راتب شعبوصفحات مميزة

الجهاديون مرض الثورة السورية: راتب شعبو

 

    راتب شعبو

يكاد يكون التوتر معدوماً بين الفكر والواقع في الثورة السورية، حتى يكاد ينحصر النشاط الفكري للمثقفين الديموقراطيين، خلال ما يقارب السنتين من عمر الثورة، في حيز الدفاع الانفعالي عنها وفق آلية “فقهية” تقوم على فكرة مستبطنة مؤداها أنه يحق للثورة أن تكون ما تشاء وأن تأتي ما تشاء.

الثابت الجوهري في هذه الآلية الذهنية، التي نمت على شوقنا الممض إلى ثورة تفكك الاستبداد، هو الثورة التي يتم إخراجها من التاريخ كماهية خالصة تسبغ الثورية على كل ما يصدر عنها. تماماً كما يجوهر الفقه مصادره الأولى القدسية (المطلقة الصوابية) ويسبغ القداسة والإلزام على كل ما يُشتقّ منها من أحكام وتوجيهات. هذا ما أدى منذ البداية إلى حرمان الثورة السورية من سلاح النقد ولاسيما بعدما سيطر على نشاطاتها العنف المضاد والنقد بالسلاح. الأمر الذي كرّس قصوراً فكرياً وسياسياً على ضفة الثورة. وكلما كان يوغل هذا الفكر في هذا المسار الانقيادي اللانقدي، كان يزداد ارتهاناً واستسلاماً لما صنعه بيديه من عجز وضحالة. الأهم أن الفكر الديموقراطي في الثورة السورية بنى في هذا المسار حجراً بعد حجر، الجدار الذي سيرتطم لاحقاً به، حين سيجد نفسه يدافع عن “جبهة النصرة” مثلاً وهي على ما هي عليه من عداء مبدئي للديموقراطية والمواطنة (لب الثورة السورية). لمزيد من الإذلال الفكري والسياسي، فإن “جبهة النصرة” هذه تدير ظهرها لهذا الفكر المدافع عنها (نفعياً على ما يتوهم) ولا تعبأ به ولا بأصحابه، ولا تجامل في عرض عدائها لكل الأفكار التي ثار السوريون توقاً إليها، وفي تبشيرها السوريين بدولة إسلامية تداوي الداء بداء أشد فتكاً.

حين نقف بعد سنتين من الثورة لنختار بين النظام و”جبهة النصرة”، فهذا يعني أمرين: الأول هو أننا فشلنا في تمييز خط فكري ديموقراطي مستقل عن هاتين الجهتين التوأم في الاستبداد والوحشية والتخلف، في لحظة تاريخية أتاحتها الثورة، التي رفعت من مستوى الطلب على الفكر السياسي إلى أقصى حد بلغه المجتمع السوري في كل تاريخه. الثاني أننا في وقوفنا هذا، إنما نقف على أطلال ثورة ديموقراطية غذّاها الإسلاميون بطاقتهم كي يهدموها بضيق أفقهم وجفاف أطرهم الفكرية وثقل أوهامهم.

السؤال اليوم هو ماذا يمكن أن نعمل بعدما وصلنا إلى ما وصلنا إليه: تمادي النظام في قمع شامل لا محدود من جهة، وسيطرة الإسلاميين بصورة شبه تامة على المجهود العسكري المواجه للنظام من جهة أخرى، مع استمرار حالٍ من التوازن العسكري المدمر بين الطرفين؟

كان واضحاً منذ البداية أن طريق العنف الذي كان قدراً على السوريين الثائرين أكثر مما كان خياراً لهم، يقود مع كل خطوة إلى تهميش التيارات السياسية المدنية لتملأ متن الثورة تيارات إسلامية متفاوتة في تشددها ومرجعياتها ومصادر تمويلها وتسليحها. كان هذا مفهوماً، فالجهات الإقليمية التي تكفلت دعم الثورة السورية في مسارها العسكري، ذات خلفية إسلامية، ومن الطبيعي أن تدعم الفصائل الإسلامية من أكثرها تقليدية وشعبية وصولاً إلى تفريعات “القاعدة”. وفي الواقع كانت ضرورات استمرار الثورة السورية تتغذى على مضمونها الديموقراطي، فراح الجانب الإسلامي العنفي، الذي لا علاقة له بالديموقراطية، لا في مرجعيته ولا في مقاصده، يتورم على حساب المعنى الديموقراطي للثورة. وزاد في ضمور معنى الثورة السورية استنكاف التيار الديموقراطي في الثورة عن الانتصار لذاته والتحاقه بالمكوّن الأقوى (اللاديموقراطي)، على وهم أن في هذا مصلحة للثورة.

كان التخلي عن نقد التجاوزات في الثورة، حرصاً على الثورة، يفتّ في عضد هذه الأخيرة من جهة، ومن جهة أخرى يطمس ملامحنا ويجعلنا مجرد كتلة مهملة ملحقة بطرف أقوى، هو الطرف الإسلامي المسلح بتلويناته. والحق أن تأييدنا أو نقدنا اليوم، لا يغيّر كثيراً في المعادلة، ما يطرح سؤالاً بسيطاً: ما الحكمة إذاً في أن أضحّي، عبثاً، بصدقيتي وبتميزي الفكري والسياسي، مهما كنت ضعيفاً، عبر إلقاء عباءة سياسية واسعة على تجاوزات هؤلاء التي باتت نهجاً في القتل لا يختلف في النوع عن نهج النظام؟ عباءة واسعة بما يكفي ليتستر بها مجرمون من على ضفتي الصراع لتحقيق مكاسب شخصية بأعمال إجرامية تُلصق أيضاً بالثورة وتشوّهها وتنزح المخزون المعنوي والأخلاقي للثورة.

قد يُرى في نقد جهات في الثورة تشتيتاً للقوى أو خلق نزاعات فيها تؤثر في الصراع الرئيسي. لكن هذا، حتى لو صحّ، وهو غير صحيح، لا يوجب أن نحمل عبء موقف سياسي يدافع عن أطراف جهاديين هم في التحليل عدوّنا قبل أن يكونوا عدواً للنظام. عدا كونهم أطرافاً اقتحموا الثورة من خارجها ولا يجمعهم مع الثورة سوى مهمة إسقاط النظام. غير أن التنظيمات الجهادية ليست متعهدة ثورات تنجز الجزء السلبي من المهمة (إسقاط النظام) وتعطينا “المفتاح باليد” لإنجاز مهمة البناء الوطني والسياسي. إنها تستهلك طاقة التغيير المتراكمة لدى الشعوب مستفيدة مما تحوزه من دعم كي تكرس أنظمة أشد فتكاً من الناحيتين الروحية والمادية. فلا معنى سياسياً للامتناع عن نقدها – دع جانباً الدفاع عنها – إلا كنوع من الالتحاق والاستقالة السياسية التي سوف تستجر ضريبة سياسية أثقل مما يمكن أن يتسبب به نقدها من خلخلة مَخشيَّة في صف الثورة.

 لماذا لا تتردد “النصرة” أو غيرها من أشباهها في نقد الديموقراطية كفكرة، والتبرؤ من تعبيراتها السياسية ومن ضمنها “الائتلاف الوطني”، في حين لا يجرؤ هؤلاء على نقد “النصرة”؟ هل لكي لا نستعدي “النصرة” وهي طرف قوي في وجه النظام فنخلخل جبهة الثورة؟ هل يعني النقد الدخول في مواجهة مسلحة مع المنقود، أم يعني تمييز ملامحنا السياسية ولجم – سياسياً وقدر الإمكان – الارتكابات التي يقدم عليها هذا الطرف أو ذاك باسم الثورة، وتنظيف الذات الناقدة على الأقل من أدران هذه الارتكابات، وإنقاذ فكرة الثورة من لجج الأفكار الجهادية التي تمثل العنف العدمي في أتعس صوره؟ هل النقد داخل الثورة يعني اصطفاف الناقد مع النظام؟ أم أن هذه التهمة السريعة مجرد عصا يهشّ بها عقائديون على الناس لإبقائهم في الحظيرة الجهادية؟ وهل الثورة المريضة بالجهاديين أقدر على التغيير؟ هل يدفع النقد الجهاديين إلى فتح النار على الناقد؟ إذا كان الأمر كذلك اليوم، فماذا إذاً عن “اليوم التالي”؟ ألا يطرح هذا سؤالاً جوهرياً؟ وإذا حاول السياسيون إسكات هذا السؤال في أذهانهم، فكيف يسكتونه في أذهان الناس؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى