صفحات الثقافةمصطفى اسماعيل

اكتشافات متأخّرة


مصطفى إسماعيل

أحد عشر شهراً، والثورة ضيف خفيف الظل على السوري، يشاطرها قهوة الصباحات وفيروز الصباحات، وما تيسر له من وجبات أساسية بطعم العلقم في يومه الذي يطول أكثر من قرن.

اكتشف السوري خلالها أن حنجرته ذات التوتر العالي هي مخزونه الاستراتيجي الوحيد، وتوجهه الروحي المطلق نحو الحرية هو هويته الدالة الوحيدة، وأن ملكوت الحرية والعدل والمساواة هو الوطن الوحيد الجدير بخلاياه التي تنزف في ما يشبه الحياة منذ عقود عجاف.

اكتشف السوري أن بقاءه مجرد سمكة معلبة لا يليق به، مهما خذلته العواصم الزئبقية والحسابات السياسية الـ (سكوتر)، فهو يعلم اليوم كتلميذ مجتهد أن لا أصدقاء سوى الشوارع والساحات والإعلام الحر.

اكتشف السوري أن لا عدوَّ على الأبواب، وأن ذلك الكائن الذي حُوِّلَ إلى عدو مبين في مناهجه الدراسية من الحضانة إلى التعليم العالي إنما كان ضحية غاية في نفس السلطة، فلم يمعن ذلك العدو ضرباً وتقتيلاً في السوري كما فعل ابن البلد، ولم يمزق حنجرة سورية يوماً كما فعل ابن البلد.

اكتشف السوري أن لديه ترسانة من الدبابات والمدافع والقذائف والطلقات والبنادق العذراء كانت تحت الإقامة الجبرية في ثكنات ومعسكرات الجيش (العقائدي !!!)، وكانت العصافير قبل 15 مارس/ آذار 2011 تمارس الحب في فوهات بعض تلكم المدافع والدبابات، فيما كانت غالبية ساحقة من تلكم الفوهات في هدنة مزمنة مع بيوت العناكب، ولا ننس أيضاً أن الكم الأكبر من تلك الترسانة كان نهباً لزرق الطير وما إليه.

اكتشف السوري أن في بلاده كميات خيالية من الشبيحة والنبيحة قابلة للتصدير وبأسعار مغرية، وطائفة من الإعلاميين والصحفيين والكتبة/ الببغاوات قادرين على تلويث كل قضايا العالم إن أطلقوا من المصباح السحري للنظام بمجرد تمرير اليد عليه.

اكتشف السوري أن نظام بلاده لم يستثمر كثيراً في قطاع المخابرات والبنية التحتية للمخابرات، بدليل أنه يحول المدارس إلى معتقلات.

اكتشف السوري أن معارضته السياسية مجرد ورق سجائر كالذي يلف به التبغ التركي في مناطقه الحدودية. وأن قسماً لا بأس به من الوجوه المعارضة التي اصبحت بارزة بقدرة الإعلام لا يعلم أحد عن مسقط قرعة أبيهم شيئاً.

اكتشف السوري أن ثورة الكرامة التي أطلقها خطرة على الأمن القومي الصيني والروسي واللبناني والعراقي. لقد نسي السوري العظيم كتابة تحذير على غلاف ثورته : هذه الثورة يا جماعة ـ لن تسبب لكم الغثيان والقيء.

اكتشف السوري أن بلده نمرٌ اقتصادي شرق أوسطي ولن يتحول إلى قطة، فالليرة لا تزال على صهوة حصان من ثلج، رغم فقدانها نصف قيمتها أو أكثر، ورغم تلقيها جرعات كيماوية بين الفترة والأخرى، وتحولها في البلد إلى نكرةٍ بين العملات.

اكتشف السوري أن البنية التحتية لبلاده فتية، فالكهرباء حية ترزق لكن في العناية المشددة، والطريق إلى منفذ بيع الخبز سالك إنما بصعوبة، والانترنت على قيد الخدمة وإن وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً، وصناعة الألبسة ترفع شعارات الممانعة والمقاومة رغم أن الأوضاع تشير إلى قرب دخول السوريين في مرحلة (كما خلقني ربي أول مرة)، فالسراويل الداخلية والكنزات الداخلية وحمالات الصدر مهددة بالأنقراض أسوة بالديناصور كما يتوقع متشائم من الوضع.

اكتشف السوري أن دستور بلاده وقوانينها أشبه ما تكون بالأقنعة في حفلة تنكرية، بالإمكان تغييرها واستبدالها بجرة قلم أو كيبورد، ولا يحتاج التغيير أو الاستبدال إلى حملات واعتصامات جماهيرية ونضالات ماراتونية وحرب استنزاف داخلية قاتلة ضد الشعب وإهالة التابوات السياسية فوق رأس المواطن.

وأثبت السوري خلال أحد عشر شهراً مضيئاً بدمه الباذخ أن الخيل والليل والبيداء تعرفه بإمتيازٍ غير مسبوق.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى