صفحات الرأي

“الحرب بالمدنيين”… عن سابق تصوّر وتصميم/ وليد صليبي

في سياق المواجهات بين الأنظمة التي تمتلك جيوشاً تقليدية من جهة، و”المجموعات المتَمَرّدة” من جهة أخرى (التي لا تملك جيشاً تقليدياً وتُقاوم حكومة أو تُقاتِل نظاماً أو احتلالاً أو لأسباب أيديولوجية، دينية، قومية…)، طَوّر كلّ من الطرَفَيْن استراتيجية عنفية أو عسكرية خاصة به.

“المجموعات المُتَمَرّدة”، وفي ظلّ عدم امتلاكها قدرات عسكرية تقليدية موازية، طَوّرَت استراتيجية “الحروب غير المُتَناظرة”، حيث شَكّلَت “حرب الغريللا” الجزء الأكبر منها، ومن أهم مُكَوّناتها “الحروب داخل المدن “Urban Warfare. إنها سياسة الضربات المتكرّرة والموجعة، والهَدَف ليس هزم العدو بالشكل التقليدي بقَدر ما هو استنزافه وإضعاف إرادته بالاستمرار في القتال.

أما الأنظمة التي تمتلك جيوشاً تقليدية، فقد طوّرت أيضاً استراتيجية غير تقليدية هي “الحروب غير المباشرة” Indirect Wars، وعُرفت آلياتها بــِ “الأعمال المُضادة للتَمَرّد”Counter-Insurgency “بما أن العدو المباشر غير مرئي، فإن الحرب سوف تُوَجّه ضد الأهالي الذين يَحْتَضِنونه، كما ضدّ البنى الاجتماعية والاقتصادية والتَحتية التي تُشَكّل بيئة حاضنة للمُتَمَرّدين.”

الانتصار في هاتين الاستراتيجيتين، معاً، عماده “الحرب بالمدنيّين”.

حين يَتّخِذ كُلّ من، المُتَمَرّدين من جهة، والأنظمة والحكومات من جهة أخرى، قرار خوض “حروب غير متناظرة” و”حروب غير مباشرة”، فإنهم يَتّخِذون قراراً، عن سابق معرفة وعن سابق تصوّر وتصميم، بقَتْل المدنيين. هم “قَتَلة مَدَنيّين” يخوضون معاً وبالشراكة ما أسمّيه “الحرب بالمَدَنيين”. إنها مسؤولية شاملة عن القتل، لا جزئيّة ولا أحادِيّة، بل مشتركة وثنائية.

إن قادة يستطيعون اتخاذ قرارات مُماثلة تتسبّب بمآسٍ وفظاعات بشرية، هم مَرْضى نَفْسِيّون خطيرون تَمّ تَصْنيف مَرَضهم، من قبل منظمة الصحة العالمية والجمعية الأميركية للعلاج النفسي التي تُعتبر المرجع الأكثر نفوذاً في هذا المجال، تحت اسم مرض الاختلال النرجسي للشخصية Narcissistic Personality Disorder.

في سوريا، الحرب هي “حرب بالمدنيين” بامتياز. “حرب غريللا” استنزافية وخاصةً “الحروب داخل المدن”، من جهة، ومن جهة أخرى “الحرب غير المباشرة” بتدمير كلّ حيّ أو قرية أو منطقة يتواجد فيها المسلّحون…

في مثل هذه الأوضاع، “يتوه” الكلام بشأن تحديد المسؤولية. حجّة رائجة تقول: لا يَجوز وضع الطَرَفَيْن في “الخانة” نفسها لمجرّد استخدامهما العنف؛ فالعنف ليس سوى وسيلة، والأساس هو القضية أو الغاية. هناك قضية مُحِقّة ومشروع غير مُحِقّ، هناك ظالم ومظلوم. وهذا يأخذنا إلى مفهوم “المسؤولية السياسية”. حجّة رائجة أخرى تقول: المسؤول عن الأحداث وتَبِعاتها هو “البادئ”، من بدأ باستخدام العنف أو من تسبّب باندلاع الأحداث. وهذا يأخذنا إلى مفهوم “المسؤولية الجنائية-القانونية”.

سنستعيد هنا بإيجاز، جوهر المَشْروعَيْن الإيراني والأميركي. جاء في مقدمة دستور إيران: “الجيش وحراس الثورة ليس دورهما فقط حماية الحدود بل لَدَيْهما رسالة أيديولوجية وهي الجهاد في سبيل الله لتوسيع سلطان الله في العالم بأسره”. وجاء في الفصل الأول من الدستور الذي يَتَضَمّن المبادئ العامة (مبدأ 11): “المسلمون يشكلون مجتمعاً واحداً وعلى الحكم أن يَسْعى مع الأمم الإسلامية لتحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية للعالم الإسلامي”. إنها سياسة “الجهاد الإيديولوجي”، بشتّى أشكال “حروب الغريللا” و”الحروب غير المتناظرة”، وتشكيل مجموعاتها المسلّحة وتأسيس قواها وبناها من داخل المجتمعات.

المشروع الأميركي، المتّحد بعناوين الهيمنة على ثروات المنطقة وتفتيتها وحماية إسرائيل، عرّفت به أخيراً بأوضح العبارات، دراسة لمؤسّسة “راند كوربوريشن”RAND (تُعرف بمركز أبحاث البيت الأبيض) نشرتها في كتاب “دليل إعادة بناء الأمم” The Beginner’s Guide to Nation-Building، وأطلقت عليه عنوان “سياسة التفكيك” Deconstruction : تتدخّل الولايات المتحدة في سياسة بلد أثناء خوضه نزاعات عنفية عسكرية أو بعدها، وتُفكّك مؤسّساته وقواه على الصعد كافة العسكرية و الأمنية والاستخبارية والتشريعية والإجرائية والقضائية والاقتصادية والحزبية والثقافية إلخ، لتستثمر في إعادة بنائها وقولبتها، مع هدف نزع السلطة من مكوّنات محدّدة في هذا البلد ونقلها إلى مكوّنات أخرى فيه، بما يخدم مصالحها.

هكذا هما المشروعان الأميركي والإيراني. والصراع الدائر هو بين مَشروعَيْن تَوَسّعِيّيْن عدوانيّيْن متنافسين، حيث تمسي “المسؤولية السياسية – الأخلاقية” عن النزاعات وعن تبعاتها المأسوية، مسؤولية مشتركة وعلى الطرفين معاً.

المسؤولية الجنائية – القانونية

إن الأعمال التي قامت بها وتقوم الأطراف المتصارعة في سوريا، الطرف الأميركي وإسرائيل والحلفاء والأتباع شرقاً وغرباً و”المجموعات المسلّحة”، من جهة، والطرف “السوري- الإيراني” وروسيا والحلفاء والأتباع، من جهة أخرى، تُعْتَبَر قانونياً “جَرائم حَرْب” War Crimes وفق “القانون الدولي الإنساني” International humanitarian law [المواد 33 و34 و53 من معاهدات جنيف (1949)، والمادة 50 من معاهدات لاهاي (1907)، والمواد 51 إلى 55 من البروتوكول الأول الإضافي إلى معاهدات جنيف (1977)…].

من هذا المُنْطَلَق القانوني الدولي، يُمْسي المسؤولون، من الطرفين، “قَتَلَة مَدَنيين” و”مُجْرمي حَرب”. “المسؤولية الجنائية- القانونية”، تماماً مثل “المسؤولية السياسية”، مشتركة – ثنائية وليست أحادية.

نحن في مواجهة “مُجرمي حَرب- قَتَلَة مَدَنيين” يتحكّمون بمصائرنا، ورغم ذلك، نُطيعهم أو ننبهر بهم أو نبرّر أفعالهم أو نتقاتل ونقتل من أجلهم… يبدو أنه ما زالت في أعماقنا “خلايا نَفسية” تنتعش مع الخطاب العنفي. يبدو أن هناك عجزاً في طيّات شخصيتنا، عجزاً يتوق إلى قوة تعويضية وهمية نستمدّها من قائد عنيف، من “هالة” بديلة.

والخُطْوَة الأولى؟ القَطع مع العنف، في ذواتِنا، ومن ثمّ مع عُنفِهم. لم يعد الخيار اللاعنفي خياراً أخلاقيّاً أو من أجل الفاعلية فحسب، بل أمْسَى خياراً وُجودياً. فإما اللاعنف وإما اللاوجود. “سوف ياْتي يوم تكون فيه الساحات فارغة حين يدعون إلى القَتل”، قالها أحد المفكرين. لكن هل من يصغي ويجرؤ على ذلك؟

“الشعب في حالة من العبودية الإرادية… إن رفض دعم الطغاة يقطع عنهم مصادر سلطتهم… في حال لم نقدّم لهم أيّ شيئ، يمْسُون عُزَّلاً مشلولين… تمامًا كما يذبل الغصن ويموت في حال كان الجذر محرومًا من التربة أو الغذاء.” (De La Boéthie;1549).

نعم، سحب طاعتنا ‘الإرادية‘ منهم، هو الخطوة الأولى.

الخطوة الثانية هي الإدانة العَلَنية. نعم، من المُهِمّ تسمِية «مُجرمي الحَرب- القتلة» باسم فعلهم، فعل القتل. فلنَدُلّ عليهم بصوت عالٍ… فلنَدُلّ عليهم في مقالات المُثَقّفين والمُحَلّلين؛ وفي تصريحات وتحرّكات المواطنين والناشطين. فلنَدُلّ عليهم على شاشات التلفزة وفي وسائل التواصل الاجتماعي وفي أغاني الفنانين وحفلاتهم. فلنتبرّأ من عنفهم: «ليس باسمنا».

الارتداد الضميري

إنه التَحَوّل من الالتزام بالعمل العنفي، إلى الالتزام بالعمل اللاعنفي المُعارض والمعترض ضميرياً.

لقد كشفت الانتفاضات السلمية العربية انبهار الناس بخوض الصراع من دون عنف، وتوسّع دائرة السلميّين… فلنعمل على تشجيع “الارتداد الضميري” على أوسع صعيد ممكن.

من مصلحة “قوى الموت”، “عسكرة” الصراعات، والأخطر عسكرة حتّى الانتفاضات السلمية وتحويرها من الداخل كي تنحرف عن مسارها وترتدّ إلى العنف. ومن مصلحة “قوى الحياة” أن تعتمد مهمة استراتيجية ذات أولوية قصوى هي “نزع عسكرة الصراعات”. هذا النزع لا يمكن أن يحصل إلا نتيجة “ارتداد ضميري” واسع النطاق، يكون هادفاً ومنظماً وليس عشوائياً هدفه الاستراتيجي إنجاز “الربيع اللاعنفي العربي” من خلال تكتّل “المرتدّين ضميرياً” ضمن شبكة نضالية لاعنفية على امتداد البلدان العربية. فالربيع العربي الممكن الوحيد، هو ربيع لاعنفي.

سنعمل معاً من أجل ذلك قبل فوات الأوان، قبل أن تتخطانا “قوى الموت” وتُـغرقنا في خريفٍ مُهلك بارد يُوقف دورة الفصول من بعده.

كاتب وقيادي في حركة لا عنف

¶ نص مقتطف بإيجاز، من بحث للمؤلّف يصدر قريباً، بعنوان “الحرب بالمدنيّين”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى