صبحي حديديصفحات الرأي

الإرهاب والحريات العامة في الغرب: حصاد الهستيريا/ صبحي حديدي

 

الواقعة جرت مطلع هذا العام، لكنّ صحيفة الـ«إندبندنت»، وصحف بريطانية أخرى، لم تكشف النقاب عنها ـ أو تكتشفها، بالأحرى ـ إلا قبل يومين: سلطات الشرطة صادرت الكومبيوتر الشخصي للصحافي البريطاني سكندر كرماني، بأمر قضائي يخصّه كما يخصّ الجهة التي يعمل لديها (البرنامج الشهير «نيوزنايت»، بي بي سي 2). وكان كرماني قد أنجز تحقيقات بالغة الأهمية، حول الجهاديين البريطانيين تحديداً؛ كما أجرى سلسلة مقابلات جسورة ذاع صيتها، بينها واحدة مع الأسترالي جاك بيلاردي، اليافع الذي نفّذ بعدئذ عملية انتحارية في العراق، في آذار (مارس) الماضي، ذهب ضحيتها 17 شخصاً.

إجراء الشرطة استند إلى إحدى موادّ «قانون الإرهاب ـ 2000»، الذي سبق لمنظمات عديدة أن اعتبرته منافياً لحرّية التعبير، خاصة إذْ يتكىء على تعريفات للإرهاب فضفاضة وغائمة، تتيح الخلط بين العمل الإرهابي وأشكال الاحتجاج السلمي على سبيل المثال. وقد حدث، بالفعل، أن استُخدمت إحدى موادّ القانون طرد والتر فولفغانغ، بالقوّة، خلال خطبة جاك سترو أمام مؤتمر حزب العمال سنة 2005، كما مُنع من العودة إلى المؤتمر بعدئذ. ورأى البعض أن القانون يمكن استخدامه، أيضاً، ضدّ معارضين شرعيين أجانب، لا تتوفر في بلدانهم حرية التعبير و يستخدمون الأرض البريطانية لممارسة هذا الحقّ؛ إلى درجة أنّ أنشطة التضامن مع نلسون مانديلا كانت ستُعتبر إرهابية لو أنّ «قانون الإرهاب ـ 2000» سُنّ في عهد مارغريت ثاتشر!

مستوى آخر لتخوّف المنظمات المدافعة عن حرّية التعبير، يتصل بحماية مصادر الصحافي، من جهة أولى؛ والدخول القسري على بنوك المعلومات والمعطيات، الصحافية والأكاديمية، من جهة ثانية. وهكذا، اعتبرت الشرطة أنّ أولئك الذين يجري كرماني مقابلات معهم ليسوا «مصادر معلومات»، بل هم «إرهابيون أعضاء في تنظيم إرهابي»، يحدث أنه «داعش»؛ الأمر الذي يبرر مصادرة الكومبيوتر الشخصي للصحافي، واستخراج معلومات شتى، قد يكون الكثير منها غير ذي صلة بالشخص المعني أو حتى موضوع البرنامج. وقد تعتبر الشرطة، في أي يوم مقبل، أنّ «المركز الدولي لدراسة التشدد»، في كنغز كوليج، لندن، مصدر معلومات حول الجهاديين الأوروبيين، قبل أن يكون معهداً أكاديمياً لتنفيذ الدراسات والأبحاث!

«ثمة مضاعفات خطيرة لهذه الحال، إذْ أعلم أنّ بعض الموادّ لم تُنشر أو تُذاع من باب القلق على حماية المصدر»، يقول غافين ميلار، المحامي المختصّ بقضايا وسائل الإعلام؛، ويتابع: «نحن نتحدث هنا عن هوامش، وإيميلات، وأفلام فيديو، ومواد صوتية، جرت مصادرتها. لا أظن أننا نسمع فيها سبب ذهاب الشبان [إلى سوريا]، فالنقاش لم يتقدم بتأثير التغطيات الإعلامية، لأنّ وسائل الإعلام خائفة من قانون الإرهاب». إيان كاتز، رئيس تحرير برنامج «نيوزنايت»، يقول: «رغم أننا لن نسعى إلى عرقلة أي تحقيق تجريه الشرطة، فإننا قلقون من أنّ استخدام قانون الإرهاب، للحصول على مراسلات بين صحافيين ومصادرهم، سوف يجعل من الصعب على المراسلين تغطية هذه المسألة التي تجتذب اهتمام الرأي العام».

من جانبه يقول جو غلانفيل، مدير الحملات في منظمة English Pen، أنّ «الهستيريا» الراهنة حول الإرهاب أكبر من تلك التي شهدتها بريطانيا بعد 11/9 و7/7: «إذا توجه الصحافي نحو أمر يخصّ الإرهاب، فإنّ الشرطة سوف تستخدم قانون الإرهاب لتعقّب مصادره».

هي أجواء تعيد الذاكرة إلى سنوات قليلة مضت، حين طُرح في بريطانيا هذا السؤال: هل تمكّن الإسلام، في السنوات والعقود الأخيرة، من إخراس الغرب؟ كان السؤال ثقيل الوطأة، استفزازياً ربما، باعثاً على القلق ومثيراً للسخط في آن؛ خاصة إذْ ينطوي على مفردة رجيمة حقاً، ومفزعة: الإخراس. كان السؤال مفاجئاً، أيضاً، لأنه أتى من بول فالليلي: رئيس التحرير المشارك في صحيفة الـ«إندبندنت» البريطانية، ذاتها؛ والكاتب التقدميّ إجمالاً، وصديق الثقافات غير الغربية والمجتمعات النامية، وصاحب سلسلة من الأعمال المتميّزة الجسورة في شؤون الدنيا والدين، بينها «السامريون الفاسدون: أخلاق العالم الأول ودَيْن العالم الثالث»، «أرض الميعاد: أقاصيص السلطة والفقر في العالم الثالث»، «السياسة الجديدة: التعاليم الاجتماعية الكاثوليكية للقرن الواحد والعشرين»، و«الحملة الصليبية الخامسة: جورج بوش ومَسْيَحة الحرب في العراق».

الإنصاف يقتضي التشديد على أنّ فالليلي لم يجب بالإيجاب على السؤال أعلاه، بل الأحرى القول إنه مال إلى وضع حيثيات السؤال (ولكن ليس وقائع السؤال ذاتها) في خلفيات عريضة عامة تُبعد المعنى عن روحية الجزم حول ما إذا كان الإسلام قد أفلح فعلاً في إخراس الغرب، بصدد حرّية التعبير بوصفها واحدة من القِيَم الكبرى في الغرب. لكنه، من جانب آخر، أو في نهاية المطاف، طرح السؤال على هذا النحو الصاعق المجرّد، وخلص إلى النتيجة التالية: بصرف النظر عن وقائع الخصومة الراهنة (بين العقائد الروحية جميعها، ولكن بين المسيحية والإسلام خصوصاً)، فإنّ أوروبا راكمت اليوم ميراثاً يمكن للجميع اعتناقه. فماذا سيقول فالليلي، أو ماذا ستقول له الوقائع الراهنة اليوم، التي تبدأ من الاتكاء على «قانون الإرهاب ـ 2000»، لتنتهك سلسلة من الحريات؛ لم تعد تتصل بالإسلام حصرياً، بل بمناخات «الهستيريا»، الجَمْعية كما صارت في الواقع؟

جوهر ما غاب عن سؤال فالليلي، وعن قسط كبير مما يدور السجال حوله هذه الأيام في ملفّ العلاقة بين الإسلام والعنف، لكي لا نتحدّث عن العلاقة بين الإسلام والإرهاب؛ هو الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة متماثلة متطابقة) معقدة شائكة متباينة؛ ليس من الحكمة أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى إلى سلسلة أسباب ذات صلة بما يُسمى صراع الحضارات وحروب الثقافات. في عبارة أخرى أشدّ اختزالاً للمشهد: ثمة السياسة أوّلاً، وقبل العقائد؛ وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية، ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين. كلّ هذا قبل اندلاع الانتفاضات العربية، وقبل بلوغ الإسلام السياسي المتشدد مرحلة ما بعد «القاعدة» وأسامة بن لادن، إلى «داعش» والخليفة البغدادي!

وهكذا، وحين يجرّد الغرب الإرهاب من مضامينه السياسية والاجتماعية والثقافية، فإنّ ما يتبقى منطقياً هو تلك المقاربة الوحيدة في السوق، والتي يحدث ايضاً أنها جذّابة تماماً ورائجة: صمويل هنتنغتون! وإذا كان المسلمون لا يعرفون سبيلاً إلى ردّ التهمة القائلة إن الإسلام (بوصفه ديناً وعلاقة بين العابد والمعبود، وليس فلسفة سياسية)، هو بالضرورة المطلقة حاضنة خصبة لتوليد صنوف الإرهاب كافة؛ فكيف إذا جاءهم مَنْ يقول: ليت البلية تنتهي هنا… المشكلة ليست في الحاضنة كدين يشجع على الأصولية والعنف، بل في الإسلام نفسه، في حدّ ذاته، وبوصفه ثقافة للدنيا قبل أن يكون ديناً للآخرة؟ ولقد رأينا كيف صارت الحال حين جاءت هذه الأطروحة في مقالة واحدة نشرها هنتنغتون سنة 1993، حول صدام الحضارات، فأقامت الدنيا ولم تُقعدها؛ قبل أن تحمل المقالة جنينها ثلاث سنين، فتلده أخيراً في شكل كتاب ضخم.

هل يحتمل العالم المعاصر كلّ هذا الشدّ والجذب، الإيديولوجي والعقائدي، حول ديانة باتت ملجأ المؤمن المعذّب ودريئة الإرهابي في آن؛ خصوصاً بعد افتضاح برامج العقائد الأخرى اليمينية واليسارية والقوموية، أياً كانت درجة الصدق في علمانية فلسفاتها؟ وهل تمرّ احتقانات كهذه دون عواقب وخيمة، حين يعلن الغرب دفاعه عن قِيَم الحقّ والحرّية والاختلاف، ثمّ تنتهك مؤسساته أبسط تطبيقات هذه المبادىء، تحت راية الأمن ومحاربة الإرهاب؟

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى