صفحات الناس

الرجل الذي وجد حياته على “فيسبوك”/ ماجدولين الشموري

 

 

أصبح علی مشارف الخمسين. تظهر عليه علامات التعب، ولكنه يحافظ علی شيء من وسامة الشباب.

يستيقظ كل يوم، منذ ثلاثين عاماً، عند السابعة. يستيقظ وحيداً منذ ثلاثين عاماً. لا تستيقظ زوجته معه. يصنع قهوته ويشربها وحده. يتوجّه نحو كاراجه الذي تعلوه لافتة كبيرة كُتِبَ عليها: “كاراج لتصليح الموتورات والإشكمانات”.

لا يهدأ عمله منذ الثامنة صباحاً إلى ما بعد المغيب. استقدم عاملاً سوريّاً لمساعدته علی أشغاله. كان هذا روتينه اليومي حتّی اشتری هاتفاً ذكياً.

طلب من ابنه العشريني أن يُنشِئ له إيمايلاً وحساباً فيسبوكيّاً أيضاً. لم يكن يعرف أيّ شيء عن عالم فيسبوك من قبل. عندما تصفّحه للمرّة الأولی شعر بأنّه يمسك عالماً بأكمله بين يديه. صار يقضي الساعات أمام شاشة الهاتف يقرأ المنشورات التي لاحظ أنّها لا تحتاج إلى كثير من الجهد. بوستات تقتصر علی كلمتين: “أنا جوعان”، “أنا مريض”، “أشعر بالحزن”. لا يتطلّب الأمر الكثير من المجهود، قال لنفسه.

يمضي وقتاً طويلاً يتفرج علی الصور المحمّلة أيضاً. صور في الحمام وغرف النوم والحديقة والمطاعم وحتی أمام السوبر ماركت. لا يتطلّب الأمر الكثير من المجهود، كرّر لنفسه.

بدأ بوضع البوستات القصيرة. يعبّر عن جوعه، مرضه، ألمه ووحدته افتراضيّاً. تقصّد أن يرتّب نفسه كلّ مساء ويلبس أجمل ثيابه فقط كي يتصوّر ويحمّل الصورة علی فيسبوك مذيّلة بعبارة “مساء الخير”.

لم يعد يشرب قهوته وحيداً. صار يستيقظ أنشط من قبل. يحضّر قهوته بذوق أكثر. يرتّب الفنجان وصحن البسكويت الى جانبه. يصوّر الفنجان والصحن أكثر من مرّة قبل أن يحصل علی الصورة المطلوبة. يذيّل الصورة بعبارة “صباح الخير”. صار يقصد الحفلات والأعراس فقط من أجل الصورة.

إنهالت عليه التعليقات. يمسّيه أصدقاؤه الافتراضيون ويصبّحونه. يطمئنون إلی سلامته ويمتدحون أناقته. أحسّ للمرّة الأولی في حياته أنّه ليس وحيداً. لم تعد تزعجه فكرة أنّ زوجته لا تشرب معه القهوة أو تحدّثه أو تستمع إليه. العالم بأكمله يحدّثه ويستمع إليه الآن.

إنهالت عليه الرسائل في الإنبوكس عندما فقد اتصاله بالإنترنت مدّة 24 ساعة فقط. افتقده الجميع. أحسّ للمرّة الأولی أنّه ليس وحيداً، وأنّ حضوره ضروري. كانت زوجته تقول له دائماً إنّ “حضوره وغيابه سيّان”، وها هو الآن يثبت لها العكس.

دخل عالم المتعة الأكبر الذي تجلّی أمامه في الإنبوكس. تعرف إلی الكثيرات ومن الدول العربية كافة. أنشأ حسابه علی “سكايب” وصار يسهر حتّی الصباح يتحدّث الى رجاء من تونس أو مريم من العراق. يحدثّهنّ عن وطنه الجميل ومعالمه الأثرية وعن الفرح الذي يعرف أن يصفه فقط، ولا يعرف طعمه في هذا الوطن.

وجد من يستمع إليه.

لا تزال زوجته مشغولة عنه بالأولاد والثياب وماركات الماكياج. حاول علی مدی ثلاثين عاماً أن يحدّثها. لم تستمع إليه يوماً. يملك عالماً كاملاً يستمع إليه الآن. لم يعد ينظر إليها حتّی، وإذا تكلّمت لا يسمع. بات وجودها، هي، افتراضياً في حياته.. عادة لا أكثر.

شاهدته يوماً في الثالثة بعد منتصف الليل يحدّث الأخت رجاء، كما يدعوها. كان مرتديّاً ثياب نومه ومرتاحاً في جلسته كما لم تَرَه معها يوماً. اتّهمته بالخيانة وصرخت كثيراً. لم يسمعها. سمعها كثيراً في السابق. هذه المرّة، تركها تصرخ. فتح صفحته علی فيسبوك وكتب: “أشعر بالقرف”، وجلس ينتظر التعليقات ورسائل الأنبوكس.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى