صفحات سورية

التيار التصوفي في حلب حيال الانتفاضة السورية


براء موسى *

فوجئ الحلبيون، كما عموم السوريين، باندلاع انتفاضة الكرامة السورية من تحت أظافر أطفال درعا، وربما كان الحالمون بالتغيير على الطريقة التونسية والمصرية يتوقعون أن تكون حلب بنغازي سورية، ولكن واقع الحال والانتفاضة في شهرها السابع، يشير إلى أن التساؤل عن تخلّفِ حلب في مواكبتها لركب المدن الأخرى يبدو وكأنه لا ينتهي.

اختلفت الأقاويل وتنوعت الآراء بين سيكولوجيا الخنوع، مروراً بالرقابة والقبضة المشددتين، فغياب المحفّز الصاعق، وصولاً الى مشاركة المصالح التجارية مع رجالات النظام، ونفوذ العشائر وتمويل الشبيحة.

لكن… وفي انتظار أن تفسّر البحوث لاحقاً هذا الموقف التاريخي لمدينة حلب، فهذه نظرة من زاوية الحاضن الديني الموصوف بالمحافظ لهذه المدينة العريقة.

التدين المديني الحلبي، أو الوجه المحافظ له، يحمل موروثاً ضخماً ومتنوعاً ومختلطاً بحيث يصعب ردّ الأشياء إلى جذورها. مثلاً يندهش الحلبي حينما يسمع أن مدينته «تشيّعت» في تاريخها بضع مرات.

ولكن ماذا عن الوجه الصوفي للمدينة؟ وما تأثيره وعلاقته في الأحداث الجارية؟

يتلخص الوجه التصوفي الحديث في حلب في الابتعاد عن السياسة، ولا أجد دلالة تعبيرية أدقّ من المثل الشعبي القائل: «ابتعد عن الشّرّ وغنّ له»، ولا تصويراً لتربية الأهالي لأبنائهم يعكس حرصهم أكثر من إبعاد شبح «شرّ» السياسة عن الأبناء قدر الإمكان. وليس مستغرباً في هذه الحال – وعلى سبيل المثال – أن يكون فريق الاتحاد الحلبي لكرة القدم يحظى بأكثر شعبية بين الفرق السورية، على رغم إخفاقاته المتعددة في انزياح لافتِ لاهتمامات الشباب عن الثقافة والسياسة حتى بأدنى مستوياتها مما يُدعى اصطلاحاً «الاهتمام بالشأن العام».

بعيداً عن حركة التصوف في التاريخ الإسلامي كظاهرة جمعت بين التفلسف والزهد والشطحات الوجدانية، نجد في الواقع الحلبي الحديث انحساراً في التفكّر الصوفي لمصلحة بعض الأدعية والأذكار على سبيل الطريقة النقشبندية أو الشاذلية أو الرفاعية ليس إلاّ.

بين مدارس الطرق الصوفية كانت المدرسة النبهانية الأكثر بروزاً أو شهرة في المجتمع المدنيي الحلبي (التسمية جاءت نسبة الى الشيخ محمد النبهان الذي توفي في 1975 وكان مؤسساً لمدرسة شرعية تسمى الكلتاوية).

في شكل من الأشكال، خلت المدينة ابتداءً من تسلّم البعث للحكم بانقلاب 1963 من الشيوخ الباحثين أو المجددين. فعلى سبيل المثال، نذكر الشيخ عبدالفتاح أبو غدة ومصطفى الزرقا ومعروف الدواليبي وآخرين. فيما اعتزل بعض الشيوخ الناس والمجتمع، ولعل أبرزهم الشيخ عبدالله سراج الدين.

بالطبع، لم يكن الانسحاب الطوعي أو القسري لعلماء حلب الاسلاميين من الحياة العامة نزولاً عند تطبيق علمانية حزب البعث المستولي على الحكم، وكذلك ليس اقتناعاً بفصل الدين عن الدولة، ولا هو بالتأكيد الزهد الصوفي بالسلطة، وإنما هو بطش النظام الممنهج لإحكام السيطرة الشاملة على كل المفاصل بما فيها التفكير، يمينياً كان أم يسارياً.

بعد أحداث الثمانينات والصراع بين النظام والإسلاميين، برز دور تلامذة المدرسة النبهانية رافعين راية الاستسلام البيضاء أو راية الولاء المطلق للسلطان، تحت شعار نبهانيّ مفاده «إصلاح الحاكم خيرٌ من تغييره». وكان من أبرز الأسماء من تلاميذ هذه المدرسة الشيخ صهيب الشامي مدير أوقاف حلب لثلاثين سنة تقريباً، ومفتي الجمهورية الحالي الشيخ أحمد حسون، والخطيب البارز محمود الحوت.

على أن التيار النبهاني لم يكن وحيداً في الانسحاب من السياسة لمصلحة السلطة، فكذلك تمنهج «أحفاد» الأمير عبدالقادر الجزائري من تلاميذ الطريقة الشاذلية في حلب الطريق ذاته، على رغم تاريخ الرجل النضالي ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ودوره الحاسم في منفاه دمشق عندما اشتعلت الفتنة في جبل لبنان بين المسيحيين والدروز، وامتدت إلى دمشق في ما سمّي بأحداث 1860.

في العقود الثلاثة التي تلت أحداث الثمانينات، رُوقبت المساجد بروّادها وخطبائها بصرامة شديدة من جانب السلطات، ليس بغية فصل الدولة عن الدين، وإنما لتنحية عموم المؤمنين عن السياسة كلياً، وهذا ما تحقق فعلياً على الأرض في انتصار ساحق لعلمانية مزعومة لنظام شمولي على تديّن شعب مقهور. والنتائج الكارثية لهذا النصر العظيم تجسدت في انتشار مكثّف وثقيل لمعنى مثل شعبي يقول: «إذا شفت الأعمى طبّو، مانك أرحم من ربّو»! وتراجع مخيف عن معنى الحديث النبوي «من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم».

في العقدين الكابوسيين لعهد الراحل حافظ الأسد كان اهتمام الشارع الحلبي بأهوال يوم القيامة حيث «النساء العاصيات اللواتي يعلّقن في جهنم من شعورهنّ وأثدائهنّ»، أقوى بما لا يُقاس من اهتمامهم بجوع جيرانهم على سبيل المثال.

ومع التفريغ الممنهج في الساحة الثقافية والسياسية بالنفي أو الاعتقال أو الهروب من البطش، والتضييق على النخب الفكرية والعلمية سواء في صفوف اليمين أو اليسار، لم تتوقف عملية الانسحاب من السياسة فحسب، بل ربما نلحظ أحياناً كثيرة الانسحاب من المجتمع ذاته، والبحث المضني عن الخلاص الفردي.

في عصر المعلومات الجديد والتقانات الحديثة تزعزعت إلى حد بعيد واحدة من أعرق قواعد المدارس الصوفية: «من لا شيخ له فشيخه الشيطان»، وأضحى محرك البحث «غوغل» مثلاً واحداً من شيوخ من أراد المعرفة.

لقد كان دور المشايخ والخطباء، وكذلك جيل الآباء، جوهرياً في ما مضى في التأسيس لثقافة «وأطيعوا أولي الأمر منكم». اليوم، لا أحد يمكنه التكهن إلى متى يبقى التساؤل عن التخلف الحلبي عن القافلة الثائرة مفتوحاً في مدينة الحلاّج والسهروردي.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى