ابرهيم الزيديصفحات الناس

الطريق إلى الرقّة/ ابرهيم الزيدي

لم يعد السفر شهوة تخفق بها الجوارح، أو نزوة، أو مغامرة عاطفية بالنسبة إلى السوريين؛ إنه الطريقة الوحيدة لطلاق الخوف بشكل لائق. فسوريا التي أخذت تفتح قلق الأسئلة، يتجلّى فيها الآن مكبوت العنف، وتحالفات الفوضى والمصالح والطوائف والعشائر والصفقات والخيانات والوطنيات أيضا! سوريا الآن: سوريا الكل، وسوريا اللاأحد!

محافظة الرقة أحد وجوهها، الرقة التي لم أستطع طلاقها، فعدت إليها ولم أجدها. تعمدتُ بالخوف، والرغبة بمعرفة ما يجري هناك. استقللتُ آخر حافلة تغادر بيروت ليلاً إلى الرقة، لأقطع النهار في الأراضي السورية. لم أعد أذكر عدد الحواجز التي استوقفت حافلتنا لتدقق في بطاقاتنا الشخصية؛ بعضها للنظام، وبعضها لـ”الجيش الحر”. ثمة حواجز لـ”جبهة النصرة”، وأخرى لـ”دولة العراق والشام”، إلى غير ذلك من أسماء الكتائب المسلحة. فالطرق في سوريا لم تعد للسابلة، إنها لمن يسيطر عليها!

في مدخل الرقة طالعتنا لوحة كبيرة على جدار يدعى “البانوراما” وقد طُلي الجدار باللون الأسود، وكتب عليه بالأبيض “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”. توقفت الحافلة في موازاة ذلك الجدار، ليصعد شاب في مقتبل العمر، يرتدي قناعا يخفي رأسه ووجهه، ويحمل بندقية روسية، وقد كان هذا آخر حاجز يفصلنا عن المدينة التي وصلناها ظهرا؛ لأشاهد بأم العين نتائج القصف الذي تعرضت له مديرية الثقافة، والدمار الذي لحق بها، وبمكتبة المركز الثقافي، التي تصنَّف على أنها الأولى بين مكتبات المراكز الثقافية في سوريا، والتي كنت ذات يوم أمينها، تلك المكتبة قيل لي في ما بعد إنه لم يبق منها سوى كتاب واحد. للمفارقة يضم ذلك الكتاب بين دفتيه أعمال الندوة الدولية لتاريخ الرقة.

لم تكن الكتب هي الكنز الوحيد في مديرية الثقافة بالرقة، ثمة أكثر من 200 لوحة حروفية، لكبار الخطاطين العرب والأتراك والإيرانيين وغيرهم ممن شاركوا في مسابقة عبد الحميد الكاتب في دوراتها المتعاقبة؛ وأكثر من 350 لوحة تشكيلية هي مقتنيات المركز الثقافي من معارض الفن التشكيلي؛ بالإضافة إلى مساهمات كبار فنّاني العالم الذين شاركوا في الملتقيين الأول والثاني للفن التشكيلي، الذي أقامته مديرية الثقافة.

أمام مديرية الثقافة ساحة كبيرة تنتصب فيها سارية يتجاوز ارتفاعها 50 متراً، هي الأخرى حملت علماً أسود كبيراً، كتب عليه باللون الأبيض العبارة السابقة “لا إله إلا الله، محمد رسول الله”.

في الطريق إلى بيت مضيفي، مررت بالكثير من المباني التي تعرضت للقصف، حي البياطرة، مديرية المالية، مسجد الجراكسة، مديرية التربية، المجمع الحكومي، مجلس المدينة، قصر المحافظ، المشفى الوطني، الأمن العسكري، الملعب البلدي. كان مضيفي قد أخذ على عاتقه أن يريني نتائج القصف، ومن ثم يتحدث عنه.

في المساء حاولتُ الاتصال ببعض الأصدقاء لأكتشف أن لكل منهم ما يشغله عن لقائي من العمل الثوري، أو الجهادي، كما يطيب للبعض أن يسمّيه. ارتديت ملابسي، وتأبطت محفظتي، ويممت شطر مركز المدينة سيراً على الأقدام مأخوذاً بالكتابات الحائطية والغرافيتي، تلك الكتابات والرسومات التي حلت بدلاً عن كتابات أخرى لعهد سابق. هذه الكتابات يمكن تقسيمها نوعين: الأول يمكن تسميته بالإعلام الديني/ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، أما الثاني فيتمحور حول الثورة وأدبياتها، وقد كانت الغلبة للنوع الأول.

أما حركة الناس في الشارع فكانت تشبه إلى حد بعيد حركتهم في السابق. فالناس عادة في المدن الصحراوية، ومنها الرقة، تخرج مساء إلى الشوارع والحدائق والمقاهي والتسوق أيضاً؛ فالفروق الحرارية بين الليل والنهار تكون كبيرة، إلا أن المتبصر في المشهد يدرك أن ثمة شيئاً ما في نفوس الناس.

في المقهى التقيتُ بعدد غير قليل من الأصدقاء والمعارف، منهم هيئة تحرير النشرة التي تحمل اسم “منازل” ونشرة “قندريس” وأعضاء في التنسيقيات وتجمع أبناء الرقة الإغاثي، وهذه التجمعات والهيئات أغلبها ليس لها علاقة بالكتائب المسلحة.

علمت أن نشاط الحركة الإعلامية المتوالد في الرقة وإن كان تأثيره لا يزال محدوداً، يمكّن المتابع من معرفة واقع الرقة، إذ إنه يمثل التجمعات المدنية، والحركات الشبابية، وبعض الكتائب المسلحة، إضافة إلى أكثر من موقع إلكتروني قائم على جهاز أنترنت فضائي تبرع به أحد أبناء الرقة في المغترب. هنا لا بد من ذكر المركز الإعلامي لثوّار الرقة الذي تأسس عام 2012 وغالبية العاملين فيه من نشطاء التنسيقيات، وهو يغطي أخبار المحافظة.

يلفت انتشار السلاح، وكثرة السيارات التي لا تحمل لوحات، أو أي علامة تدل إلى الجهة التي تتبع لها!

خلال وجودي في المقهى وُزِّع منشور، تستنجد فيه الجهات المدنية بـ”الجيش الحر”، لإخراج الفئات المسلحة التي تمارس الخطف والإعتقال والإعتداء على الممتلكات العامة، من دون أن تسمي تلك الفئات، أو تحددها. ثم انضمّ إلى جلستنا الأب باولو، الذي اختطف في اليوم الثاني من وجودي هناك، ولم يستطع أحد معرفة الجهة التي اختطفته، أو اعتقلته، وقد أخبرني أحد الذين تطوعوا لمرافقته من أبناء المدينة، أنه غادر البيت من بعد ظهر ذلك اليوم، وقد كتب وصيته، وأودعها محفظته إلى جانب أوراقه ونقوده وحاجاته الشخصية، ووعدهم بالعودة مساء، وأخبرهم أن لديه موعداً مع جماعة ما. فإن لم يعد، عليهم أن ينتظروا ثلاثة أيام، قبل أن ينشروا الخبر.

في اليوم الثالث من وجودي هناك استيقظت على صوت المضادات الأرضية (مدافع رشاش 23) التي تصدت لطائرة كانت تجوب سماء المدينة. من غرائب المجتمع الرقي أنه يخرج إلى الشارع في حالات كهذه، والبعض يصعد إلى سطوح البنايات، بقصد مشاهدة الطائرة، التي لم تلبث أن أفرغت حمولتها أربعة براميل متفجرة، سقطت في أمكنة متباعدة، أحدها كان سقوطه ليس بعيداً من المكان الذي أقيم فيه، فارتديت ملابسي على عجل، وذهبت إلى مكان سقوط البرميل المتفجر، لأقف على حقيقة ما يخلفه من آثار، تمثلت في انهيار جدران عدة، من منازل عدة، واحتراق عدد من السيارات المتوقفة، ومقتل ما يزيد على 9 أشخاص، بينهم نساء وأطفال، منهم رجل وامرأة كانا في حافلة ركاب صغيرة (فان) قادمة من مدينة السخنة، التابعة لمحافظة تدمر، وقد صدف مرورها في الشارع أثناء سقوط البرميل، فاحترقت الحافلة بمن فيها. تملكني الخوف من الموت المجاني الذي يسير في شوارع الرقة من دون موعد مسبق، فقررت… العودة إلى بيروت.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى