صفحات الرأي

الإرث الفكري لفرانز فانون

 

 

تُوُفّيَ فرانز فانون قبل أشهر قليلة من استقلال الجزائر في شهر يوليو عام 1962، ولم يعش ليرى بنفسه تحرر بلده بالتبني من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية، وهو شيء كان يعتقد أنه أصبح أمرًا حتميًا. وكان هذا المفكر الراديكالي والثوري قد كرّس نفسه وجسده وروحه للتحرر الوطني الجزائري، وكان يُعَدّ مرآة من خلالها فهِم عدد كبير من الثوريين الموجودين في الخارج الجزائر ، وأحد الأسباب التي ساهمت في أن تصبح البلاد مرادفًا لثورات العالم الثالث.

وبفضل ثِقَل نضالها في الماضي القريب، وعلى وجه الخصوص نضالها الطويل لنيل الاستقلال الذي مثّل نموذجًا يحتذى به للعديد من جبهات التحرير في شتى أنحاء العالم، ونظرًا لدبلوماسيتها الحازمة وسياستها الخارجية الجريئة في عقد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت العاصمة الجزائرية ستصبح قبلة لجميع الثوريين.

وكان أميلكار كابرال قد صرح في مؤتمر صحفي أقيم على هامش مهرجان الوحدة الأفريقية الأول الذي عقد في الجزائر العاصمة عام 1969 قائلًا: “التقط قلمًا وسجل ملاحظة: يحج المسلمون إلى مكة، ويحج المسيحيون إلى الفاتيكان، وتحج حركات التحرر القومية إلى الجزائر!”.

ومن المؤكد أن فانون كان سيفتخر بهذه اللحظة من تاريخ الجزائر وأفريقيا. وكان المهرجان يتميز بالحماسة الثورية وبأفكاره حول الثقافة الكفاحية التي كانت تُزكِيها الصراعات اليومية للناس. وكانت الأجواء الحماسية التي استمرت لأيام قلائل في شهر يوليو قد تم تصويرها في أحد الأفلام المهمة والمؤثرة للمخرج ويليام كلاين بعنوان: “مهرجان الوحدة الأفريقية في الجزائر، 1969″، والذي يشهد بأن هذا الاجتماع المناصر لأفريقيا لم يكن مجرد شعار أو طوباويّة سخية، ولكنه كان يمثل أيضًا اجتماعًا حقيقيًا للثقافات الأفريقية بشكل منسجم في مواقفها الشاجبة للاستعمار والكفاح من أجل الحرية.

وكان بعض القادة السياسيين من أمثال أنطونيو أجوستينيو نيتو وكابرال يضعون هذه الثقافة على رأس اهتماماتهم لأنهم ربطوها بالتحرر الذي صنفوه نظريًا كشكل من أشكال العمل السياسي، وكرروا بقوة كلمات فانون في كتاب معذبو الأرض: “وذكروا أن الثقافة القومية ليست مجرد فولكلور، أو شعبويّة مجردة تعتقد أن بإمكانها اكتشاف الطبيعة الحقيقية للناس. هي لا تتكوّن من رواسب جامدة ناتجة عن تصرفات غير مبررَة، أي الإجراءات التي تكون أقل ارتباطًا بالواقع الحالي للشعب… إنّ الثقافة الزنجية الأفريقية تتخذ شكلها الجوهري حول نضالات الشعوب وليس حول الأغاني والقصائد الشعرية والعادات والتقاليد الشعبية.” [1] ويجدر بنا أن نضع هذا الأمر في الاعتبار عندما نفكر في دور الثقافة ومفهومها اليوم. هل هي ببساطة ثقافة تسلي الناس وتلهيهم عن القضايا الحقيقية؟ أم أنها ثقافة تتحدث للناس وتساهم في تقدم مقاومتهم ومظاهر نضالهم؟ وهل هي ثقافة مستقلة وحرة تعزز المعارضة والنقد أم أنها ثقافة فولكلورية تخضع للرعاية الخانقة من بعض النخب الاستبدادية؟

وكان لدى فانون آمالًا عريضة وكان يؤمن بشدة بالجزائر الثورية، ويشهد كتابه الشهير الذي يحمل عنوان “دراسات في الاستعمار البائد” (أو حسبما هو معروف بالفرنسية باسم L’An Cinq de la Révolution Algérienne) على ذلك، ويظهر كيف أن التحرر لا يأتي كهِبة، ولكن الجماهير تنتزعه انتزاعًا بأيديها، ويتحولون بأنفسهم حينها.

وكان فانون قد أكد بقوة على أنّ مقاومة الجماهير للهيمنة الإمبريالية والتغلغل الاستعماري هو أرقى شكل من أشكال الثقافة والتقدم، حيث كان يرى أن الثورة عبارة عن عملية انتقالية ستؤدي إلى خلق “أرواح جديدة”. [2] ولهذا السبب، اختتم فانون كتابه الصادر في عام 1959 بالكلمات التالية: “إنّ الثورة المتعمقة الحقيقية , تلك التي تغير الإنسان وتُجَدِدُ المجتمع على وجه التحديد , لقد وصلت إلى مرحلة متقدمة. هذا الأكسجين يخلق ويُشَكِلْ إنسانية جديدة – وهذا أيضًا، هو الثورة الجزائرية.” [3]

وكان اهتمام فانون بما تفعله الجماهير وتقوله وتفكر فيه، واعتقاده بأن الجماهير وليست القيادات أو الأنظمة هي من تصنع التاريخ وتقرره، يأتي على رأس أولوياته في كتبه. ومن المهم تحليل شهادة فانون لأنها توضح كيف تعثر الجماهير على وسائل إعادة تنظيم أنفسها، في خضم أسوأ الكوارث، والحفاظ على تواجدها عندما يكون لديها هدفٌ مشترك. وفي هذا السياق، تحظى أوصاف فانون لسلوك الجماهير بأهمية كبيرة لأنها تظهر كيف تواصل الجماهير العيش وكيف تتقدم في حياتها. [4]

ويوضع هذا التركيز والارتباط القوى بالمعذبين في الأرض في مقارنة مع النفور الغريزي تجاه البرجوازية القومية التي ستخدع الجماهير وتوقف التحرر وتنشىء نظامًا وطنيًا للطغيان والاستغلال يذكرنا بالنسخة الاستعمارية. وقد لاحظ فانون بشكل محق كيف يمكن للوعي الوطني أن يؤدي بسهولة كبيرة إلى حدوث “تصلب متجمد” عن طريق استبدال السادة البيض الراحلين بنظرائهم الملونين فحسب.

فهم أفريقيا: فانون اليوم

بعد مرور أربعة عقود على وفاته، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: “لماذا يُعتبر فانون مهمًا الآن؟” بدلًا من، “هل هو مهِمٌ على الإطلاق؟” وسيكون من المفيد استكشاف كيف كان من الممكن أن يفكر هذه الشخص الثوري ويتصرف في مواجهة القضايا المعاصرة في أفريقيا والعالم. ولا زالت أعمال فانون، التي كتبت منذ خمسة عقود مضت تحمل قوة تنبؤية كوصف دقيق لما حدث في الجزائر وخارجها. وعند قراءة كلمات فانون وخصوصًا “مزالق الوعي الوطني” في فصله الشهير بكتاب “معذبو الأرض” (بناءً على تأملاته المعتمدة على تجاربه في دول غرب أفريقيا بالإضافة إلى اهتماماته بشأن الثورة الجزائرية)، [5] لا يمكن للمرء أن يمنع نفسه من الاستغراق في هذه الحقيقة والبصيرة عن إفلاس وعقم البرجوازية القومية في قارة أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط اليوم والتأثر بهما، تلك البرجوازية التي كانت تميل لاستبدال القوة الاستعمارية بنظام طبقي جديد يكرر الهياكل الاستعمارية القديمة للاستغلال والاضطهاد.

واليوم، يمكننا أن نرى كيف أنّ دولًا في جميع أنحاء العالم المستعمَر سابقًا “خلّفت أمراض السلطة” كما وصفها “إقبال أحمد”، وهو ما يؤدي إلى ظهور دول الأمن القومي والأنظمة الاستبدادية وأنظمة حكم الأقلية (الأوليغارشيات) وأنظمة الحزب الواحد. [6] ويتوافق ما كان يخشاه فانون مع وضعية الجزائر اليوم في ظل لعب أموال النفط لدور مهم جدًا في تهدئة السكان ودفع مستحقات قوات الأمن المتضخمة والمنتشرة في كل مكان. ولم تكن رؤية فانون ومواقفه السياسية تروق ولن تروق للطبقة الحاكمة، ولهذا السبب يتم تهميشه اليوم والتقليل من شأنه إلى مجرد شخصية مناهضة للاستعمار وتجريده من هجومه الحماسي الذي شنه ضد الغباء والفقر الفكري والروحي للبرجوازية القومية.

وكما قال إدوارد سعيد، تلوح العبقرية التنبؤية لكتاب “معذبو الأرض” عندما يستشعر فانون الهوّة بين البرجوازية القومية في الجزائر والنزعات التحررية لحركة جبهة التحرير الوطني. فانون كان من أوائل وأهمّ العلماء النظريين في مناهضة الإمبريالية وكان يدرك أن النزعة القومية المتعصبة اتّبعت نفس المسار الذي حفره الاستعمار الذي كان في الحقيقة يوسّع هيمنته رغم ظهوره بمظهر المتنازل عن السلطة للبرجوازية القومية [7]. وطرح فانون هذه الفكرة لنا بصراحة عندما قال: “يعلمنا التاريخ بوضوح أن المعركة ضد الاستعمار لا تسير بشكل مستقيم على طول خطوط النزعة القومية. [8] ونبهنا فانون بعد ذلك بأننا ينبغي أن نتخذ خطوة سريعة للانتقال من الوعي القومي إلى الوعي السياسي والاجتماعي إذا كنا نرغب بالفعل في أن تتجنب بلادنا التراجع واشتبه الأمور.

وفي مثل هذه الأوضاع، تستغني البرجوازية القومية عن الشرعية الشعبية وتدير ظهرها أكثر وأكثر للأرياف وتغض الطرف عن حقائق التنمية غير المتوازنة وتكون مهتمة فقط بتصدير الأرباح الهائلة إلى الدول الأجنبية, أرباحٌ تجنيها من استغلال الشعب. وتؤكد الأحداث الحالية على صحة هذا التّأكيد حيث يمكننا أن نرى الفساد الفاضح والمستشري و”المُقنّن” في الجزائر ونيجيريا ومصر وتونس في عهد زين العابدين بن علي وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال لا الحصر. وفي الجزائر مثلا، تستحوذ البرجوازية الغير الوطنية, العقيمة وغير المنتجة على اليد العليا في إدارة شؤون البلاد وفي توجيه خياراتها الاقتصادية. وتُشَكِل هذه النخبة البرجوازية أكبر تهديدًا لسيادة الأمة لأنها تبيع الاقتصاد إلى العواصم الأجنبية والشركات متعددة الجنسيات وتتعاون مع الإمبريالية في “حربها على الإرهاب”، وهي ذريعة أخرى لتوسيع هيمنتها والصراع من أجل الاستيلاء على الموارد [9]. وكانت البرجوازية هي من تخلت عن المشروع التنموي المستقلّ الذي تم طرحه خلال عقد الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكما وصفها فانون كانت “عاجزة عن طرح أفكار كبرى, وعن القيام بأعمال تتجلّى فيها روح الابتكار، ولم تنجح حتى في مجرّد الحصول على بعض التنازلات من الغرب، مثل الاستثمارات التي كانت ستصبح ذات قيمة لاقتصاد البلاد.” [10].

وعلى النقيض من ذلك، تقدّم البرجوازية الآن تنازلًا تلو الآخر تشمل مشاريع الخصخصة العمياء والمشاريع الأخرى التي ستقوض سيادة البلاد وستعرض سكانها وبيئتها للخطر، مثل مشروع استغلال الغاز الصخري. [11]. واليوم، تتبع الجزائر وتونس ومصر ونيجيريا والسنغال وغانا والجابون وأنجولا وجنوب أفريقيا، على سبيل المثال ، الإملاءات التي تفرضها وسائل الاستعمار الجديد مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتتفاوض (الجزائر) على الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. ولا تزال الدول الأفريقية الأخرى تستخدم الفرنك الأفريقي، وهو عملة موروثة من فترات الاستعمار، ولا يزال يخضع لسيطرة وزارة الخزانة الفرنسية. وكان فانون سيثور على هذا الغباء والغفلة الكبيرة. فكيف يمكننا الاستمرار في الخضوع للاستعمار والانحناء لكل حماقة من أجل إرضاء العواصم الأجنبية؟ وكان فانون قد تنبأ بهذا الوضع المشؤوم والسلوك المروِع للبرجوازية القومية عندما أشار إلى أن رسالة البرجوازية لا علاقة لها بإحداث نقلة للبلاد وتغيير أحوال الأمّة، بل جعل نفسها وسيطا بين البلاد وبين رأسمالية متفشية رغم اضطرارها للتّخفي، رأسمالية تضع على وجهها اليوم قناع “الاستعمار الجديد” [12]. وهذه هي النقطة التي يمكننا أن نُدرك من خلالها القيمة الدائمة لتوظيف رؤى فانون النقدية عندما يصف لنا الواقع المعاصر في مرحلة ما بعد الاستعمار، وهو واقع شكَّلته البرجوازية القومية “غير الوطنية … لتسير راضية النفس مطمئنة البال في طريق فضيع مناقض لمصلحة الأمة”، طريق تسلكه برجوازية تقليدية , برجوازية ارتضت في غباء وحمق وحِطّة ألّا تكون الا برجوازية” [13].

هذا بالضبط ما حدث في الجزائر ودول أخرى في قارة أفريقيا. وتبدو هذه الأنظمة سعيدة بالدور الذي تلعبه كوكيل تجاري للعواصم الغربية، كما تبدو منشغلة فقط بملأ جيوبها في أسرع وقت ممكن وتجاهل الركود المؤسف الذي تغرق بلدانهم فيه بشكل أكبر وأكثر عمقًا. وكان فانون سيصاب بالصدمة بفعل التقسيم الدولي المستمر للعمل حيث لا يزال الأفارقة “يصدرون المواد الخام ويستمرون في لعب دورهم كمزارعين صغار لأوروبا يتخصصون في إنتاج المحاصيل الخام.” [14]. وينبغي إعادة النظر والتفكير في نقد فانون للسياحة، التي رآها كصناعة جوهرية في مرحلة ما بعد الاستعمار. يدين فانون حقيقة تحول النخب القومية إلى “منظمين للحفلات” لنظرائهم الغربيين في خضم الفقر المدقع لشعوبهم. وأكد فانون على أن هذه النخب ستنظّم بلادها عمليًا كـ “ماخور لأوروبا” بسبب افتقارها للأفكار وانقطاعها عن شعبها[15] . وهذه ليست مجرد تجربة في إحدى بلدان البحر الكاريبي، ولكنها أصبحت تمثل تجربة العديد من الدول الواقعة في قارة أفريقيا مثل جنوب أفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري وكذلك تونس ومصر والمغرب.

“ففي هذه البلاد الفقيرة والمتخلفة، حيث تكون القاعدة هي أن تحيط الثروة الفاحشة بالفقر المدقع، يكون الجيش والشرطة أعمدة النظام القائم؛ أي قوات الجيش والشرطة التي يشرف على توجيههما خبراء أجانب (وهذه قاعدة أخرى ينبغي عدم نسيانها). وتتناسب قوة الشرطة ونفوذ الجيش مع حالة الركود التي يعيش فيها سائر الأمة. وبفضل القروض السنوية، ينتزع الأجانب العديد من الامتيازات وتتعدد الفضائح ويزداد ثراء الوزراء وتتأنق زوجاتهم، وينتفع أعضاء البرلمان من مناصبهم، ولا يبقى شرطي ولا موظف بسيط من موظفي الجمارك إلا ويشارك وينضم إلى ركب الفساد الكبير” [16].

تمثل هذه الفقرة الحانقة من كتاب “معذبو الأرض” تصويرًا دقيقًا جدًا للوضع في العديد من البلدان الأفريقية حيث يكون القمع وكبت الحريات هو القاعدة – معززة بالطبع بالتجربة الأجنبية-، وحيث ترسِّخ النخب الجشعة الفساد وتخدم المصالح الأجنبية. وكان فانون واحدًا من بين المفكرين الراديكاليين القلائل الذين أشاروا إلى مخاطر النزعة الفطريّة (الأهلانيّة) – التي “تمت رعايتها بعناية” كما قال المفكر إدوارد سعيد – على إحدى الحركات السياسية الاجتماعية مثل حركة التخلّص من الاستعمار [17]. تراها تنتقل من مرحلة القومية إلى القومية المتطرفة، ثم إلى الشوفينية “التعصب القومي” وأخيرًا إلى العنصرية والقبلية.

ويتضح ذلك في العديد من الأيديولوجيات الإقصائية والعقائدية مثل العروبيّة وزنجيّة صنغور والدعوة إلى اتباع إسلام خالص وأصيل، هذه الأيديولوجيات كانت لها نتائج كارثية على الشّعوب. ولنعد مجددًا إلى تناول النموذج الجزائري، حيث تم تجاهل التعدديّة الثقافية لمصلحة تصور ثقافي محض وضيّق للهويّة الجزائرية, وعندما تمّ تهميش البعد البربري الأمازيغي من التراث الثقافي الجزائري وتقليصه إلى مجرد مظاهر فولكلوريّة، وعندما شاركت النخبة في سياسة التعريب المتصلّبة، وعندما طرحت قراءةً متحفّظة للدين ورؤية رجعية لدور المرأة في المجتمع عن طريق تبني إجراءات اجتماعية مُرضية للإسلاميين مثل قانون الأسرة الشهير والرجعي الصادر في عام 1984.

وأشار إدوارد سعيد إلى أنه كانت هناك جهود إضافية بدت وكأنها تُبذَل في سبيل تعزيز فكرة أن مجرد كون المرء سوريًا أو عراقيًا أو مصريًا أو سعوديًا غايةٌ كافية، بدلًا من التفكير بشكل نقدي، أو حتى جريء بشأن البرنامج القومي نفسه [18]. وتحتل السياسات القائمة على الهوية المكانة الرئيسية، كما “تنزع الوحدة الأفريقية قناعها وتنقسم إلى نزعات مناطقية داخل القوقعة الجوفاء للقومية نفسها” [19]. وكان فانون قد دافع عن تجاوز الخطوات الأولى للهوية القومية الحازمة نحو تحقيق التحرر الحقيقي الذي يشتمل على تحول الوعي من وعي قومي إلى وعي اجتماعي. [20]. وتمثلت رؤية فانون للجزائر في المستقبل، التي اشترك في تبنيها مع مرشدهه عبان رمضان، مهندس الثورة، في إنشاء مجتمع ديمقراطي علماني مع منح أولويةٍ للمواطنة على حساب الهويات (العربية والأمازيغية والإسلامية واليهودية والمسيحية والأوروبية والبيضاء والسوداء وخلافه): “في المجتمع الجديد الذي يتم بناؤه”، حسبما كتب فانون في كتابه المُعَنْون “دراسات في الاستعمار البائد” يوجد جزائريون فقط. ولهذا السبب، فإن كل فرد يعيش في الجزائر يُعد جزائريًا، من البداية … ونحن نريد جزائر مفتوحة للجميع، يمكن لكل موهبة أن تترعرع فيها [21] . ولم ينس فانون دور المرأة في المجتمع الجديد عندما قال إنه يجب بذل كل جهد ممكن لحشد الرجال والنساء بأقصى سرعة ممكنة، وحذرنا من “خطر تكريس التقاليد الإقطاعية التي تقدس تفوق وسيطرة العنصر الذكوري على العنصر الأنثوي [22]. وأوضح فانون في مقالة كتبها في كتابه الصادر خلال عام 1959، والذي يحمل عنوان “كشف النقاب عن الجزائر” كيف كانت النساء من العناصر الأساسية في الثورة الجزائرية، وكيف ساهمت ضروريات القتال في ظهور مواقف وتوجهات جديدة؛ حيث “اختفت تلك الميزة المُحَرَمة التي يتخذها الحجاب في الوضع الاستعماري اختفاءً شبه كلّي في سياق النضال التحرري [23].

البدائل: لحظة فانونية ثانية؟

من سوء الحظ أن مثل هذه الرؤية النبيلة للمجتمع التعددي لم تتحقق بعد، وهذه هي اللحظة الفانونية الثانية للتخلص من الاستعمار، وهي لحظة تنفصل عن التنظيمات الهرمية والانقسامات والنزعات الإقليمية التي رسخها الاستعمار. وهذا الانفصال يتم عن طريق تبني الإنسانية العالمية (التي ستضم الرجال والنساء)، وعن طريق بناء حركات تضامن إقليمية ودولية.

لا يترك الواقع المعاصر المحزِن (الذي وصفه فانون، وحذّر منه منذ خمسة عقود) أيّ شك حول ما إذا كان فانون حيًا اليوم, سيصاب بخيبة أمل كبيرة إزاء النتيجة التي تمخضت عن جهوده والجهود التي بذلها الثوريون الآخرون. واتضح أن فانون كان محقًا بشأن جشع وشِقاق البرجوازيات الوطنية وحدود القومية التقليدية، ولكنه لم يقدم لنا وصفة لإحداث الانتقال إلى نظام سياسي متحرر جديد بعد مرحلة تصفية الاستعمار. وربما، لا يوجد شيء من هذا القبيل يُطرح كخطة أو حل مُفَصَّل. وربما نظر فانون إلى هذا الأمر على أنه عملية طويلة الأمد تستفيد من التطبيق العملي، وعلوا على هذا, من الثقة في الجماهير وإمكانياتهم الثورية في معرفة البديل التحرري.

ولكن فانون يحذرنا من أن الإثراء الفاضح والسريع الذي تحققه لنفسها تلك الفئة المحتكرة سيكون مصحوبًا بـ “صحوة حاسمة من طرف الشعب ووعي متزايد يبشِر بحلول أيام عاصفة” [24]. ويمكننا فجأةً رؤية منطق الثورة والتحرّر لدى فانون، بوضوح جليّ في الانتفاضات العربية التي اندلعت في عام 2011. وقد تحول ما بدأ في تونس، ومن بعده ميدان التحرير في مصر إلى تمرّد عالمي جديد انتشر إلى أسبانيا، وانتقلت حركة الغضب منها إلى أثينا ضد إجراءات التقشف القاسية، مرورًا بالتمرّد المدني الذي اندلع في المملكة المتحدة والحشود الطلابية الهائلة المطالبة بإنهاء التعليم من أجل الربح في شيلي، وصولًا إلى حركة “Occupy” التي ثارت ضد هيمنة الـ 1%، والانتفاضات التي اندلعت في تركيا والبرازيل وخلافه. وثارت الجماهير الشعبية في جميع هذه الدول ضد عنف العالم المعاصر، الذي لم يقدّم لهم سوى إفقارًا وتهميشًا متزايدًا، وإثراءً للقلة على حساب هلاك الأغلبية.

وكانت دولًا مثل مصر وتونس تتلقى إشادات على إنجازاتها الاقتصادية “الرائعة” مع معدلات النمو الاقتصادية المرتفعة التي لا تعكس على الإطلاق ترسّخ الفقر المدقع والتفاوت الاجتماعي العميق في هاتين الدولتين. واقتحمت الجماهير المشهد السياسي، واكتشفت إرادتها وقوتها السياسية وبدأت من جديد في صنع التاريخ. وكما قال المصريون عن بداية ثورتهم التي اندلعت في 25 يناير: “عندما توقفنا عن الخوف، علمنا بأننا سننتصر.” ولن نسمح لأنفسنا مجددًا بالخوف من الحكومة. هذه هي الثورة التي اندلعت في بلادنا وعقولنا. [25]. ولم يثُر المصريون والتونسيون للمطالبة بالديمقراطية والحرية فحسب، ولكنهم ثاروا أيضًا من أجل الخبز والكرامة احتجاجًا على الظروف الاقتصادية والاجتماعية القمعية التي عاشوا في ظلها لعقود طويلة. لقد انتفضوا لمواجهة التقسيمات الجغرافية المانويّة للمضطهِد والمضطهَد (والتي وصفها فانون بشكل جيد جدًا في كتاب معذبو الأرض)، وهي التقسيمات الجغرافية التي يفرضها عليهم النظام الإمبريالي الرأسمالي العالمي.

ولكن، ما الذي يمكن أن يقوله فانون لنا عما حدث في مصر منذ عام 2011 مع وقوع الإنقلاب العسكري وتواصل الثورة المضادة؟ ربما كان فانون ليقول: “يجب عدم السماح للبرجوازية بالعثور على الظروف المناسبة لأن تتواجد وتنمو.” وبعبارة أخرى، كان يجب أن يساهم الجهد المشترك للجماهير، والتي يقودها الحزب والمفكرون الذين يتمتعون بدرجة عالية من الوعي والمتسلّحين بالمبادئ الثورية، في سد الطريق أمام هذه الطبقة الوسطى المؤذية والعقيمة. [26]. ولكن، ما الفارق بين الليبراليين والإسلاميين أو الجنرالات العسكريين؟ الجواب هو أن كلاّ منهم ينتمي إلى البرجوازية العقيمة التي تتماشى مع متطلبات الرأسمالية النيوليبيرالية العالمية. كما كان فانون سيكرّر لنا الملاحظة المهمة التي قدمها عن بعض الثورات الأفريقية (ومن بينها الثورة الجزائرية)، وهي طابعها الموحِّد الذي يهمّش أي تفكير في ايديولوجية سياسية واجتماعية بشأن كيفية تحويل المجتمع بشكل جذري. وهذه نقطة ضعف كبيرة شهدناها مجددًا مع الثورة المصرية. يقول فانون: “القومية ليست عقيدة سياسية أو برنامجا اجتماعيا”[27] . ويصرّ على ضرورة أن يمضي الحزب السياسي الثوري قدمًا في تحقيق مطالب الجماهير، وتثقيفهم سياسيًا، وعلى أن يكون هذا الحزب “أداة في أيدي الشعب والناطق القوي بلسان الجماهير والمدافع الصامد عنها”. ويرى فانون أن الوصول إلى مثل هذا التصور للحزب يحتم علينا أولًا أن نخَلِص أنفسنا من الفكرة النخبوية البرجوازية و”الموقف الازدرائي القائل أنّ الجماهير عاجزة عن قيادة نفسها”. [28].

وكان فانون يرى أن كلمة “نحن” كانت دائمًا إبداعيّة، “وتشير إلى العمل السياسي والتطبيق العملي والتفكير الجماعي. [29]، حيث كان يرى أنّه لا وجود للأمة إلاّ ببرنامج اقتصادي وسياسي اجتماعي “تنضجه قيادة ثورية وتتبناه الجماهير بفهم وحماس كامل.” [30]. ولسوء الحظ، فإن ما نراه اليوم هو نقيض ما كان فانون ينادي إليه بقوة، حيث نرى بلاهة البرجوازيات المعادية للديمقراطية والمتجسدة في ديكتاتوريات قبلية وعائلية، برجوازيات تمنع الناس من المشاركة في تنمية بلادهم بعنف مفرط في كثير من الأحيان وتعزِّز مناخ العداوة المتزايد بين الحكام والمحكومين. ويؤكد فانون، في نهاية كتابه “معذبو الأرض” أننا يجب أن نتوصل إلى مفاهيم جديدة من خلال تثقيف سياسيّ مستمر يثريه نضال الجماهير. ولا يتمثل التثقيف السياسي بالنسبة له في الخطابات السياسية فحسب، ولكنه يتمثل بالأحرى في “فتح عقول” الناس و”إيقاظهم” والسماح بتنمية ذكائهم. [31]. وربما يكون هذا أحد أكبر تركات فانون. إنّ رؤيته السخية والثورية منعشة جدًا ومتجذرة في حركات النضال اليومية للناس التي تفتح آفاقًا لأفكار وصور جديدة. ويرى فانون أن كل شيء رهن بالجماهير، ومن ثَمّ جاءت فكرته عن المفكرين الراديكاليين المتفاعلين في ومع حراكاتها, مفكرين قادرين على التوصل إلى مفاهيم جديدة بلغة غير تقنية وغير محترفة.

وفي نفس السياق, يرى فانون أنّه يجب أن تتحول الثقافة إلى ثقافة نضال وأن يُركِز التعليم على التحرر الكامل أيضًا. ويقول فانون: “إذا لم يتم توضيح معنى القومية، وإذا لم يتم إثراءها وتعميقها عن طريق تحول سريع جدًا إلى الوعي بالاحتياجات الاجتماعية والسياسية، أو إلى تطلّع إنساني بعبارة أخرى، فإنها ستفضي إلى طريق مسدودة غير نافذة”. [32]. وهذا هو ما نحتاج إلى أن نضعه في اعتبارنا عندما نتحدث عن التعليم في المدارس والجامعات. ويكون التعليم المعادي للكولونيالية بالمعنى الفانوني تعليما يساعد في خلق وعي اجتماعي وأفراد اجتماعيين. ويرى فانون أن المناضل أو المفكر ينبغي ألا يتبع طرقًا مختصرة تقصي الشعب بدعوى إنجاز الأمور في أقصر وقت لأن هذا التوجه عقيم وغير إنساني. ويتعلق الأمر بالاجتماع والتفكير معًا، وهو أساس المجتمع المتحرر. وهذه ليست فكرة تجريدية فحسب، لأنّ فانون يقدّم لنا نماذج ملموسة من الثورة الجزائرية حين كتب عن إنشاء لجان إنتاجية/ استهلاكية بين الفلاحين وجبهة التحرير الوطني, لجانٌ أثارت أسئلة نظرية بشأن تكديس رأس المال: “لقد تمكنّا من تنفيذ هذه التجارب المهمّة في تلك المناطق بنجاح، حيث شاهدنا الإنسان يُخلَق في الطّلائع الثورية. لأن الناس بدأت في إدراك أن المرء يعمل بعقله وقلبه أكثر مما يعمل بعضلاته وعرقه.” [33].

كما يخبرنا فانون عن تجربة أخرى في كتابه “دراسات في الاستعمار البائد” في مقال عن الإذاعة “صوت الجزائر” [34]، حيث يصف اجتماعًا عُقد في غرفة كان الناس يستمعون فيها إلى الإذاعة مع وجود مناضل (مدرِّس) في وسطهم. ويمثل هذا النوع من الفصول الدراسية التي كتب فانون عنها مساحة يكون فيها المدرس مناقشًا مطّلعًا، وليس مديرًا، ويكون الغرض من التثقيف السياسي فيها هو التمكين والتأهيل الذاتي. ولا يمكن لجهود المفكر والمناضل في خدمتهم للشعب أن تكون مثمرة بالفعل دون كونهم ملتزمين بتحقيق تغيير جذري، ودون تخليهم عن موقع الامتياز (الوصولية)، ودون تحدّيهم للإنقسامات السّائدة تحت الرأسمالية : انقسامات بين الزعيم والجماهير, بين العمل الذهني والعمل اليدوي, بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية, بين المركز والمحيط إلى غير ذلك.

ويرى فانون أنّه من الواجب نزع القداسة والوهم عن المركز (المدينة العاصمة والثقافة الرسمية والقائد المعيَّن), وبناء نظام جديد قائم على علاقات فعّالة تحُلّ محل التنظيمات الهرمية الموروثة عن الإمبريالية [35] . ومن أجل تحقيق التحرر، ينبغي إطلاق العنان للوعي الذاتي، وهو عملية متواصلة لاكتشاف الذات, للتعاطف والتشجيع والتواصل مع الآخرين. وهذا درس أساسي يتعين علينا أن نأخذه بعين الاعتبار عند بناء حركات اجتماعية شعبية متنوعة, غير هرمية وتعددية. ولم يكن فانون ماركسيًا، ولكنه كان يؤمن بقوة أن الرأسمالية مع الإمبريالية وتقسيماتهما تستعبد الناس. وعلاوة على ذلك، يوضّح تشخيصه المبكر لعجز النُخب القومية عن الوفاء بمهمتها التاريخية الأهمية المتواصلة لفكر فانون في الوقت الحالي.

ورغم فشله في طرح أيديولوجية مفصّلة عن كيفية تجاوز الإمبريالية والقومية المتزمتة وتحقيق التحرر والشمولية – يمكنننا أن نلقي باللائمة في حدوث ذلك على وفاته المبكرة في سن السادسة واللاثين من عمره- إلا أنه تمكَن بالتأكيد من تزويدنا بأدوات ضرورية من أجل صياغة هذه الأيديولوجية بأنفسنا. ذلك التصور النيّر للتعليم الذي يتأثر دائمًا بالممارسة ويكون أداة تحويلية أيضًا تسعى إلى تحرير جميع البشر من الإمبريالية هو التركة الحية لمفكر ثوري وعظيم.

 

[ترجمة من الانجليزية: نادية مكاوي]

 

المراجع

[1] معذبو الأرض، فرانز فانون، Penguin (انجليزية)، 1976، صفحة 188 – 189.

[2] تم اقتباس عبارة “أرواح جديدة” من إيمي سيزير.

[3] الاستعمار البائد، فرانز فانون، Grove Press، 1967، صفحة 181.

[4] تم تقديم تحليل أكثر عمقًا في كتاب “الاستعمار البائد”

[5] مزالق الوعي الوطني، فصل في كتاب “معذبو الأرض”، صفحة 119 – 165.

[6] الدولة الفاشية الجديدة: ملاحظات عن أمراض السلطة في العالم الثالث، إقبال أحمد، دورية الدراسات العربية ربع السنوية رقم 3، العدد الثاني (ربيع 1981)، صفحة 170 – 180.

[7] إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية ، Vintage، 1994، صفحة 328.

[8] معذبو الأرض، فانون، صفحة 119.

[9] هل الجزائر دولة مناهضة للإمبريالية، حمزة حموشان، جدلية، أكتوبر 2013.

[10] معذبو الأرض، فانون، صفحة 141.

[11] الجزائر، سوق ضخم: السياسة والنتائج الاقتصادية للانفتاح، حمزة حموشان، جدلية، يناير 2013.

[12] معذبو الأرض، فانون، صفحة 122.

[13] نفس المرجع، صفحة 121.

[14] نفس المرجع، صفحة 122.

[15] نفس المرجع، صفحة 123.

[16] نفس المرجع، صفحة 138.

[17] الثقافة والإمبريالية، إدوار سعيد، صفحة 371.

[18] نفس المرجع، صفحة 361 – 362.

[19] معذبو الأرض، فانون، صفحة 128.

[20] نفس المرجع، صفحة 165.

[21] الاستعمار البائد، صفحة 32 و152.

[22] معذبو الأرض، فانون، صفحة 163.

[23] الاستعمار البائد، فرانز فانون، 1967، صفحة 61

[24] معذبو الأرض، فانون، صفحة 134.

[25] اقتباس ذكره أحمد محمود في مقالة بجريدة الجارديان “مبارك لا يزال هنا، ولكن هناك ثورة في عقولنا” كريس

ماكجريل، 5 فبراير 2011.

[26] معذبو الأرض، فانون، صفحة 140.

[27] نفس المرجع، صفحة 163.

[28] نفس المرجع، صفحة 151.

[29] بعد 50 عام: تركة فانون، نايجل سي جيبسون، الكلمة الرئيسية التي ألقاها في سلسلة ندوات شؤون دول البحر الكاريبي، “بعد 50 عام: تركة فرانز فانون لدول البحر الكاريبي وجزر الباهاما، ديسمبر 2011.

[30] معذبو الأرض، فانون، صفحة 164.

[31] نفس المرجع، صفحة 159.

[32] نفس المرجع، صفحة 165.

[33] معذبو الأرض، فانون، صفحة 154.

[34] الاستعمار البائد، فانون، صفحة 69 – 97.

[35] الثقافة والإمبريالية، إدوارد سعيد، صفحة 330.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى