صفحات الثقافةمحمد منصور

الطوفان في بلاد البعث يلهم السوريون معنى الثورة… ومقاطعة الجمهور للدراما تعطي الفنانين دروساً في الولاء!


محمد منصور

في اختيار ذكي وموفق في توقيته، عرضت قناة (العربية) فيلم المخرج السوري الراحل عمر أميرلاي (طوفان في بلاد البعث)… هذا الفيلم الذي يأتي ضمن مشروع وثائقي كبير عمل عليه أميرلاي وأخلص له لسنوات طويلة، منذ فيلمه الإشكالي الذي منع عرضه في سورية: (الحياة اليومية في قرية سورية) الذي أنجزه مع الراحل سعد الله ونوس عام 1974.

كان مشروع أميرلاي الوثائقي عن بلده سورية، يتلخص في دراسة العلاقة بين الاستبداد السياسي والتخلف الاجتماعي… كيف يتعايشان، وكيف صنع كل منهما الآخر، وكيف يكرس كل منهما الآخر…. وفي فيلمه الذي تابعنا عرضه على شاشة (العربية) والذي أنجزه عام (2003) إثر كارثة انهيار سد زيزون، نعثر على الحلقة الأقوى في هذا المشروع النقدي السياسي الذي أنجزه أميرلاي بصبر وأناة… فصورة الحياة اليومية في القرية التي كانت في سبعينيات القرن العشرين، مازالت في الجوهر كما هي، رغم مرور ثلاثة عقود على المعاينة السابقة… هاهنا يعود أميرلاي ليركز على البنية الأيديولوجية الرثة لفكر البعث الذي تماهى في سلطة حاكمة مستبدة، قيدت عقول البشر قبل أن تقيد أجسادهم، وتضعهم تحت مجهر أمني يحصي عليهم حركاتهم وسكناتهم… ومن الطبيعي أن يكون التركيز الأبرز للفيلم على قطاع التعليم، باعتباره يعطي الصورة النموذجية للتخلف الذي يكرسه الاستبداد، عبر منظومة شعاراتية… يشعر المرء وهو يتأمل مفارقاتها المضحكة أنها صارت خارج العصر تماماً… لكنها رغم ذلك تمثل حياة بشر، يظنون أنها تحمل لهم التقدم والخلاص والأمان، فيما هي تشوه عقولهم وأرواحهم، وتبعدهم عن روح العصر بتطوره ومشكلاته ونمط القضايا الجديدة التي يطرحها على المنتمين له.

يقول عمر أميرلاي في مطلع الفيلم: (عام 1970 كنت من مؤيدي تحديث بلدي سورية بأي ثمن، ولو كان الثمن، تكريسي فيلم الأول للإشادة بإحدى إنجازات حزب البعث الحاكم: بناء سد الفرات، واليوم ألوم نفسي على مافعلت، فانهيار أحد السدود التي شيدها البعث مؤخراً، وتشقق سدين آخرين أحدهما سد الفرات، واحتمال تعرض بعض السدود للمصير ذاته حسب تقرير رسمي، كل ذلك يقودني للعودة لأتفقد المكان الذي قادني إليه في يوم من الأيام حماسي الشاب)

ينطلق عمر أميرلاي إذن من نظرة نقدية لما أنجزه في فيلمه الأول، ليكشف لنا أن الفساد والعبودية بما هي إعلاء لقيمة الولاء على حساب المعرفة والمهنية، كفيلان بتحطيم أي إنجازات، بل هما كفيلان أيضاً بتحطيم أوطان كاملة، وأجيال متعاقبة… فقد أنجز أميرلاي فيلمه، وكارثة سد زيزون التي شكلت واحدة من أكبر فضائح الفساد في سورية ما تزال ماثلة للعيان حينها… أما سد الفرات فبالنسبة لبعض أبناء المنطقة أغرق قرى بأكملها في طوفان ذهب بالحياة التي كانت وبالآثار والبيوت الذكريات، كما يقول أحد أبناء المنطقة في الفيلم.

باستثناء هذه الصور المستعادة بحميمية واعية، تتحول الأصوات التي تحضر في الفيلم إلى جوقة متناغمة، رغم اختلاف مواقعها وأدوارها… إنها جوقة الهتاف بحياة القائد والحزب. هنا في قرية (الماشي) يجد أميرلاي حالة تمثل كل مواصفات زمن البعث وطوفانه… تقول شخصيات الواقع بسلوكها ونمط تفكيرها قبل كلماتها، كل ما يبحث عنه المرء من معطيات توصف فكر البعث كما ترجمته سلطته الحاكمة على أرض الواقع منذ ما يقرب من خمسة عقود… هاهنا تخلع الطفولة براءتها، والتعليم قدسيته، والمسؤول إحساسه بالمسؤولية، ليرتدي الجميع ثوبا رثا من الشعارات المرقعة، والتناقضات المضحكة، والسذاجة المسكونة بالتخلف… تخلف الزمن الذي عاد إلى الوراء، ولم يتوقف وحسب.

حين نتأمل (طوفان في بلاد البعث) اليوم على وقع طوفان الاحتجاجات المشتعلة التي تعم أرجاء سورية، تنتابنا الدهشة على أكثر من صعيد… لعل أهمها أن هذا الفكر المعشعش بالخوف والولاء في عقول البشر وفي إذعانهم الرضي لكل عناصر تخلفهم وقمعهم، كيف أمكن له أن ينهار هكذا فجأة… ليتحول في أجلى صوره الرمزية إلى حالة شعبية منتشية بتحطيم تماثيل الأب القائد وابنه الوريث وتمزيق صورهما ودوسها… كيف أمكن لشعب أغرقه طوفان البعث حقيقة ومجازاً أن يطفو على سطح الحياة التي تدرك قيمة الحرية من جديد؟!

بمقدار ما تبدو صورة قرية (الماشي) التي قدمها أميرلاي في فيلمه، راكدة ومستنقعية، ولا تعطي أية بارقة أمل بإمكانية تجفيف شعاراتها وأكاذيبها وتناقضاتها البالية، بمقدار ما تبدو بالمقارنة مع الواقع الاحتجاجي اليوم- مذهلة… بل هي تعطي لنا التصور الأمثل عن مبررات هذا الاحتجاج العارم الذين اندفع السوريون في ركابه، كي يغيروا الواقع الأسود الذي كانوا يصفدون في أغلاله… إنها تقدم لنا الجواب عن السؤال الجوهري: لماذا ثار السوريون؟! ما هي هذا الحياة التي سئموها؟ ما هي طعم الذل الذي كان يختلط بطعامهم وشرابهم وهوائهم إلى الدرجة التي جعلتهم لا يطيقون استمراء حياتهم في ظله أكثر من ذلك.

(الطوفان في بلاد البعث) صورة مستعادة من مقطع حياة كئيبة وغارقة في السكون والغفلة والتخلف والقهر، كرس عمر أميرلاي جل حياته، لتصويرها وتقديم شهادة واقعية عنها… شهادة لا تكتفي بما يظهر على السطح، بل تغوص في الباطن والعمق، كي تقدم لكل الأجيال وثيقة عن حياة السوريين في ظل البعث بروح نقدية شجاعة… وثيقة ستبقى حية في الوجدان، كي يدرك السوريون كلما عادوا لرؤية أفلام أميرلاي، أن عليهم أن يبذلوا الغالي والنفيس كي لا يسمحوا لأي شخص أو فكر أو أيديولوجيا أو سلطة أن تعيدهم إلى لتلك الحياة.

دراما يقاطعها جمهورها: مذا بقي لها؟!

تشتكي الدراما السورية في موسم رمضان الحالي من إعراض الكثير من المحطات عن شراء مسلسلاتها الجديدة… وتنشط اتهامات الفنانين والمنتجين السوريين على محطات التلفزة، في كيل الاتهامات للمحطات الخليجية وسواها، بأنها تمارس حصاراً على هذه الدراما لأسباب سياسية لها علاقة بانتمائهم لوطنهم، واصطفافهم وراء القيادة الحكيمة للرئيس بشار الأسد، كاستكمال لحلقات المؤامرة التي تتعرض لها سورية… ولا ينسون في ظل الحديث عن المؤامرة، أن يستذكروا قصص الممانعة والمقاومة التي تجعل لهذه المؤامرة مبرراً أخلاقياً، يدفع الفنانون للتمسك بمواقفهم وولائهم، وهم مرتاحو البال والضمير.

لكن في كل أحاديث الفنانين الصاخبة عن حصار الدراما السورية في موسم رمضان الحالي، ثمة كما دائما- عنصر هام غائب عن حساباتهم هو الجمهور… فكثير من شرائح الجمهور السوري الغاضب، أخذوا قراراً بمقاطعة الدراما السورية في رمضان، بعدما رأوه من فنانيهم من سفَه سياسي جائر، خلال أحاديثهم في الندوات واللقاءات التلفزيونية على قنوات التلفزيون السوري وشاشة قناة الدنيا… تملق ونفاق وكذب وتطاول على كرامات المتظاهرين، كان أقله وصفهم بالمغرر بهم، وليس أكثره نعتهم بالبلطجية على حد تعبير السيدة سلاف فواخرجي، التي انبطح زوجها الممثل زهير رمضان أكثر مما يتطلبه المقام، حين راح يناشد الرئيس بشار الأسد، بألا يرفع العمل بقانون الطوارئ… وكأن هذا الشعب لا يستحق أن يعيش في ظل قانون طبيعي يحكم البشر كمواطنين لا كعبيد.

إنه إذن موسم الحصاد… موسم الحصاد الذي يُعرض الجمهور فيه عن دراما فنانيه الذين كانوا يختالون كالطواويس بمحبة وإعجاب الجمهور… قبل أن يندفعوا إلى الموقع الذي يزدرون فيه تطلعات وآمال هذا الشعب الحالم بالعزة والكرامة له ولفنانيه… لكن الكثير من هؤلاء الفنانين يبدو أنهم ليسوا بحاجة لهذه العزة والكرامة التي يطلبها لهم شبعهم بمقدار ما هم بحاجة إلى دروس جديدة في معنى الولاء للوطن لا السلطة الزائلة التي ستتركهم وتمضي… وهم أمام موسم المقاطعة لن يجدوا وقتاً كي يعيدوا حساباهم المصلحية، فلقد قال الجمهور كلمته فيهم… ولعل شاشات رمضان ستكون ساحة النزال في الأيام القليلة المقبلة.

فضائيات العشيقات السريات!

كما أن هناك فضائيات جديدة تظهر بحماس وعلى عجل كي توصل – بإيمان وحسن نية- صوت الثورات المندلعة، أو تركب بسوء نية- موجة تلك الثورات فينالها من المجد نصيباً… فإن هناك فضائيات جديدة تظهر بالمقابل كي تسند الأنظمة العاثرة التي تتهاوى… وهذه الفضائيات لا تحمل بصمات الإعلام الرسمي، بل هي أشبه بالعشيقات السريات اللواتي يهرب إليها الأزواج حين يسئمون من بلادة زوجاتهم الشرعيات… ومن هذه الفضائيات واحدة اسمها (العالمية) تنقل أخبار التضامن مع مسيرة الرئيس بشار الأسد الإصلاحية، وحرص المغتربين في كل أنحاء العالم مع بلدهم سورية ضد المؤامرة التي تتعرض لها… ولعل أطرف ما تابعته على شاشة هذه (العالمية) إعلانا ترويجيا عن ندوة تتحدث عن دور بعض المحطات الفضائية في التحريض على الثورات. نعم هكذا… فمازال هناك أناس بعقول في هذا العالم، يعتقدون أن الثورات تشعلها القنوات الفضائية، وأن الناس يمكن أن يروا برنامجا أو ندوة أو نشرة أخبار تقرع الطبول، فيخرجون إلى الشوارع ليصنعوا ثورة ليس لها أي مبرر على أرض الواقع… ولا يحكم بلدانها حكام رفعوا شعار: إلى الأبد. وسلطوا زباينتهم وأجهزة أمنهم على شعوبهم كي تسومها شتى أصناف العذاب والإذلال وامتهان الكرامة!

حقاً… إن لم تخش سخرية الناس… فاصنع قناتك كما شئت!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى