محمد تركي الربيعومراجعات كتب

«الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط»

 

 

من القاهرة إلى طهران: المهمشون الحضريون والجهاد في تاريخ مدن الشرق الأوسط الحديث

محمد تركي الربيعو

ثمة فرضية أساسية تقف خلف بعض سرديات النزعة الإسلامية الجهادية، مفادها أن هناك علاقة إيكولوجية ثقافية حضرية بين هذه النزعة والوسط المعيشي الفكري لفقراء الحضر، حيث ما يزال يعتقد أن الفقر الحضري وتركز الفقراء في المجتمعات الفقيرة المكتظة المشحونة باللامعيارية والاغتراب، يؤدي إلى توليد وسط معيشي مشحون بالعنف والميل إلى عدم طاعة القانون والتطرف، وأن النزعة الإسلامية المتشددة تظهر من ثنايا الشعور بفقدان الأمل والتحلل الأخلاقي، لتعطي تعبيرا دينيا عن هذا النمط من الحياة. وفي الوقت نفسه فإن الشعور العميق بالتدين والرغبات الشعبية واللغة المشتركة والمؤسسات والحنين إلى النزعة التقليدية، كل ذلك يؤدي إلى أن يتعانق الفقر الحضري مع النزعة الإسلامية، ويصبح الطرفان حليفين استراتيجيين .

وقد أخذ هذا النمط من التفكير يجد لنفسه صدى في وسائل الاتصال الجماهيري الأكثر انتشارا، التي تسلم بالرابطة بين الإيكولوجية الحضرية والتطرف الديني في العالم الإسلامي.. وبين الهجرة الريفية والنزعة الإسلامية، والفقر والعنف، أو نقص المساكن (وخصوصيتها) في جو من القهر الأخلاقي والإحباط الجنسي الذي يجعل الشباب الفقراء يلجأون إلى العنف والتطرف.

ضمن هذا السياق، يتساءل السوسيولوجي الإيراني آصف بيات – الذي يعد اليوم واحدا من أهم علماء السوسيولوجيا حيال الحياة اليومية في الشرق الأوسط- في كتابه المتميز التي ترجم حديثا إلى العربية «الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط», هل هناك إيكولوجيا حضرية للنزعة الإسلامية الجهادية؟ وهل هناك توافق ضروري بين الوجود الاجتماعي للمهمشين الحضريين والأيديولوجيات الدينية الراديكالية؟ وهل يشكل المهمشون الحضريون المركز الطبيعي للممارسات السياسية الإسلامية؟

وللإجابة عن هذه التساؤلات، يرى بيات أن النزعة الراديكالية الإسلامية بشكل عام لا تبدي اهتماما سياسيا أو أخلاقيا بفقراء الحضر، كما أن فقراء الحضر لم يعبروا عن التزام أيديولوجي «بالممارسات السياسية» ذات النزعة الإسلامية، تلك الممارسات التي ظلت بعيدة عن النهر اليومي لحياة الشعب. ذلك أن النزعة الإسلامية الإصلاحية والجهادية، هي حركة للطبقة الوسطى وتنشغل في الأساس بالممارسات السياسية والأخلاقية، وبصور النضال الأيديولوجي، ومن ثم فإنها تفشل في أن تعمل كحركة اجتماعية معبرة عن الفئات المحرومة من الحضر، كما أن فقراء الحضر يميلون إلى اتباع تدينهم الشعبي وإلى حياتهم غير الرسمية، التي تقوم على العلاقات الشخصية الحميمة في الحياة اليومية، عبر تحررهم من الولاءات الأيديولوجية.

الفقراء المسلمون: الإيكولوجية الحضرية للعنف (القاهرة ـ طهران):

ويرى بيات، أنه في الوقت الذي يوجد فيه تصور كلاسيكي، غالبا ما تتبناه النخب السياسية والفكرية، ينظر إلى فقراء الحضر في مجتمعات الشرق الأوسط الإسلامية، على أنهم يشكلون جماهير سلبية، إلا أن وجهة النظر الأكثر قوة والأكثر حداثة تعكس قلقا عميقا حول ما يمكن أن يلعبه الدور النشيط والخطير لفقراء الحضر، في الحد من الحضرية الحديثة والمدنية السياسية، ممهدا الطريق للتطرف الإسلامي .

ولذلك نجد أن بعض الأكاديميين يميلون إلى النظر للعشوائيات، باعتبارها مكانا للفوضى النظامية بالمعنى الهوبزي، حيث تنتشر الجريمة وعدم الالتزام بالقوانين والتطرف، الذي يفرز «ثقافة العنف» والأساليب» الشاذة «في الحياة، وهي التربة الخصبة لنمو الأصولية الإسلامية. وعلى الرغم من أن هناك بعضا من الحقيقة في هذه السرديات النظرية، من حيث تمركز الفقراء الحضريين في الأحياء العشوائية، تلك الأحياء التي وجد فيها المتشددون الإسلامويون مكانا يأويهم، فإن «جدالية التقارب» بين الفقر والتطرف تبقى- برأيه- تعاني في جانب كبير منها من استدلال بنائي يرتبط باقتراحات ضمنية تعاني من إشكالية أمبيريقية. فمثلا نجد أن الفقراء في إيران ظلوا بمعزل عن الثورة الإسلامية، التي كان المشاركون الأساسيون فيها ينتمون إلى الطبقة الوسطى الحضرية، والطلاب، وموظفي الحكومة والتجار، وأصحاب المحلات التجارية، وعمال الصناعة. وما انضم الفقراء للثورة إلا في مراحلها الأخيرة، ولم يتحركوا من خلال المساجد أو الحسينيات، وإنما من خلال الأنشطة التي قامت بها الجمعيات التعاونية والاستهلاكية، خاصة المجالس المحلية، التي من خلالها استطاع شباب الطبقة الوسطى أن ينقل خبرة الثورة إلى الأحياء الفقيرة عن طريق تقديم السلع الرئيسية والوقود، في وقت شهدت فيه البلاد نقصا شديدا بسبب الإضراب العام الذي عطل الإنتاج والتوزيع.

أما في مصر، فان الإدعاءات حول الاندماج بين النزعة الإسلاموية وفقراء الحضر غالبا ما اعتمدت على فرضيتين: الأولى، ذهبت إلى القول بأن الناشطين الإسلامويين يقومون بتعبئة الفقراء، من خلال المساجد والجمعيات الإسلامية. والثانية اعتبرت أن الناشطين أنفسهم ينحدرون على نحو كبير من الأحياء المهمشة في المدن الكبيرة، تلك الأحياء التي تتميز أو تتصف بوجود إيكولوجيا اجتماعية تغذى الأنشطة والأيديولوجيات المتطرفة والمنحرفة.

والأمر الذي أضيف لهذه الخرافة التدخل «العلمي» الذي تلا ذلك من جانب «جماعة الخبراء»، علماء الاجتماع، وعلماء الجريمة، والصحافيين، الذين ربطوا بين ظهور النزعة الإسلامية المتشددة والعنف مع انتشار العشوائيات. والحقيقة أن هؤلاء الخبراء شكلوا ظهيرا فكريا لهذا الارتباط، بين تاريخ الفقر الحضري والإسلام السياسي. مع أن الواقع كان أكثر تعقيدا من ذلك .

وبحسب بيات فإنه رغم وجود وعيش كثير من المتشددين الإسلاميين في العشوائيات، فإن ذلك لا يؤشر بالضرورة إلى وجود استراتيجية لتحريك الفقراء. فالمتشددون ببساطة، مثلهم مثل العديد من أعضاء الطبقة الوسطى، لا يملكون خيارات كثيرة عندما يكون الأمر مرتبطا بمعيشتهم. فنقص الإسكان بأسعار معقولة قد أدى إلى ظهور طبقة متوسطة مهمشة، وهي ظاهرة حضرية وسمت ديناميات التوزيع المكاني للطبقة الوسطى في كثير من المدن في جنوب العالم.

ومن جانب آخر فإن حقيقة أن الإسلاميين المتشددين قد اخترقوا الجمعيات الخيرية، تعد مبالغة في الغالب. فمن بين آلاف المنظمات غير الحكومية الدينية، لا يوجد سوى النزر اليسير الذي يقع تحت تأثير الإسلاميين السياسيين المتشددين، كما أن العديد من الدراسات كشفت أن الدافع وراء الكثير من العيادات الإسلامية في القاهرة، بمن فيها الأطباء، لم يكن التزاما دينيا بقدر ما كان فرصة مهنية. فالجمعيات الإسلامية غالبا ما تقدم للممرضات وهي مهنة لا تتمتع بمكانة عالية، مكانا للعمل، كما تمنحهن الاحترام في نظر المجتمع المحلي .

الفقراء والحداثة «الحياة غير الرسمية»:

ولذلك يمكننا القول اليوم ـ بحسب بيات- إن النمط الاجتماعي الثقافي الرئيسي بين فقراء المسلمين في الشرق الأوسط، لم يعد هو النمط المرتبط بـ»ثقافة الفقر»، بل هو نمط بات يرتبط «بالحياة غير الرسمية»، التي أخذ يتبعها سكان المجتمعات العشوائية والفقيرة في عملهم وحيواتهم الثقافية، حيث يقوم هذا النمط على مفاهيم التبادلية، والتفاوض، والثقة، وليس على الأفكار الحديثة للمصلحة الذاتية الفردية، والقواعد الثابتة والتعاقدات، ولذلك نجدهم يميلون إلى أن يعملوا بشكل مستقل وأن يعتمدوا على أساليب تسوية النزاع غير الرسمية بدلا من إبلاغ الشرطة، كما أنهم من الممكن أن يقترضوا من جمعيات ائتمان غير رسمية وليس من البنوك .

وكل ذلك يحدث ليس بسبب أن هؤلاء الناس يعادون بالضرورة النظام الحديث، ولكن بسبب أن ظروف وجودهم دفعتهم للبحث عن أسلوب حياة غير رسمي، خاصة أن الحداثة هي مشروع مكلف، أي أنها تتطلب القدرة على التكيف مع أنماط السلوك (الالتزام بوقت محدد، ومكان، وعقود) وهي أشياء لا يقدر عليها الفقراء، كما أن الإيديولوجيا تتطلب قدرات معينة (الوقت، المخاطرة، المال) وهو ما لا يملكه المحرومون .

ولذلك نجد أن المحرومين في الحضر لا يستطيعون الا الانخراط في ما يطلق عليه الكاتب «السياسة من المستوى الأدنى»، أو أشكال النضال المحلية، من أجل تحقيق أغراض يومية سريعة بعيدة عن مشاريع الأدلجة (الإسلامية أو العلمانية). فبالنسبة للمحرومين، تكون هذه النضالات المحلية، هي الأفكار ذات المعنى، والأفكار التي يمكن التعامل معها .

كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى