صفحات الرأي

انتحارٌ في صلب الحياة/ سحر مندور

 

 

عندما ينتحر نجمٌ أو نجمة، يرتقي الانتحار إلى موضعٍ صريح من الضوء. إذا لم يترافق مع إفلاسٍ أو فضيحة قاسية «تبرره» اجتماعياً، تراه يتجلّى تماماً في صدر الحياة. في ملء عين الشمس، يذكّر الأحياء بالخيار الذي يجرونه يومياً، وهو خيار البقاء على قيد الحياة.

لذلك، لا تتلقى «الجماهير» خبر انتحار نجمها بصدرٍ عارٍ. آلية إنتاج الخبر بحدّ ذاتها تغلّفه بسببٍ تحمد عقباه: مات روبن ويليامز منتحراً، فقد كان يعاني من الاكتئاب العياديّ الحاد. وتتكرر الأسباب مع كل انتحار: كانت تعاني من إدمانٍ على الكحول، كان مستلباً لموسيقاه السوداوية … تتكرّر.

وهو تكرارٌ لا يؤسس لعادةٍ، لسياق، وإنما العكس. إذ تحضر «أسباب» الانتحار لتؤكد استثنائية الخيار الذي أقدم عليه المنتحر. لا تحبذ الجماعة طي الانتحار في سياق. ترفض أن يستتب كخيارٍ ضمن خيارات الحياة، رغم استقراره في تاريخ البشرية. الاستثناء يقود النجم المنتحِر إلى قراره هذا، يخرج به عن الجماعة بما يتيح لها أن تخرج عن تماهيها معه.

استملاك في الذاكرة

ترتفع الحواجب وتسأل: لماذا؟ كان غنيّاً، كانت مشهورة، … كانا من أصحاب المواهب، وهما بذلك محظيان، يملكان من متع المجتمع ما يقيهما شرّ الحياة. لقد حصّن المجتمع هذا الفرد، منحه أساليب دفاعٍ وقوّة، فلماذا غادرنا؟ ولكن، هذا السؤال لا يأتي بإجابةٍ نافعة إلا حين يقترن بمنطق استثناء الفرد المنتحر (الاكتئاب، الإدمان، …). فهو سؤالٌ من غير طبيعة الفعل: الانتحار هو خروجٌ عن أسس هذا المجتمع وهذه الحياة، فلا يمكن للمتع النابعة منهما أن تقي الفرد من الانتحار. كأن يُنتظر من الداء أن يكون الدواء. وهو انتظارٌ ذو مصداقية علمية وماورائية معاً في الحياة، لكن المنتحر خرج عنها.

لقد بنى النجم علاقةً بالجماهير، تشابكت حياتها مع حياته في علاقةٍ تنطوي على المتعة، التماهي، الحلم، ولو لساعتين من الزمن، وبتراكمٍ في الذاكرة. يأتي خبر الانتحار ليفصل بين الطرفين: النجم، وجمهوره. خبرٌ يُدخل عمق الإنسان في علاقةٍ كانت قائمة على مسافةٍ تتيح الإسقاط الحرّ. كان روبن ويليامز فكرةً عامة ومتاحة لكل من شاهده يوماً على الشاشة، يتذكر عبره طفولته، يتذكر موقف معيّن في سينما معيّنة خلال حضور فيلم معيّن.. لم يكن لويليامز حضور في حياة المتفرّج إلا عبر المتفرّج ذاته، وذكرياته، وأجندته الخاصة. خبر انتحاره جعله فرداً مستقلاً، سحبه من سردية الجماعات والمجتمعات عنه، ليستملك قصته في لحظتها الأخيرة. فلا يمكن بعد اليوم تذكّر روبن ويليامز من دون استفاقة قراره الأخير في الذهن. لقد استملك جزءاً من ذاكرة كل من يعرفه باختياره لموته.

لذلك، ولأسباب أخرى، يستعين الخطاب العام في التعامل مع خبر الانتحار بأدوات السلطة التي تعيد الطمأنينة إلى ناحيةٍ اختلت في العلاقة مع الحياة. كرمشٍ في العين، تمتد اليد نحوه بدقّة، تسحبه. كاهتزازٍ سريع في الصورة، لم يطفئ مضمونها لكنه شاغب فيه، خدشه.

خريطة الطريق

يستعين الذهن على الانتحار بأدوات السلطة التي خرج عنها المنتحر لمّا انتحر. الدين، المجتمع، السياسة، الثقافة، الاقتصاد.. المؤمنون يجدون في الانتحار معصيةً، تعدٍّ على قرار الخالق واستهتار بنعمة الحياة. فالمنتحر يبلغهم بأن هذه النعمة إنما هي نقمة عليه، يتخلّى عنها لسبب في علاقته بها. ما يعني أن سلّم القيم الدينية خاضعٌ للنسبية، لرغبةٍ بالإيمان به وليس لمصداقيته العابرة للعقول والعصور. فتراهم، بواسطة الدين، ينفضون الخبر عنهم كما يتفادى المتوضئ يد الفتاة. منهم من يلعن المنتحر لتعدّيه على سلطات الله، ومنهم من يطلب المغفرة لإنسانٍ عجز عن الوقوف على مستوى المسؤولية الموكلة إلهياً إليه، فقد القدرة على إيجاد أسباب الحياة. ومنهم من يراه غافلاً، غرّر به.

وكما يمتلك المؤمنون خريطة طريق للتعامل مع خبر يقاطع الحياة بهذه الحدّة، يمتلك «المدنيون» أو غير المتكلين على التعاليم الإلهية في قراءة جدوى الحياة، خريطةً شبيهة. فيها، تحضر معادلاتٌ باتت على مرّ أخبار الانتحار راسخة. منها ما يقوم على منهجٍ شبه علميّ في تحليل الأسباب، ومنها ما يكتفي بالاستناد إلى تراكمٍ شعبيّ: روبن ويليامز الذي أضحكنا طويلاً، مات مكتئباً، داخل كلّ مهرّج، طفلٌ يبكي، المال والشهرة لا يؤمنان الفرح، … وكما في حالاتٍ أخرى غير الانتحار، «يُحتفى» بالخبر في معرض تفاديه: «لقد عرف الحياة على حقيقتها»، مثلاً. وهي جميعها سبل شقّتها الدنيا فينا للتعامل مع الشكّ. شكٌّ بأسس الحياة، تحتاج النفس أن تحمي ذاتها منه. وترسخت هذه السبل في الوعي العام كما تشقّ المياه سبيلها في قنوات الأرض، ترسّخت حتى قويت على الإحساس الأول، وموّهت الشكّ حتى بدا وكأنه ليس هنا.

إن القيم التي تعالج خبر الانتحار هي تحديداً القيم التي يستهدفها خبر الانتحار: العيش أولاً، والعيش داخل مجتمع تالياً.

الثورة موت

جميعنا هنا، نعيش بالتي هي أحسن. هناك أكثرية من الناس لا تنتحر، رغم أنها تعيش الصعب وتمضي. المنتحرون هم الخارجون عن إجماع الجماعة على السعي، والمحاولة، والجدوى. وقد أرسي التمييز بين الموت من أجل الحياة وبين الموت كانسحابٍ من الحياة أو اعتراضٍ عليها. المجتمعات تحتفي بالأول، وتتباين في التعامل مع الثاني بينما تضعه في خانةٍ قاتمة.

إذا كان الموت من أجل قضيةٍ له موقع البطولة والشهادة في الأديان وخارجها، فإن قرار الانتحار الفردي المجرّد من «المنفعة العامة» يأتي كهزيمة. ليس فعل قتل الذات هو المؤرق، بل قتلها بلا قضية شديدة الارتباط بالحياة، بلا سبب يحتفي بهذه الحياة. فيوسم المنتحر بالشجاعة، ويوسم أيضاً بالضعف. يسجّل تفوّقاً أو تأخراً عن الحال العامة، وليس «اعتدالاً»، وسطية، أو براغماتية. وبذلك، تقول المعادلات الاجتماعية إن المعتدل هو القابل للحياة، بينما الطرفان المتطرفان يؤديان إلى الموت.

ويقوى المجتمع أحياناً على نقل انتحارٍ من خانة إلى خانة، تطويعه لخدمة الحياة حتى ولو حلّ يأساً منها. انتحار محمد بوعزيزي تحوّل إلى مبرّرٍ اعتمده الشعب للثورة. انتقل انتحاره من موقعٍ فرديّ جداً، إلى موقعٍ عام جداً. بات الشعار، تجلّى بدوره تماماً في صدر الحياة. فقد ذكّر الأحياء بالخيار الذي يجرونه يومياً للبقاء على قيد الحياة، ولفتهم إلى نار البديل الأخير. خرجوا لكي لا يصير حالهم كحاله، وخرجوا لموافقتهم على أسباب يأسه أيضاً. هنا، دمج الانتحار القيمتين: الشجاعة واليأس، الإقدام والهزيمة. طلب الرجل الموت يأساً، فصار يأسه مبرراً للاحتفال مجدداً بالحياة. وتلك مفاجأة من مفاجآت «الثورة» التي، بدورها، تأتي كمقاطعة عنيفة لحالٍ سائدة، تطلب موتها لتولد غيرها.

هناك الكثير الكامن عند الخط الدقيق الرابط ما بين الحياة والموت. فالبشر يقودون قصصهم على حافة الموت هذه، دائماً. ولا تكون الحياة كاملةً إلا بجهد النسيان.. نسيان الموت الكامن خلف كل رمشة عين، خلف كل مفترق طرق.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى