسد الذي يغتال ربيع سورية

 


هويدا صالح

يجلس القناص أعلى البناية ، يفتح حقيبة مستطيلة ترقد فيها قطعتان تكونان بندقية القنص. يُخرج الجزأين ويركبهما . يُثبت العدسة على جانب العمود الأعلى للبندقية . ثم يثبت العمود أعلى الحائط ويسنده بكتفيه . يضبط أنفاسه مع ضبط العدسة التي يوجهها نحو الشرفة البعيدة في البناية المقابلة. يدور بعينيه دورتين يتكشف أدنى حركة في ذلك المبني الذي قيل له في جهازه اللاسلكي أنه يوجد به مندسون . البناية تبدو هادئة تماما ، لكن حركة تلوح في الأفق . كانت فتاة صغيرة لا يتعد عمرها عمر ابنته ابنة العاشرة إلا بقليل . لم يخطر بباله أن يقارن بين ابنته التي ترقد صورتها في محفظته وبين هذه الصغيرة بضفيرتيها اللتين تتأرجحان على ظهرها . وقفت الصغيرة في الشرفة ممسكة بلافتة مرسوم عليها وجه بشار الأسد وعليه علامة الموت تخفي معظم العينين . علا صوت الأم ينهر البنت ويأمرها بالدخول حتى لا تنالها نيران القناصة ، لكن الصغيرة ترفض وتهتف ، واحد واحد واحد الشعب السوري واحد . الشعب يريد إسقاط النظام ، ولأن القناص القابع هناك لم يكن من الشعب الذي يريد إسقاط النظام ، فقد عدّل من وقفته ، وكتم أنفاسه ، وضبط مربع العدسة رأس الفتاة مباشرة وأطلق الرصاصة . فقط ضغط على الزناد وأطلق الرصاصة ، لتستقر في رأس الصغيرة . لم يخطر ببالي وأنا أستعد لكتابة مقال عن الوضع في سورية أن تطالعني القنوات الفضائية بخبر اغتيال تلك الصغيرة ، لم يخطر في بالي أن ذلك القناص الذي لم ترتعش يداه وهو يصوب نحو الفتاة هو ذاته القناص الذي ضبط عدسته على رأس الصحفي المصري أحمد محمد محمود الذي ضبطه قناص وزارة الداخلية المصرية وهو يصور المظاهرة التي كانت تمر أسفل منزله ، هل هو ذات القناص الذي اخترقت رصاصته عين أحمد انتقل من القاهرة التي تحررت ليساهم في اغتيال ربيع أطفال سورية ؟!

كلما انتفض شعب عربي وطالب بالحرية اتهمه نظامه بأنه مندس وعميل ، ولديه أجندات خارجية . قالها نظام مبارك ، وكررها القذافي ووصف شعبه بالجرذان والمتعاطين حبوب الهلوسة ، والآن يكررها نظام بشار الأسد مع الشعب السوري . منذ أن كتب أطفال السنة الرابعة الابتدائية على حائط مدرسة في درعا الشعب يريد إسقاط النظام وبشار الأسد ونظامه الفاشي يتفنن في قتل وذبح السوريين في درعا الصامدة وحمص وقامشلي وداريا و زرعا واللاذقية وحماة غيرها من المدن الصامدة الحرة . قدم المدافعون عن النظام السوري الكثير من التحليلات عن الحرب الطائفية المنتظرة بين السنة والشيعة والعلويين والمسيحيين . خوّف وهدد أبواق النظام أن سورية مقدمة على حرب أهلية طائفية ، لكن الشعب السوري كان أكثر وعيا منهم . يذهب شباب سورية إلى الدبابات بصدور عارية . يهتفون سلمية سليمة . لا شئ بأيديهم سوى السلمية والحرية . لكن دبابات النظام لا تتركهم ، بل تدوسهم تحت عجلاتها التي لا ترحم السلام الذي يعلنوه . حرية وسلمية لا تمنع رصاصات القناصة التي تستقر في الرأس مباشرة . تلك الرصاصات التي تستقر برءوس الشباب السوري وصدوره تظهر كم أن هذا النظام حاقد على الشعب السوري الذي تجرأ وطالب بالحرية . الثورات العربية التي انطلقت شرارتها من تونس وتوهجت في مصر ووصل ضوؤها لليمن وليبيا وسورية ليست ثورات جياع . لم تكن من أجل الخبز ، بل من أجل الحرية . وكيف لشعب رزح طويلا تحت نظام مخابراتي بامتياز إلا يسعى للحرية ، وألا يتلقف وهجها الساري بعرض الأمة العربية وطولها ؟!

شيوخ ونساء وأطفال يغتالهم النظام بدم بارد ، ولا رواية لديه تبرر ذلك القتل وذلك الذبح سوى قوله أن هؤلاء مندسون وعملاء . لو أن الشعوب الحرة التي تطالب بكرامتها وحريتها مندسة فمرحبا بكل مندس يرفض القهر والظلم ويطالب بالحرية والكرامة .

إن من يواجه الدبابة بصدره عاريا لهو محب للحياة شغوف بها ، والمفارقة أنه يضحي بالحياة من أجل الحرية .

طوال أربعين عاما والنظام السوري يستغل القضية الفلسطينية ؛ليقهر شعبه . ظل النظام والمدافعون عنه يقولون سورية دولة ممانعة ، سورية دولة المواجهة ، وظل النظام يستغل ذلك الوضع؛ ليمارس القمع والتهريب والاستبداد السياسي ويغيب الحريات ، ويسلب الشعب السوري كل شئ بدءا من مقدراته وانتهاء بحرياته . وحين انتفض الشعب ، وكسر حاجز الخوف قالوا أن هذه مؤامرة كبرى من أمريكا وإسرائيل . و لكأن أمريكا وإسرائيل من مصلحتهما سقوط النظام السوري . سؤال بديهي وإجابته أكثر بداهة لماذا تسعى إسرائيل وأمريكا إلى إسقاط النظام السوري وهو لم يضرب رصاصة على إسرائيل منذ أربعين عاما . منذ وقف إطلاق النار في عام 1974 على الجبهة السورية وهو يتجدد تلقائيا كل ستة شهور . أسلم النظام السوري الجولان إلى الكيان الصهيوني دون مقاومة ، ومن يومها وهو لا يفكر لحظة أن يستعيدها ، فأي مقاومة ، وأي ممانعة يستحل بها إنتاج الاستبداد ضد شعبه ، وأي مؤامرة تكلف إسرائيل نفسها لتسقط بها نظام الأسد ؟! الجبهة السورية هي جبهة آمنة بامتياز وإسرائيل ترغب في أن تظل هكذا دون زعزعة استقرارها ، فهي لا تضمن أن يكون النظام الجديد الذي قد يحل محل الأسد أن يحافظ لها على ذلك الأمان . أما بالنسب لأمريكا فقد كشفت وثائق ويكليكس عن تعاون مشترك أبرمه النظام السوري مع الولايات المتحدة ، وفيه شراكة كاملة في الحرب على الإرهاب ، فكيف تسعى أمريكا لهدم نظام الأسد ؟

جاء خطاب الرئيس الأمريكي أوباما للنظام السوري مخيبا لكل الآمال ، فكأن كل ما يهم أمريكا قرب بشار من إيران . لا يهم أمريكا إن قمع النظام السوري شعبه أو قتّله ، هو كل ما يهمه أن يبتعد بشار الأسد عن إيران من جهة ، وحزب الله من جهة أخرى . وهذا ليس بمستبعد على أمريكا ، فقد صرحت هيلاري كلينتون أن ما يحكم رد فعل أمريكا على الثورات في البلدان العربية يحكمها معياران ، المعيار الأول هو المبادئ الأمريكية من ديمقراطية وحقوق الإنسان ، والمعيار الثاني هو المصلحة ، وحين تتفق المبادئ مع المصالح يكون شيئا جيدا ـ بحسب هيلاري كلينتون ـ أما حين تعترض المصالح طريق المبادئ تضحي أميركا بالمبادئ ـ بالطبع ـ لحساب المصالح ، وهذا ما تحقق في حالة الشعب السوري الذي يقتل على يد طاغية البعث بشار الأسد ، فالمصالح هنا أولى ، لذا جاء موقف الولايات المتحدة من نظام الأسد مائعا ولا طعم له ، فلم يضغط عليه أوباماا وإدارته ، بل جاءت التصريحات مخيبة لكل الآمال .

حاولت المعارضة السورية دفع الملف السوري إلى المجتمع الدولي ، ومجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة . امتنعت بعض الدول العربية عن التصويت ، وصوتت بعض الدول بالرفض ، ولا يفسر ذلك إلا الحساسيات العربية العربية .

أثبتت التجربة المصرية التي هي على مشارف صناعة الديمقراطية أن الإسلاميين ليسوا هم الخيار المطروح لدى الشعوب التي تسعى لإسقاط الأنظمة ، فهذا يفوت على نظام بشار ما يدعيه من أن الإسلاميين وإماراتهم الإسلامية هي البديل عنه . صارت ورقة التخويف بالإخوان الإسلاميين والسلفيين محروقة بالنسبة لنظام بشار .بل لقد تغيرت وجهة نظر الغرب نحو الإسلام ، فالإسلام المعتدل بالنسبة لهم يمكن أن يشارك كبقية المكونات الثقافية في المجتمع ، إذن دعم الحرية وإسقاط نظم الاستبداد ليس حتما سيأتي بالإسلاميين .

لا أحد يرغب في حرية تاتي على ظهور دبابات الغرب ، والمعارضة السورية تفهم ذلك الأمر ، وتعلنها صراحة أنها لن تقبل التدخل الأجنبي في سورية ، لكن الدفع بالملف إلى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة إنما هو نوع من الضغط السياسي على النظام الذي يرفض أن يسمح للأقنية الإعلامية بأن تراقب الوضع عن كثب ، ولولا الإنترنت والتقنيات الحديثة في أجهزة الاتصالات ما استطاع الشعب السوري أن يكشف للعالم جرائم النظام . فالنظام يرفض دخول الإعلام العربي والغربي لسورية آملا أن ينهي الوضع كما فعل في الثمانينات حيث دكّ مدينة حماة وساواها بالأرض ، وقضى على ثلاثين ألفا أو يزيد من السوريين دون أن يعلم أحد ذلك إلا بعد سنوات . الآن ومع الميديا الحديثة لن يقدر النظام على إخفاء جرائمه ، ولن يسعفه إعلامه المضلل الذي يروج للأكاذيب طوال الوقت ، فالمتظاهرون مرة يسميهم مندسين ومرة عملاء ، وثالثة شبيحة وإرهابيين ، ورابعة يصفهم بأنهم يتناولون حبوب الهلوسة . سورية الآن ليست حماة ، وعام 2011 ليس هو بداية الثمانينات ، لذا جرائم النظام السوري مفضوحة مفضوحة . والسوريون سائرون نحو الضياء لا يهمهم كم يراق في سبيل الحرية من دماء . أنهر الدماء تسيل في شوارع درعا الصامدة ، فهل يقدر المدافعون عن النظام على غلق أعينهم دون أن توقظهم دماء الشهداء الصارخة المطالبة بالثأر ؟

إذن قنص السوريين لم يعد يقتصر على المتظاهرين في الشوارع ، بل وصلت رصاصات القناصة إلى اغتيال الأطفال ، فها هي الطفلة الصغيرة التي لم تفعل شيئا سوى أن هتفت للحرية تخطف روحها رصاصات قناصة النظام . أي قناص حاقد على الطفولة والبراءة ثبت بندقيته ، واختار وسط جبهة فتاة صغيرة ليضع رصاصته فيها ، أي وحشية جعلت يد القناص لا تهتز وهي تسرق الحياة من تلك الصغيرة ابنة الثانية عشرة ربيعا؟ّ! .

خاص – صفحات سورية –

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى