صفحات العالم

“الخطاب السعودي” مع نهاية العام 2014/ مصطفى اللباد

 

 

شكل «الخطاب السعودي» الإسلاموي المحافظ أحد أمضى أسلحة المملكة العربية السعودية في مواجهة خصومها العقائديين والإقليميين، وعكس إلى حد كبير نظرة السعودية لنفسها في المنطقة والعالم. وإذ تحرك «الخطاب السعودي» صعوداً وهبوطاً لمواجهة التحديات الإقليمية والأيديولوجية خلال الفترة الممتدة منذ تأسيس المملكة العام 1932 وحتى الآن بنجاح متفاوت، إلا أن التطورات الإقليمية شكلت دوماً التحدي الأكبر لهذا الخطاب، فقلصت تدريجياً من دوائر نفوذه إلى حدودها الراهنة. ومع نهاية العام 2014، لا يبدو «الخطاب السعودي» في أحسن حالاته. إذ إن التطورات الإقليمية الممتدة منذ خمسينيات القرن الماضي حتى الآن، أنهكت هذا الخطاب بمرور الوقت وتعاظم التحديات، وجعلت رقعة تأثيره أضيق، فأصبح محشوراً في مساحة خطابية – سياسية أصغر كثيراً عما كانت عليه الحال في فترات سابقة. وتكفي مقارنة «الخطاب السعودي» مع نهاية العام 2014 بذات الخطاب عند أوج صعوده في السبعينيات من القرن الماضي، لنتبين الفارق الضخم والكبير، والمأزق الذي يعيشه في مواجهة التطورات الإقليمية والأيديولوجية في المنطقة.

الخصوصية البنيوية و «الخطاب السعودي»

لم تتأسس السعودية كدولة على هوية وطنية ما أو حتى على انتماء جغرافي محدد أو على أساس إثني مقترن بالسيطرة على رقعة جغرافية معلومة، مثل جمهوريات المشرق العربي (العراق وسوريا والأردن ولبنان) على مشاكلها التأسيسية والبنيوية، بل ظهرت «المملكة السعودية» إلى الوجود بعد نجاح آل سعود في تأسيس ملكية وراثية إسلامية على أراضي شبه الجزيرة العربية في نجد والحجاز، بفضل التحالف بين محمد بن عبد الوهاب (مؤسس الوهابية) وآل سعود. وإذ فشلت المحاولات الأولى والثانية لآل سعود والوهابيين في تأسيس مملكتهم، بسبب التدخل المصري في عصر محمد علي؛ الذي أنهى الطموح السعودي في نجد في الأعوام 1818-1822 وأيضاً خلال الفترة الواقعة بين 1838 و1843، فقد نجح آل سعود بالتحالف مع آل عبد الوهاب أيضاً في الاستيلاء على الحجاز في العام 1925 منهين الحكم الهاشمي فيها، وأخضعوا بحد السيف القبائل المتمردة في المناطق المختلفة تحت سيطرة آل سعود وبغطاء ديني وهابي، فأعلنوا المملكة السعودية العام 1932. شكل «الخطاب السعودي»، بذرة ومضمون الحكم وتوجهاته. وفق ذلك المقتضى، اعتبرت الدولة السعودية الدين أهم مكون من مكونات هويتها، وتأتي بعده الهوية المناطقية للسكان في المرتبة التالية، وساعد على تثبيت تلك التراتبية الهوياتية وجود الحرمين الشريفين على أراضيها.

التحديات الإقليمية «للخطاب السعودي»

ظهرت أولى التحديات «للخطاب السعودي» مع بروز حركة القومية العربية التي قادها جمال عبد الناصر من القاهرة. ولم تكن السعودية قادرة بالرغم من عوائد النفط على الوقوف خطابياً بوجه انبعاث الوطنيات القادم من القاهرة ومعها دمشق وبغداد. فقامت السعودية بتنصيب نفسها ممثلة للإسلام في المنطقة والعالم. واعتبر الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز أن «حماية الدين وتعزيز التضامن بين المسلمين هو علة وجود المملكة». ومع الهزيمة العسكرية التي لحقت بالمشروع الذي قاده جمال عبد الناصر العام 1967، كانت الأبواب مشرعة أمام السعودية لتعزيز هيمنة خطابها على المنطقة. وقتها اندفع «الخطاب السعودي» ليطبع منطقتنا بطابعه، وشكلت مفردات مثل «الأمة الإسلامية» و «السعودية الدولة الوحيدة في العالم المحكومة بمبادئ الشريعة الإسلامية» أمضى الدروع السعودية في مواجهة خصومها الإقليميين والأيديولوجيين. وبالتوازي مع هذا الخطاب المحافظ، فقد دانت للسعودية في السبعينيات من القرن الماضي سيطرة كاملة على الفضاء الإعلامي العربي في داخل الوطن العربي وخارجه عبر استخدام متقن للعوائد النفطية الضخمة. وتم ذلك بالتوازي مع نفوذ كبير في «اللوبي النفطي» داخل الولايات المتحدة الأميركية، فشكل الثلاثة: الخطاب والهيمنة الإعلامية والنفوذ داخل أميركا مثلث القوة السعودي في المنطقة؛ ذلك القائم على تسييد خطاب إسلاموي غارق في محافظته الاجتماعية والسياسية، يخاصم ببنيته ومضمونه مختلف أشكال الأطروحات التحديثية والتقدمية في العالم العربي. ومع انتصار الثورة الإيرانية العام 1979 وانبعاث خطابها الراديكالي، فقد كانت السعودية على موعد مع مواجهة فكرية وخطابية ثانية بعد العروبة الناصرية، عبر خطاب منافس نال من ارتباطات السعودية الدولية مع أميركا وتحدى زعامتها لـ «العالم الإسلامي»، ولكن من الموقع الإسلامي ذاته. ساعتها تقلص «الخطاب السعودي» من تمثيل «الإسلام» في العالم، إلى مجرد تمثيل «الإسلام السني» في العالم، واضعاً متاريس عقائدية وأيديولوجية جديدة ومنسحباً من مواقع خطابية وفكرية سبق وأن اعتقد بامتلاكها.

«الربيع العربي» والخطاب السعودي

بنى «الخطاب السعودي» على تمايز غريمه الإيراني مذهبياً؛ فأصبح الصراع الإقليمي بين الرياض وطهران مدموغاً بالصبغة المذهبية والمواجهة السنية – الشيعية في ساحات الصراع المختلفة. وحشد «الخطاب السعودي» إمكاناته الإعلامية والفقهية، وتمدد النفوذ الوهابي إلى مؤسسات إسلامية أعرق في المنطقة مثل الأزهر الشريف في عهد حسني مبارك، في محاولة بدت ناجحة لتعميم الاصطفاف المذهبي على عموم المنطقة. وبرغم ظهور دول خليجية أخرى مثل قطر بأدوات إعلامية نافذة هددت إلى حد ملحوظ الهيمنة الإعلامية السعودية على المنطقة، إلا أن «الخطاب السعودي» بقي متماسكاً إلى حد ما برغم من زلازل كبرى: أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 ومشاركة 15 مواطناً سعودياً من أصل 19 مهاجماً فيها، ثم احتلال العراق في العام 2003 وحرب لبنان العام 2006. ساعتها نجحت السعودية عبر «اللوبي النفطي»، وديبلوماسيتها العامة النشطة، ودعوات «حوار الحضارات»، وبتجنيد إمكانات مالية بالغة الضخامة، في ترميم بعض من الصورة السعودية في المنطقة والعالم. لكن «الخطاب السعودي» كان على موعد مع تحد ثالث بحلول «الربيع العربي». وتمثل ذلك التحدي بقفز جماعة «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر، بدعم أميركي وخليجي (قطري) وإقليمي (تركي). ومغزى التحدي هنا أنه يأتي من «المعسكر السني» ذاته الذي سيّجه «الخطاب السعودي» وأعلنه منطقة محررة في مواجهة «المعسكر الشيعي» الذي تقوده إيران.

تربت قيادات «الإخوان المسلمين» في كنف السعودية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي إبان المرحلة الناصرية، واحتضنت السعودية «الإخوان المسلمين» كرديف أيديولوجي يناصب الناصرية والشيوعية العداء ولا يضع تحالفها الدولي موضع المناقشة. ومع صعود أنور السادات إلى حكم مصر في العام 1970، فقد كانت السعودية، عبر كمال أدهم صهر الملك فيصل ورئيس الاستخبارات السعودية، هي الضامن لتحالف السادات مع «الإخوان المسلمين» بغرض تصفية المواقع الناصرية واليسارية في مصر. بدورهم، خطا «الإخوان المسلمون» خطوات فكرية كبرى لملاقاة السعودية، وأجروا تحولات فكرية فصلها الباحث الإسلامي الراحل حسام تمام في أطروحته «تسلف الإخوان». لكن صعود الدكتور محمد مرسي إلى الحكم في مصر العام 2012، مثل مأزقاً من نوع جديد للسعودية، بسبب أطروحات «الخلافة الإسلامية» التي رفعتها الجماعة، والتي تعني ضمناً انضواء الأقطار المختلفة بما فيها السعودية تحت لواء الخلافة. ساعتها انزاح «الخطاب السعودي» أكثر فأكثر من مواقعه باتجاه السلفيين، الذين تحالفوا في مصر ضد «الإخوان المسلمين»، ما مهد لإطاحتهم من السلطة صيف العام 2013، في تطور كانت السعودية أول المرحبين به. على المنوال ذاته يأتي ظهور «داعش» في سوريا والعراق، والفظائع التي ترتكبها هناك بمثابة تحد – بشكل أو آخر – «للخطاب السعودي». فمن ناحية تنخرط السعودية في التحالف الدولي المناهض لتنظيم «داعش» حفاظاً على تحالفها الدولي مع واشنطن، ومن ناحية أخرى لا تبدو مفاعيل ومنتجات المفرخة الوهابية لأشد الحركات السلفية والجهادية تطرفاً في المنطقة قابلة للتبرير. ولعل تصريح جو بايدن نائب الرئيس الأميركي بخصوص الارتباط بين «داعش» والسعودية الدليل الأوضح على معضلة التوفيق بين التحالف الدولي مع أميركا واللازم لبقاء المملكة في مواجهة التحديات الإقليمية؛ وفي الوقت نفسه محاولة الحفاظ على القيادة الفكرية والخطابية في مواجهة أشد التيارات عنفاً ودموية في المنطقة.

الخلاصة

يواجه «الخطاب السعودي» تحديات ضخمة مع نهاية العام 2014، إذ تنحسر بمرور الوقت رقعة نفوذه من «العالم الإسلامي» في الفترة من 1932 وحتى 1979 إلى «العالم السني» في الفترة من 1979 وحتى 2011، ومنذ العام 2012 تنحدر رقعة النفوذ إلى نطاقات سلفية أكثر ضيقاً مع صعود حركات مثل «داعش» و «النصرة»، التي يصعب على أي خطاب مهما امتلك من براعة إنكار قرابتها ونَسَبَها إلى المصدر نفسه. لا تبدو السعودية أمام أخطار وجودية مباشرة في العام الجديد داخلياً أو خارجياً، ولكن الجراحات التجميلية المطلوبة الآن لشدشدة وجه «الخطاب السعودي» بغرض تعويم التحالف الدولي للسعودية وترميم صورتها في المنطقة كما حدث بعد زلازل كبرى سابقة لن تكون سهلة هذه المرة؛ إذ يبدو «الخطاب السعودي» مؤبداً في مساحة خطابية ومذهبية أضيق كثيراً مما هو لازم لعمليات التجميل!

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى