صفحات سوريةعمر قدور

إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه/ عمر قدور

 

 

 

لعل أدق توصيف لحال العالم مع نظام بشار الأسد أنه لا يزال للسنة الخامسة على التوالي يسعى إلى إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه، وإن تلطى هذا السعي تحت لافتة منع انهيار مؤسسات الدولة على شاكلة ما حصل لتوأمه في العراق. خسائر قوات الأسد في الأشهر الأخيرة، وكل علامات الانهيار التي ظهرت لم تدفع المجتمع الدولي إلى أكثر من بحث خيار التضحية بالأسد نفسه، بعدِه قائداً فاشلاً، من دون التضحية بمؤسساته الأمنية والعسكرية التي لا يخفى التفكير في استثمارها لاحقاً من قبل قيادة أكثر كفاءة؛ بالطبع عندما يجري الحديث عن الحفاظ على مؤسسات الدولة فالمعني بها هي المؤسسات الأمنية أولاً وأخيراً.

وكي لا ننحي باللائمة على المجتمع الدولي وحده، لا يندر أن نرى في أوساط الثورة أو المتعاطفين معها، وأحياناً في بعض أوساط النظام وحلفائه، من يقول: “لو أن بشار فعل كذا وكذا لما وصل الحال إلى ما وصل إليه”. أي كان ثمة فرصة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكن قيادة النظام أهدرتها بحسابات ثبت خطؤها، واستطراداً يبدو رأس النظام ضحية خطئه الأول الذي لا يستطيع الرجوع عنه ليس إلا. لا يندر أيضاً وجود أصوات توزع الأخطاء بالتساوي بين نظام بالغ في تقدير قوته ومعارضة بالغت في الاستهانة بها، موحيةً بوجود خيارات أقل كلفة على الطرفين أُهدرت بحماقة منهما. وكي لا يبدو الأمر مقتصراً على أصوات قد تكون بعيدة عن المعطيات الحقيقية نذكّر بأن أوباما، بما لديه من أجهزة استخبارات ومراكز بحوث، صرح قبل أشهر قليلة بأن معارضةً من “المزارعين وأطباء الأسنان” يتعذر عليها هزيمة قوات الأسد.

لكن، إذا تتبعنا مسيرة النظام نفسه، فهو الأجدر بقول ما لا يريد الكثيرون قوله. فبشار الأسد استُقبل في العديد من العواصم الدولية والإقليمية كرئيس، عندما كان يُعد لوراثة أبيه، وركّز جميع من توسموا فيه خيراً على أنه سيقود الانتقال الذي عجز عنه الأب، وعندما تسلم السلطة مُنح فترة سماح دولية قاربت الخمس سنوات ليثبت حداً أدنى من النضج السياسي، توّجها هو نفسه باغتيال الرئيس رفيق الحريري. مع ذلك، تسامح العالم في ما بعد مع “نزوة” اغتيال الحريري، وأُعيد استقباله في بعض العواصم العالمية، وغفر له من دعاهم “أنصاف الرجال” من القيادات العربية، ولو من باب استيعاب البلطجة التي أودت بشخصيات أخرى بعد اغتيال الحريري.

داخلياً، كان النظام قد قضى على أية آمال تفوّضه هو نفسه بإصلاح ذاته، فأعلن بشار الأسد أن الأولوية هي للإصلاح الإداري، ثم أعلن أن الأخير يحتاج متسعاً من الوقت، ثم أقلع نهائياً عن الفكرة. في بداية وراثته الحكم لبست أجهزة المخابرات القفازات، لكن سرعان ما عادت مخالبها لتطل منها، ومهما قيل حينها عن عجز بشار الأسد عن السيطرة عليها إلا أن أهم ما تعيّن في الواقع هو عجز النظام عن إصلاح ذاته، وأن نوايا الإصلاح لم تكن موجودة أصلاً. العجز الذي لا يمكن تبريره بأسباب شخصية، بل ينبغي الإقرار بأن النظام هو أكثر من يعي تركيبته، ويدرك بناء عليه أن أي مشروع لإصلاحه يعني انهياره تماماً.

لندع جانباً ذلك الغطاء عن الخطر الأصولي والإرهابي، ففي العمق يتشارك النظام وأغلب الدول الفاعلة الهاجس إياه منذ بدء الثورة: إنه غير قابل للإصلاح، وغير مرن ليتكيف مع واقع مستجد. وإذا كان لتجربة البعث العراقي أن تعطي درساً فمفاده أن هذا النمط من الأنظمة تصل بنيته إلى نقطة اللاعودة، هذا أشبه بالقدر الذي يصعب الفكاك منه، وبحيث تصبح أية محاولة لإنعاشه مرهقة وباهظة، ولأن هذه الأنظمة بطبيعتها لا تملك خيار الانتحار فهي تنتظر من يطلق عليها رصاصة “الرحمة” وإن ظهرت كأنها تقاتل حتى الرمق الأخير. المشكلة هنا لا تقتصر على الأنظمة فحسب، بل تمتد لتشمل أولئك المراهنين على إنعاشها، وحتى إذا سلمنا بأن ثوار سوريا لم يقدروا حجم الدعم الهائل الذي سيناله النظام من حلفائه، فإن خطيئة حلفائه الكبرى هي أنهم لم يدركوا عجز النظام على البقاء، وتركوا له أن يجرهم من فشل إلى آخر، وأن يستنزف مواردهم المادية والمعنوية بعد سقوطه.

المؤسف أن القوى الدولية الفاعلة ليست حتى هذه اللحظة بأحسن حالاً من حلفاء النظام، ولا تشي مراهنتها على الإبقاء عليه من دون رموزه الكبرى إلا بنوع من التسويف والمماطلة، إذ لا يجوز اتهامها بالغباء وبأنها لا تدرك أنه سينهار لحظة وصول تلك الرموز إلى سلم الطائرة التي ستغادر بهم مطار دمشق. إذا لم يتغير هذا الفهم، ولم تسلّم القوى الدولية بانتهاء صلاحية النظام وضرورة تظهير نظام بديل، فالأمر لا يعني سوى استمرار الصراع حتى الوصول إلى تلك القناعة.

المسألة هنا لا تتعلق بانتصارات ميدانية هنا أو هناك، هي متعلقة بالدرجة الأولى بعدم قدرة النظام على البقاء، ما يقتضي إما القبول بالوصاية الإيرانية المطلقة، بل حتى التواطؤ على تعزيزها، أو القول بأن النظام انتهى، والإقلاع تالياً عن طرح المشاركة بينه وبين المعارضة في المرحلة الانتقالية. الطرح الأخير لا يقل سفاهة من حيث المدلول، ويحمل في طياته قناعة من يعزّ عليهم سقوط النظام، ولو كانوا يقبلون بتغيير حقيقي لتغير الطرح لينص على تمثيل جميع السوريين بلا استثناء. الأحرى أن أصحاب هذا الطرح ينظرون إلى كتلة من السوريين بوصفهم النظام، ويريدون لهم البقاء كذلك.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى