صفحات الثقافة

الاسم المستعار في الثقافة العربية/ محمود عبد الغني

 

 

 

“عندما يتكلم الإنسان باسمه لا يكون هو نفسه، امنحوه قناعاً وسيقول لكم الحقيقة”.

أوسكار وايلد

اسمي لا أحد

رغم أن الاسم المستعار يحلّ ضيفاً على سجين الظل والظلمة، وعلى عنف غياب العلامة، إلا أن العديد من الكُتّاب اعتبروه علامة عمق واستمرارية. الكثيرون يحيلون على الشاعر البرتغالي البرتغالي فيرناندو بيسوا الذي ألّف بأسماء مستعارة فاقت الستة، إلا أنه لم يعط أهمية لتبرير هذه التعددية الاسمية أو للتنظير لها. عكس بورخيس الذي ظلّ يلمّح لهذه التعددية، أو المجهولية: “لقد كنت هوميروس؛ وبعد ذلك سأصبح لا أحد، ومثل عوليس، سأصبح كل الناس؛ سأكون ميتاً” (خ.ل. بورخيس، الخالد).

إذا اعتبرنا الاسم المستعار هو كون المؤلف الحقيقي مجهولا، فقد وجدت هذه المجهولية منذ ليل الأزمنة. لقد كانت، حسب “يان بيرو”، معياراً وبدهية لدى القدماء الذين اعتبروا الفن، شديد العلاقة بالسحر، مشروعا جماعيا. ويعترف العديد من مؤرخي الفن القديم، فن مصر القديمة مثلا، بأن حبهم لهذا الفن لأنه مجهول الفنان، هذا تبرير واحد من أكبر مؤرخي الفن القديم “دفيد هوكناي”.

إن القناع الذي تحدث عنه أوسكار وايلد هو أصل المسرح. يعتبر أرسطو أن ديونيزوس، إله الخمر والفنون والأعياد، هو أصل المسرح، هذا الفن الجديد الذي وُلد في اليونان القديمة، أثناء الأعياد والاحتفالات التي كانت تقام على شرف الإله المتعدّد. فأثناء الاحتفالات الأولى فوق الخشبة، كان الممثل يرسم على وجهه حركات يعني فيprosopon مبالغا فيها تغيّر من شكل وجهه، بل وتحوّل صورته كلياً. إن القناع في اليونانية: الفرنسية “لا أحد”، يؤدي دوراً مزدوجاً: الحجب والإظهار.

الجاحظ: الدرجة الصفر للمؤلّف، النسبة المزيفة

الرقم صفر من اختراع علماء الرياضيات العرب بغرض إزاحة الاعتقاد بكل هوية واضحة، وتجسيد فكرة الفراغ واللامحدود. وكل كاتب يؤلف باسم مستعار هو ارتماء في الفراغ واللامحدود، وإلصاق للهوية الغامضة بوجوده. والعرب الذين اخترعوا الصفر في الرياضيات، هل عرفوا الاسم المستعار في التأليف الأدبي والفلسفي؟ لا يمكننا الوصل إلى أي نتيجة إذا ما اقتصرنا على الاسم المستعار بمفهوم المجهولية وتعدّد الهوية. لقد عرف العرب نوعاً آخر من هذا الإجراء يمكن تقديمه على الشكل الآتي: نسبة المؤلف أحد كتبه لكتّاب سابقين. هنا يقف الجاحظ اسما بارزاً. فقد نسب العديد من كتبه إلى كُتّاب سابقين عنه، ويبرر ذلك في رسالة من رسائله. لقد كان الجاحظ يعي أن نشر كتاب ما سيجرّ عليه العديد من المضايقات (كيليطو، الكتابة والتناسخ، تر:ع. بعبد العالي)، إذ كان الحسّاد “يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلمة، فإن أمكنتهم حيلة في إسقاط ذلك الكتاب عند السيّد الذي ألف له فهو الذي قصدوه وأرادوه” (رسائل الجاحظ). التأليف زمن الجاحظ لم يكن يحتاج إلى البحث والاعتكاف، بل ذكاء خارقاً لتجنب وقوع المصائب حين ظهور الكتاب. ومن بين تلك المصائب حسب الجاحظ: الطعن في المرحلة الأولىّ، ثم السرقة في المرحلة الثانية. الطعن يكون لدى “السيّد الذي ألف له”. يقول: فإذا هم” سرقوا معاني ذلك الكتاب وألفوا من أغراضه وحواشيه كتاباً، وأخذوه إلى ملك آخر، ومتّوا إليه به، وهم قد ذمّوه وثلبوه لما رأوه منسوباً إليّ، وموسوماً بي”. ولتجنب الطعن والسرقة لجأ الجاحظ إلى نسبته إلى مؤلف قديم “حفّه الزمن بالمجد والشرف.” (كيليطو). إن هذه النسبة هي عودة إلى الصفر، إلى زمن مضى، إلى مؤلف علامة عاش في زمن ماضٍ للاحتماء به، لكن النتيجة هي الهوية المضطربة للاسم. هكذا نسب الجاحظ العديد من كتبه إلى مؤلفين آخرين نالوا شهرة كبيرة في تأليف الكتب: “وربما ألفت الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه، فأترجمه باسم غيري، وأخيله على من تقدّمني عصره مثل ابن المقفع والخليل، وسَلْم صاحب بيت الحكمة، ويحيى بن خالد، والعتّابي، ومن أشبه هؤلاء من مؤلفي الكتب…” بهذه الطريقة يتقي الجاحظ شرّ الحاسدين بلجوئه إلى النسبة المزيفة (كيليطو). وبذلك يتقهقر اسمه إلى منزلة ثانوية، هو مؤلف الكتاب، فيما يتربع المؤلف القديم المنسوب إليه الكتاب على قمة لم يسع إليها.

 

الاسم المستعار: أنا الفرنسي هو الآخر الفارسي

نذكر حالة كتاب “رسائل فارسية” الذي نُشر في ما بعد باسم مؤلفه الحقيقي مونتسكيو. فما سبب حجب حقيقة تأليف هذا الكتاب من طرف المؤلف؟ فلا وجود لاسم المؤلف على الغلاف، فما وُجد لا يتجاوز الإشارة الآتية “مترجم عن الفارسية”، وطُبع في كولونيا، عند الناشر “بيار مارتو”. وقد أكد مونتسكيو بأنه لا يعرف هوية هذا الكتاب الذي يضم 161 رسالة، وكل ما قام به هو ترجمتها إلى اللغة الفرنسية. أما الناشر “بيار مارتو” فمن المستحيل التعرف عليه، وعنوانه: “قرب ثانوية جيزويت” هو عنوان خاطئ أيضاً. إن الناش غير موجود، مثله مثل المؤلف الفارسي المجهول. وحسب “يان بيرو” في كتابها عن “الاسم المستعار”، فقد تم استعمال اسم “مارتو” لأول مرّة سنة 1660 من طرف الناشر الهولندي “جان إيلزيفر” من أجل نشر كتاب “منتخبات  مختلف الأجزاء من أجل معرفة تاريخ هنري الثالث”. والسبب وراء كل هذه المناورات هو أن الملك لويس الرابع عشر كان شديد الحذر من المفكرين والكتاب الذين يعبرون عن رأيهم بشجاعة. فكان شديد الحرص على تطبيق أقصى درجات الرقابة على كل المؤلفات، فكان العديد منها يتعرض إلى المنع.

عقدة دون كيشوت

حين نضع اسماً مستعاراً على مؤلفاتنا، وحين نضع توقيعاً آخر على أفعالنا وأعمالنا، وحين نريد تسلية أنفسنا بلعبة الخلط بين الواقعي والخيالي ألا نكون في قلب تجربة دون كيشوت؟ إن ما يحدّد هوية دون كيشوت، ليس الخلط بين الحقيقة والأحلام، بين الخيال والواقع أو بين الكذب والحقيقة، بل الرغبة في تحويل الأحلام إلى حقيقة. والمدهش في هذا الأمر أن دون كيشوت توصل إلى تحقيق ذلك. أما في حالة التأليف الأدبي الذي يظهر باسم غير موجود، فإن لعبة خلط الأوراق، ولو على حساب المؤلف الحقيقي الذي يعود باسمه المشهور إلى درجة الصفر، كما عاد مونتسكيو باسم الناشر إلى درجة الصفر، فإن الهدف يكون منها خلق هوية مضطربة، مستأنفة لمسار بدأ من قبل، وتغمره الرغبة في البدء من جديد.

الإنترنت: ساحة معركة بين الأسماء المستعارة

يعي مستعملو الإنترنت أنه فضاء مراقب، لذلك فمنذ عشر سنوات وهو الجبهة الجديدة التي تتعارك فيها الأسماء المستعارة. لذلك فقد انخرطت بعض التقنيات الإلكترونية مثل “لينوكس” أو “تور” و”تيلز” في قلب هذه المواجهات. فمستعملو الإنترنت الذين يحرصون على حماية حياتهم الشخصية يضربون ألف حساب لإبحارهم ومحادثاتهم وطلباتهم لربط صداقات جديدة. ويتوقع الصحافي والباحث يان بيرو اتساع استعمال الأسماء المستعارة في فضاء الإنترنيت في المستقبل.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى