صفحات المستقبل

إنطلاق موجة الإنشقاق عن “فايسبوك”/ روجيه عوطة

 

 

صباح اليوم، أطلق أحد المنشقّين هاشتاغ “#سبب_لترك_الفايسبوك”، فانتشر الوسم، ولا يزال فعالاً حتى الساعة. بدأت الحرب، قُرعت تغريداتها، التي حُدد مضمونها بـ”سبب” واحد فقط. طبعاً، لم يلتزم المشاركون في الحملة المضادة للفضاء الأزرق بهذا التحديد، أي تسجيل سبب لا غيره، بل تعدّوه إلى أكثر منه. فلكل مشترك، لكل فايسبوكي سابق، أسبابه، التي حثته على غلق بروفايله، والإنسحاب منه إلى موقع آخر. فتركه هنا هو انصراف عن التفاعل في معمل مفتوح لتصنيع التصويرات و”البوستات” والتعليقات و”اللايكات”، وبعبارة أخرى، لتصنيع التصادق الوجهي.

لا يبدو، بحسب تغريدات الحملة، أن المنشقين خلّوا “فايسبوك” وشأنه. أي أنهم، بدايةً، لا ينتقدون الوضع فيه انطلاقاً من كرههم لوجوههم، التي واصلوا تركيبها حتى لحظة افتراقهم عنها. على العكس، رحلوا عن الموقع الأزرق كي يحتفظوا بها، بإمكانية تشكيل وجوههم تلك من دون أن يعترضها أحد تحت عنوان “الصداقة”، أو يتدخل فيها أحد تحت مسمى “التواصل”. لقد تركوا “فايسبوك” نتيجة التطفل، الذي يمارسه الساكنون في لوائح “الأصدقاء” عليهم بطريقة مباشرة أو غيرها.

فحين اتسمت العلاقة بينهم بالإفراط في التوارد والتعاقب والإجتماع لدرجة الإكتفاء بمشهدها، وإخلائها من مسارها الموِّلد لها، بدت وجوههم، وهي علامة-محور في الفعل الفايسبوكي، ممطوطة ومتهدلة على ما يعنيها وما لا يعنيها. اضطر بعض أصحابها إلى سحب أنفسهم منها، كأنها لم تعد تخصهم. وفي الوقت نفسه، لا يشير حالها إلى أنها تعمّمت.

هناك سياق واسع يبتلع الحسابات، يظّهرها على منوال بعينه. وبإثره، وقع المنشقون عند مفترق طرق: إما المشاركة فيه – أي تسليم وجوههم له، أو الإبتعاد عنه – أي سحب بقايا الوجه وترك المتلف منها فيه. كأن أسرع سبيل لكسب الحرب ضد “فايسبوك” هي خسارة الوجه، ثم الإكتفاء بصوته، بإيقاعه: التغريد ضد المصنع الأزرق وطبقاته، ليس نتيجة منعه قاطنيه من تأليف وجوههم، بل لأنه يوفر لهم ذلك، وعندما يستقر كل قاطن منهم على وجه، يمتصه تفاعلياً، أو تصادقياً. ربما، الوجوه مخلوقة كي تُمتص، لا كي تعاين، وفي الحالتين، ثمة تشبع بها حتى الإختناق.

غرّد أحد المنشقين قائلاً: “في كتير أسباب ما في سبب واحد”، ولم يذكرها. المهمة هذه إنكب عليها غيره. وعند النظر في التغريدات المدرجة في جهتها، من الممكن ملاحظة الرابط بينها، بحيث أن مسجليها إما تركوا “فايسبوك” بسبب شعورهم بالمراقبة داخله، أو لأن بعض ظواهره أشعرتهم بالسأم. “السبب هو عبارة: لا تخرج قبل أن تقول سبحان الله”، “ما ضل حدا من العيلة إلا وصار عنده فايسبوك، صرت تحس كيف ما بترم حولك في أبراج مراقبة”. “عبارة: لمشاهدة فضيحة الفنانة الفلانية، إضغط هنا”. “كل ما حدا علّق تعليق بايخ بدك تضطر تواجه التعليقات الموجودة بعده”. “يورث الغرور ويزيد الحساسية السلبية”. “صار كله صباح الخير ومسا الخير”. “لأنو عندي عليه فوق 4000 صديق، بس للصراحة مش حاسس عندي ولا صديق”. “لأنو مديرك بالشركة صار يعرف شو طابخة مرتك اليوم”.

قد تُقسم هذه التغريدات-الأسباب على أساس فايسبوكي، ووفق العلاقة التصادقية. هناك، سبب ما قبل “فايسبوكي، يظهر، في الكثير من الأحيان، غليظاً أو فارغاً. “تركته لأنه خطة ماسونية صهيونية لتفكيك أمّة العرب والمسلمين”. “يساهم في تسطيح الفكر”. “يفسد عفة اللسان والبصر”. و”يفسد أخلاق التواصل” إلخ.

وهناك سبب “فايسبوكي”، يستند إلى  كيفية التواصل الوجهي وظواهره، مشيراً إلى إضعاف صلة التصادق بصلة أخرى، متعارضة معها، سابقة عليها، كالصلة العائلية، “تركته بسبب عمتي”، “بيبعتلك رسالة خاصة، علّق لي، ليّكلي على بوستي”، “بيعملولك تاغ على الصور”، “دعوات دائمة إلى الألعاب”… وهناك سبب ما بعد “فايسبوكي”، متعلق بتبديد الوقت، والإحساس السلبي، “كل الناس مبسوطة على فايسبوك إلا انا تعيس”…

وأمام هذه الأسباب وغيرها، يُطرح سؤال: لماذا لم يعمد المنشقّون إلى حماية وجوههم،  بحيث أنهم ينظمونها كما يرغبون فيها بعيداً من التفاعل المفرط وظروفه؟ ذلك، أن واحداً من المغردين، الذي شارك في الحملة عبر معارضتها، كتب: “لا سبب لأتركه”. وآخر قال: “على أساس في تويتر.. كلهم ناس راقيين”، واستفهم مغرد “ولماذا أتركه؟ لن أتركه”. ومن الناحية ذاتها، كانت الحملة نفسها تتسع لظواهر تويترية، أهمها إلحاق هاشتاغ “ترك_الفايسبوك” بتغريدات لا علاقة لها بها، من أجل الترويج لرابط أغنية أو صورة أو خبر صحافي.

فهل فعلاً الإنشقاق عن الفايسبوك يعني الإنتهاء من ظواهر التواصل الإجتماعي، وتلافي الإفراط فيه؟ هل فعلاً هذا إنشقاق عن الوجه، ماذا عن الإنشقاق عن صوته؟ الحملة ضد “فايسبوك” خُرقت بأعراض تويترية، بأعراض هذا الموقع الذي من الرائج اللجوء إليه عند الخروج من “فايسبوك”.

حسناً، بين زحمة التغريدات، ثمة تغريدة نشرها أحد المشاركين، الذي افتعل “فايسبوكيته” والإنتهاء منها، ليقول “تركته لأن لا حساب لي فيه”. هل يمكن ترك “فايسبوك” من دون الوقوع في الفايسبوكية المستمرة  خارجه؟ الحملة ضده لا تشي بذلك.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى