سلامة كيلةصفحات سورية

الحل السياسي في سورية/ سلامة كيلة

 

 

 

[1-2]

لا بد من الانطلاق من عنصرين، عند تناول مسألة الحل السياسي في سورية. الأول أن الوضع يشهد حالة استعصاء، حيث لم تعد السلطة قادرة على الحسم العسكري، بعد أن حوّلت الثورة ضدها إلى صراع مسلح، على الرغم من كل الدعم (وهو هائل) الذي تتلقاه من إيران وروسيا، وهو لا يتعلق بالتسليح فقط، بل بالإمداد المالي أيضاً، وخصوصاً بالمقاتلين الذين باتوا يشكلون جيشاً كبيراً يخوض الحرب ضد الثورة في كل مناطق سورية. كما أن الكتائب المسلحة مفككة ومن دون سلاح كافٍ، من حيث الكم والنوعية، وخصوصاً بعد أن زُرعت جبهة النصرة وداعش وجيش الإسلام بدعم سلطوي وإقليمي. وبالتالي، تبقى “انتصارات” السلطة محدودة ومؤقتة، كما أن انتصارات الثورة تظل عرضة للانتكاس. ولهذا، نعيش حرب “طحن” منذ سنة ونصف السنة، من دون نتيجة حقيقية. وتفضي هذه الحالة إلى القول بالاستعصاء القائم. يتعلق العنصر الثاني بأن القوى الإقليمية والدولية التي تقول إنها “أصدقاء الشعب السوري”، لا تريد انتصار الثورة. بعضها يريد استمرار التخثّر، والتدمير والقتل، وبعضها يريد الوصول إلى اعتبار أن ما يجرى “حرب أهلية”، و”نزاع مسلح” يحلّ بالتوافق وتحت رعاية دولية. وآخرون يناكفون لاعتقادهم أنهم باتوا خارج “اللعبة”، حيث لن يعودوا متملكين في سورية، كما كانوا مع بشار الأسد. وإذا كانت الدول الداعمة للنظام تقاتل بشراسة لينتصر، فإن “أصدقاء سورية” يتقاتلون من أجل تخريب الثورة.

هذه الوضعية تجعل الحل سياسياً، أي ليس عسكرياً. وهذا يعني اقتناع كل الأطراف بضرورة ذلك. وبالتالي، لا بد من تلمّس واقعها، من أجل فهم ممكنات الحل، والسياق الذي يمكن أن يتم فيه.

السلطة باقية

منذ بدء الثورة السورية، كان واضحاً أن السلطة لا تريد التنازل وتحقيق أيّ شكل من الإصلاح. وهذه كانت أزمة “ربيع دمشق”، أصلاً، حيث انكشف خطاب “الرئيس الشاب”، بعد فترة وجيزة من حديثه عن الانفتاح والتغيير والحرية. وأعيد إنتاج النظام القديم في شكل جديد، حيث جرى التخلص من “الحرس القديم” لمصلحة حرس أشدّ تمسكاً بطابع السلطة الاستبدادي الشمولي، بعد أن تقدمت فئات نهبت القطاع العام والدولة، لكي تسيطر على الاقتصاد، وكانت من أجل ذلك تمضي إلى استبدادية السلطة. لهذا، كان ما حصل، في السنوات العشر التي سبقت الثورة، تحسيناً شكليّاً في آليات السلطة القمعية. وحين بدأت الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين، قررت السلطة المواجهة وليس “التنازل” من أجل الإصلاح. وعلى الرغم من الجهود التي استمرت أشهراً من أردوغان من أجل الإصلاح (كانت علاقته بالسلطة قوية، وحققت امتيازات كبيرة)، لم تتراجع السلطة عن قرارها المتعلق بالحسم بكل العنف.

ما كان يحكم الفئات الماسكة بالسلطة (آل الأسد ومخلوف وشاليش) هو ما رسّخه حافظ الأسد طويلاً، ليس فقط عبر تشكيل السلطة، بطريقة لا تسمح بتفككها، بل تبقيها “تحت السيطرة”، بل عبر الانطلاق من أن سورية “ملكية وراثية”، وأنها “مُلْك” خاص، وأتى التوريث ليعزز هذه المسألة ويرسخها. بالتالي، كان صعباً تغيير شكل السلطة الأوامري، والخاضع لقرار “الرئيس”. وكان كل نظر إلى تغيير آليات السلطة يصطدم بفهم أن ذلك يقود إلى انهيارها (كما حدث في الاتحاد السوفييتي، وما بدا ممكناً في الجزائر). لهذا، كانت ميول التشبث بالبنية التي شكّلها حافظ الأسد الأقوى. المستوى الآخر الذي عزّز ذلك يتمثّل في اندفاع آل مخلوف (محمد مخلوف وأولاده) للسيطرة على الاقتصاد، ولتحقيق ذلك، احتاجوا إلى البنية الاستبدادية التي تتيح فرض السيطرة من دون مقاومة، أو انتقاد. ومثّلت وفاة حافظ الأسد اللحظة الحاسمة، لكي يتقدم محمد مخلوف، لكي يهيمن على الاقتصاد والدولة، بعد أن كان حافظ الأسد يمنع ظهوره السياسي، ويحجّم من دوره، على الرغم من أنه أوكل إليه بأهم مؤسستين اقتصاديتين، مؤسسة التبغ (الريجي) والمصرف العقاري. ولهذا، عرف كيف يبقي بنية الدولة التي أسسها حافظ الأسد، وأن يُخضعها بما يسمح بتحقيق سيطرته على الاقتصاد، ونجح في ذلك في السنوات السبع الأولى من حكم بشار الأسد. وفي هذه الأثناء، تشكّل تحالف أمني مالي بات المتحكم بالقرار السياسي، وبمصير الدولة ككل.

كان هذا النشاط المافياوي الذي بات يتحكم به آل مخلوف يحتاج إلى دولة “بوليسية”، وليس إلى دولة ديمقراطية، وهي الدولة التي أسسها حافظ الأسد لتكون وراثة لأبنائه، فباتت “وراثة” لآل مخلوف. لهذا، كان رامي مخلوف هو الذي أعلن أنهم (وهنا، يعود الأمر للعائلة وليس للدولة) قرروا خوض الحرب إلى النهاية (بالتحالف مع ماهر الأسد ورؤساء الأجهزة الأمنية الأساسية). وهو أمر نتج عن معرفتهم أن أي قبول بالتغيير أو الإصلاح سوف يطال مصالحهم هم أولاً، وبالتالي، ينهي السيطرة الاقتصادية التي تحققت لهم قبل بضع سنوات فقط.

وربما كان خوف النظام في إيران من دور أميركي للتغيير يدفع إلى تأكيد التمسك بعدم تحقيق الإصلاح، والدفاع عن السلطة إلى النهاية. بالتأكيد، لمصلحة دعم حزب الله في لبنان، لكن، لخدمة تعزيز السيطرة على السلطة ذاتها.

في هذه الوضعية، لم تجد السلطة أية إمكانية لحل وسط، أو حل يفتح على انفراج ديمقراطي، بل ظلت تتمسك بالحل ضمن السلطة نفسها، وبالتركيب نفسه. هذا ما فعلته حينما أصدرت “قانون الأحزاب”، التي ربطت شرعية الحزب بموافقة وزارة الداخلية. وما فعلته حينما “غيّرت” الدستور، حيث أبقت على مركزية الرئيس وهيمنته على كل السلطات، بعد أن ألغت المادة التي تتعلق بقيادة حزب البعث الدولة والمجتمع (على الرغم من أنه كان خاضعاً في كل الأحوال للرئيس). وبالتالي، كان واضحاً أنها لا تريد سوى “الترقيع الشكلي” لبنية السلطة وتكوين الدولة.

هذه الرؤية التي قامت على “المُلْكية” والسيطرة الاقتصادية هي التي دفعت السلطة إلى حرب شاملة ضد الشعب، وعلى الرغم من أنها خاضت حربها وفق “خطة” مدروسة (بمساعد خبراء إيرانيين وروس)، وسارت الأمور وفق ما أرادت، من خلال دفع الثورة إلى التسلح و”الأسلمة”، إلا أن تمدد الثورة، واحتقان قطاع كبير من الجيش، والمواجهات العسكرية، كلها أفضت إلى انهيار قوتها (الصلبة)، الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وضعف الأجهزة الأمنية، وكذلك تراجع دور الشبيحة. لهذا، باتت تعتمد منذ أبريل/نيسان سنة 2013 على قوى خارجية (إيران وأفرعها). وأصبحت هذه القوى هي التي تمنع سقوطها (كما صرّح حزب الله، وقادة إيرانيون في الحرس الثوري). هذا ما جعلها رهينة لقوى خارجية: روسيا وإيران.

الحل خارجي

بعد أربع سنوات، بات واضحاً أن الحل لم يعد بيد السوريين. فالسلطة باتت تخضع لتحكم إيران أولاً، وروسيا ثانياً، ولا شك في أن القوى العسكرية التي أرسلتها إيران (من حزب الله، والمليشيا الطائفية العراقية، ومن الحرس الثوري الإيراني، وكثير من “الشيعة” في أفغانستان وباكستان وغيرها)، والمستشارين والقادة، هم من يتحكم في قرار الحرب في سورية، وليس بشار الأسد ولا الطغمة التي تحكم، ويمثّل هو واجهتها. خاض الحرب منذ البدء بتكتيكات من هؤلاء ودعمهم، واستلزم في المرحلة الأولى مستشارين لإدارة دفة الحرب، لكن توسعت الثورة إلى كل سورية، الأمر الذي وسّع الحاجة لاستخدام الجيش، في وقت أصبحت الثورة فيه تنعكس على عناصر الجيش، خصوصاً بعد الدمار والقتل في كل مناطق سورية، ومن ثم الانتقال إلى استخدام السلاح من الثورة (بدفع شديد من السلطة، على أمل أن يكون ذلك مناسباً لها لكي تسحق الثورة)، والاشتباك المتتالي مع “البنية الصلبة” التي خاضت السلطة، عبرها، الحرب منذ البدء، أي الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة. أدى ذلك كله إلى “استهلاك” تلك البنية، وفي الوقت نفسه، العجز عن استخدام وحدات الجيش الأخرى، نتيجة ما سبقت الإشارة إليه، الأمر الذي عرّض السلطة للانهيار أواخر سنة 2012 وأوائل سنة 2013، وهي الفترة التي ظهر فيها دور حزب الله (معركة القصير)، ومن ثم المليشيا الطائفية العراقية والحرس الثوري الإيراني. ومذّاك، بات يكبر وجود كل هؤلاء، ليتوضّح أنهم يقاتلون الثورة في كل سورية.

هنا، بات واضحاً أن استمرار السلطة بات يعتمد على الوجود العسكري الإيراني وفروعه، لكنه بات كذلك يعتمد على الدعم المالي الإيراني (على الرغم من أن دولاً إقليمية ظلت تموّل السلطة خلال الثورة)، والتسليح الروسي الممول من إيران. بالتالي، باتت سورية ورقة بيد إيران، على الرغم من الأهمية الكبيرة التي تحظى بها، حيث أن فقدان السيطرة على دمشق يعني فقدان السيطرة على لبنان وتلاشي حزب الله، ومن ثم تلاشي المساومة الإيرانية مع الدولة الصهيونية، وضعفها في المساومة العالمية مع أميركا. هذا ما يجعلها تقاتل بشراسة، لاستمرار سيطرتها على سورية. ويبدو أن ما يجعلها متمسكة بشدة ببشار الأسد ومجموعته أنها لم تجد من داخل السلطة من يعطيها ما حصلت عليه منه، ومن الواضح أنها لا تثق في الصف الثاني أو الثالث في بنية السلطة، وتعتقد أن أي إبعاد لهذه المجموعة سوف يأتي بفئات ربما تميل أكثر نحو أميركا، فقد كانت مشكلتها مع هذه المجموعة ميلها إلى التفاهم مع أميركا، وكانت مرتاحة من غباء السياسة الأميركية التي صممت على تغيير مستحيل في بنية السلطة. فالسلطة منذ هيمن “رجال الأعمال الجدد”، وبات آل مخلوف المتحكمين بالقرار (وفق ما أوضحت قبلاً)، ووفق المصلحة التي تجعلهم يترابطون مع الرأسمال العالمي، طمحوا لأن يتفاهموا مع “زعيمة الرأسمالية”، لأن هذا وحده الذي يسهّل انخراطهم في النمط الرأسمالي. لهذا، كانت العلاقة مع إيران ورقة من أجل التفاهم، كما كانت تركيا الورقة الأخرى (وكذلك قطر). ولقد أقامت علاقاتها الاقتصادية مع تركيا وقطر ودبي أكثر مما أقامت علاقة اقتصادية مع إيران (العلاقة التي ظلت ضمن إطار الدولة).

بمعنى أن تحوّل السلطة إلى سلطة “رجال أعمال جدد” كان يدفع نحو التفاهم مع أميركا، واعتبار كل العلاقات الأخرى جسراً، أو أوراق ضغط فقط. وهذا ما ظهر واضحاً، حينما قام ساركوزي بعد وصوله إلى الرئاسة بـ “فك الحصار” الفرنسي عن سورية، وحاول أن يجذبها، كما كان الطموح الفرنسي منذ سلفه جاك شيراك، لكن موقف السلطة ظهر بوضوح أنها تريد التفاهم مع أميركا.

لهذا، ربما يكمن المأزق الإيراني، هنا، حيث يمكن أن تقود التسوية في سورية إلى انفلاتها والميل السريع نحو أميركا، على الرغم من تراجع دور أميركا العالمي. وهو خوف ظهر منذ بدء الثورة التي جرى تفسيرها بأنها “مؤامرة أميركية”، وتصاعد مع تصاعد الصراع، على الرغم من أن قدرتها على التأثير في بنية السلطة لم تكن في البدء كما هي الآن. ولهذا، حينما استحكمت، ظلت خائفة من انفلات الوضع السوري منها، وهو ما يفسّر تمسكها ببشار الأسد ومجموعته تحديداً. وبالتالي، الخوف من المراهنة على آخرين من بنية السلطة نفسها. فهذه المجموعة سلّمت لإيران نتيجة وصولها إلى لحظة الانهيار نهاية سنة 2012، وليس نتيجة قناعة أو مصلحة.

ما يحلّ هذه العقدة ربما، هو تحقُّق التفاهم الأميركي الإيراني، وبالتالي، شعور إيران أن وضع النظام السوري لم يعد مهماً لها. وهذا ما سوف يظهر خلال المفاوضات الجارية، على الرغم من أن أميركا معنية بالتفاهم، وبـ “عدم استفزاز إيران”. مع روسيا، ربما يكون الأمر مشابهاً، فأميركا “باعت” سورية لروسيا، منذ بداية سنة 2012، حينما طلب الرئيس باراك أوباما من روسيا أن ترعى مرحلة انتقالية “كما حدث في اليمن”، وهي الخطوة التي مهّدت للوصول إلى جنيف1، وفتحت أفق الوصول إلى جنيف2. لكن روسيا لم تستفد من اللحظة تلك، بالضبط لأنها أتت بوفد السلطة نفسها، السلطة التي لا تريد الحل أصلاً، وأتت وهي ترفض مبادئ جنيف1. ولا زال واضحاً أنها تتمسك بالمجموعة المسيطرة على السلطة، وعلى استمرار بشار الأسد. يظهر الأمر، هنا، مشابهاً بشكل ما لوضع إيران، حيث أن النفوذ الروسي، والوجود الروسي، في السلطة السورية انتهى مع تسلّم بشار الأسد السلطة، حتى قبل وصوله إلى الرئاسة، حيث أبعد كل الضباط الذين تدربوا في الاتحاد السوفييتي، واعتمد سياسة جديدة، ارتبطت بالمسار الاقتصادي الذي سار به، والقائم على اللبرلة والانفتاح على السوق الرأسمالي، وبالتالي، التفاهم مع “زعيمة الرأسمالية” (أي أميركا). فهذا هو المسار الذي ارتبط، أصلاً، بصعود آل مخلوف، وتحوّلهم إلى مركز مالي مهيمن. بالتالي، كان يجب إبعاد كل الضباط الذين يمكن أن يكونوا في علاقة مع روسيا، وأن يوضع مكانهم ضباط داعمون للمسار الجديد. لهذا، انهارت العلاقة مع روسيا، وتراجع التبادل التجاري، وشراء السلاح، إلى ما دون المليار دولار، خصوصاً أن روسيا ما بعد الاشتراكية باتت تتعامل بمنظور رأسمالي، لا يسمح بمراكمة ديون، كما حدث قبلاً، بعد أن جرى حل المشكلة، من خلال تنازل روسيا غورباتشوف عن معظم الديون وتسديد الباقي عيناً عبر إرسال سلع سورية.

[2-2]

جرت محاولة إعادة العلاقة بعد اغتيال رفيق الحريري والحصار الأميركي على سورية، واكتشاف السلطة أن أميركا تريد تغيير النظام، لكن السلطة مالت إلى التفاهم مع قطر وتركيا، وظلت عينها على أميركا. الثورة هي التي فتحت باب العلاقة “المتينة”، حيث توهمت السلطة أن أميركا سوف تستغل الظرف لكي تتدخل، خصوصاً بعد التدخل في ليبيا، فاندفعت لعقد صفقة مع روسيا، لكي تحمي نفسها بمنع مجلس الأمن من إعطاء الشرعية لأي تدخل عسكري. وكان المقابل الحصول على مصالح اقتصادية هائلة، منها النفط والغاز، ومشاريع اقتصادية (وهذا ما جرى توقيعه في أغسطس/آب سنة 2012)، وأيضاً توسيع قاعدة طرطوس البحرية. بهذا، باتت روسيا تعتقد أن الالتزام بهذه الاتفاقات مرهون ببقاء بشار الأسد ومجموعته، وأن أي تغيّر في بنية السلطة قد يقود إلى إلغائها، خصوصاً وأن السلطة سوف تتوسع لتشمل مصالح دول أخرى، منها إيران، ومنها أميركا، وأن انفتاح العلاقة مع أميركا على ضوء ذلك يمكن أن يغيّر حتى في توجهات بشار الأسد ومجموعته. يبقي هذا الأمر التشدد الروسي حيال إزاحة الأسد، مع ملاحظة أن بقاءه لا يفتح على أي أفق للحل، على الرغم من ذلك، تناور على أمل أن يتحقق لها الحل الذي يضمن استمرار مصالحها.

نلمس، إذن، كيف أن ضعف السلطة إزاء الثورة، وانهيار قوتها الصلبة (الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة) قد جعلها ممسوكة من إيران وروسيا، لكن هاتين الدولتين لا تلمسان، إلى الآن، أن هناك بديلاً يمكن أن يحقق المصالح نفسها التي حصلت عليها من بشار الأسد، وأن أي تغير سوف يفقدها إياها.

في المقابل، نجد أن معارضة الداخل (هيئة التنسيق لقوى التغيير الوطني الديمقراطية خصوصاً) تراهن على “حل خارجي”، يتحقق عبر ضغط “القوى الدولية”، وأن معارضة الخارج (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) تخضع لموقف بعض أطرافه، وخصوصاً هنا جماعة الإخوان المسلمين الذين يرون أنهم مستبعدون من الحل السياسي، ويخضع بعض آخر للدول التي يتبعها (السعودية، قطر وتركيا)، وآخرون يمكن أن يقفزوا لأي حل، يضمن لهم دوراً ما. لهذا، نجد أن هناك من يريد الحسم و”إسقاط النظام”، مراهناً على تدخل عسكري دولي، أو إقليمي (تركي خصوصاً)، أو بدعم عسكري يغيّر موازين القوى على الأرض. وهناك من يتلمس المأزق، ويمكن أن يندفع إلى حل سياسي. لكن، في كل الأحوال، سيخضع “الائتلاف” ككل، أو هو خاضع، للقوى الدولية، وقد ظهر ذلك واضحاً في مؤتمر جنيف2، حيث فرضت أميركا أجندته. أما تركيا فتريد التدخل العسكري من أجل إسقاط النظام وفرض “سلطتها” التي هي بالضبط القوى المستبعدة من أي حل سياسي (أي جماعة الإخوان المسلمين وإعلان دمشق)، لكنها لا تستطيع التدخل من دون الموافقة الأميركية. لهذا، يبقى الأمر بيد أميركا.

على الأرض، هناك كتائب مسلحة باتت تخضع لدول إقليمية، خصوصاً السعودية، مثل جيش الإسلام وكتائب إسلامية أخرى. وقد ظهر، في الفترة الماضية، كيف أن هذه الكتائب خضعت للتكتيك السعودي، فانسحبت حينما أرادت، ولم تتقدم لكي لا تضعف السلطة، واهتمت بتصفية الكتائب الأخرى. ولهذا، سوف تخضع لكل حل تقبل به تلك الدول. وحتى الكتائب الأخرى التي تتلقى بعض الدعم سوف تتراجع أمام توقف الدعم. بالتالي، سوف نجد أن كل هذه القوى سوف تقبل الحل حال وافقت الدول الداعمة، الأمر الذي يجعل المسألة تتعلق بمفاوضات السعودية وقطر وأميركا التي ستفرض هي على الآخرين الحل، حين يتم التوصّل إليه.

إذن، الحل مرتبط بتوافق رباعي، كما يمكن أن نلمس، بين أميركا وروسيا وإيران والسعودية. كان مرتبطاً، أولاً، بكل من أميركا وروسيا، وهو ما أنتج مبادئ جنيف1 ومؤتمر جنيف2، لكن الموقف الروسي الذي يريد مشاركة الأسد أفشل الحل في جولة المفاوضات الأولى. وقد ارتبكت روسيا بعدها بأزمة أوكرانيا، ومن ثم تصاعد الضغط الأميركي عليها، وبالتالي، التدخل الأميركي في العراق والتمدد إلى سورية، بحجة الحرب ضد داعش. لنصل إلى وضعية جديدة في التفاوض، جعلت الحل في سورية مرتبطاً بتفاهم أميركي إيراني أعم، وتفاهم أميركي روسي أوثق.

أي حل يمكن نجاحه؟

المطروح حلٌّ يجري التداول بشأنه بين هذه الدول يتراوح بين بقاء نظام الأسد مع إشراك أطراف معارضة في السلطة، و”توسيع” هامش المشاركة السياسية، وهو ما زالت روسيا وإيران تصرّان عليه، وبين تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحية من طرف من السلطة وأطراف المعارضة و”تكنوقراط” كما تنص مبادئ جنيف1، وكما تصرّ كل أطراف المعارضة إلى الآن. وقد نص التوافق الأميركي الروسي، منذ نهاية يونيو/حزيران سنة 2012، على مبادئ جنيف تلك، على أن ترعى روسيا الحل، أي أن تكون لها الكفة الراجحة. لكن روسيا لم تفعل ذلك، وبالتالي، ظل الحل يتراوح بين الصيغتين. مَن سيتنازل مِن الطرفين، الروسي الإيراني والأميركي السعودي؟

ربما كانت القوى الكبرى تعتقد أن توافقها كافٍ لإنجاح الحل. لكن، أظن أن في ذلك خطأ كبير، بالضبط لأن طرفاً ثالثاً هو الذي يُنجح الحل أو يفشله، هو الثورة، أي الشعب السوري، وكثير من الثائرين الذين يحملون السلاح، أو ينشطون سياسياً، أو في الإعلام أو في الإغاثة، أو حتى في التحريض والتظاهر المحدود.

ولا شك في أن الوضع بات صعباً للغاية، نتيجة الوحشية التي ترتكبها السلطة، والتهجير الكبير الذي حدث، وانهيار الاقتصاد، والوضع الأمني الرديء للغاية. وأيضاً، دور القوى المتطرفة ضد الشعب، من داعش إلى جبهة النصرة إلى جيش الإسلام، وكتائب عديدة أخرى تمارس سلطة قروسطية وحشية كذلك على الشعب في مناطق سيطرتها. إضافة إلى انسداد الأفق أمام تحقيق الانتصار على السلطة، وغياب الهدف من الثورة، بعد تصاعد دور القوى الأصولية، ووضوح وقوف كل الوضع الدولي إلى جانب السلطة، وتآمرها على الثورة. وبالتالي، تحوّل الصراع ضد السلطة إلى صراع مع إيران وأدواتها (حزب الله والمليشيا الطائفية العراقية)، أي هو صراع أكبر من قدرة الشعب السوري. على الرغم من ذلك كله، لا بد من أن يكون واضحاً أن أي حل لا يوافق عليه الشعب لن يكون مصيره سوى الفشل، حيث أن رفضهم له سوف يعني استمرار الصراع المسلح، واستمرار تفكك بنى الدولة، التي لن تستطيع مواجهة الوضع لفرض الحل، حتى مع بقاء قوى إيران. فالحل يقتضي أن يقبل الشعب النتيجة، على ضوء موازين القوى، وعلى ضوء مطمحه الذي فرض تفجير الثورة. على الأقل، كما حصل في البلدان الأخرى التي واجهت ثورات. خصوصاً هنا أن السلطة مارست كل

الوحشية التي أخافت حتى مناصريها، أو المحسوبين عليها، كما طالت كل الشعب. لقد دمّرت السلطة وحرقت لكي تبقى، وقتلت مئات آلاف الشباب، من الثورة ومن القوات التي زجتها ضد الثورة، وأظهرت وحشيتها كاملة. كيف، بالتالي، يمكن أن يتحقق حل في ظلها؟

بالتالي، حتى وإنْ جرت الموافقة من المعارضة كلها على حل يبقي بشار الأسد، فإن هذا الحل سيفشل. خصوصاً أن المعارضة ليست المتحكم بمسار الثورة، ولا بالكتائب المسلحة، بل إن إشراكها طرفاً في الحل هو نتاج الحاجة إلى تمثيل “الثورة” في الحل. ولهذا، إن مقياس قبولها هو تمسكها بالحل الذي يبعد بشار الأسد ومجموعته، وإلا ستسقط.

هنا، نلمس أن الذي يحدد الحل في الأخير هو الشعب. طبعاً ليس كما طالب منذ البدء (على الرغم من أن مطالبته كانت غائمة)، بل بما هو “حدٌّ أدنى” يتمثّل في ترحيل الرئيس ومجموعته. بالتالي، كل حل دولي سيكون محكوماً بسقف الحد الأدنى هذا. وإلا فالصراع مستمر إلى أن تتغير موازين القوى، أو تقتنع كل من روسيا وإيران أن عليهما ترحيل الرئيس ومجموعته، وفتح الأفق لمرحلة انتقالية تحت سلطة هيئة حكم انتقالية.

تريد السلطة، إذن، أن تنتصر، والشعب أيضاً يريد أن يغيّر. وفي ظل الاستعصاء القائم نتيجة فوضى الثورة والتدخلات الإقليمية والدولية، وفي ظل ارتباط الحل بقوى خارجية، لا بد من حل يوصل إلى “استقرار”. والحل الوسط الوحيد لتحقيق ذلك رحيل الرئيس وحاشيته، وتشكيل هيئة حكم انتقالي. هذا ما لا بد من أن يجري التوافق عليه دولياً، لكي ينجح، لكن نجاحه مرتبط بتحقق هذه الصيغة بالذات، وليس بما يطرح الروس والإيرانيون. وبالتالي، إن استمرار الصراع والأخطار الإضافية التي يمكن أن تنتج عن ذلك هي من فعل هؤلاء الآن. ساهما في المجزرة التي قامت بها السلطة، وهما مسؤولان عن الاستمرار بها. فالشعب السوري يُسحق خدمة لمصالح كل من إيران وروسيا. بالتالي، من يريد وقف الدم وإنهاء المجزرة يجب أن يحمّل المسؤولية لكل من إيران وروسيا، وأن يعرف أن وقف الدم يستلزم فقط ترحيل الرئيس وحاشيته. وليس من وقف للصراع دون ذلك، ليس لأننا نريد، فنحن خارج القرار، بل لأن الشعب الذي يقاتل لن يقبل حلاً لا يفضي إلى رحيل هذا “النظام”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى