صفحات الناس

العقرب صديق/ عدنان نعوف

 

 

 

في هذا المجتمع العسكري، تعرفت مع مرور الوقت على شروط العيش دون أن أتقن التعامل معها

لم يشأ العقرب في البداية أن يلدغ الجندي “إسماعيل” رغم مكوثه على ساعده لدقائق، فكان لا بدّ، أمام تعفف العقرب، أن يقبض عليه الجندي بيده ويغرس إبرته السامة غصباً بدلاً من انتظاره ومراقبة تحركاته المزاجية.

هكذا تمت العملية بنجاح بعدما سرى السم واتّحَد الإحساس بالألم مع لذة الإنجاز، نتيجة اقتراب لحظة الفرار من منطقة “الدريج” حيث كان يقضي إسماعيل خدمته الإلزامية في القوات الخاصة بجيش النظام السوري.

صرخ إسماعيل مستنجداً بزملائه الذين حضروا على الفور وسارعوا إلى نقله إلى مستوصف الكتيبة، ثم جرى إسعافه إلى مشفى 601 بالمزة. وهناك تم مَنحه نقاهة في قطعته العسكرية. لكنه لم يَعُد إليها حينذاك، بل توجّه إلى حيث خطط نحو الشمال المحرر.

بهذه الطريقة تغلب الحل المُبتكر على قيود كانت قد ازدادت تدريجياً لتمنع الجندي السوري من الحصول على إجازة حتى لو كانت لأسباب صحية. وذلك لم يكن آتٍ من فراغ كونه نابع من خشية النظام من الانشقاقات في صفوف قواته، وهواجس قادة وحداته تجاه الجنود الذين يؤدّون الخدمة الإلزامية ويتحدرون خصوصاً من مناطق سورية ثائرة. لذا فقد تحول الخروج من القطعة العسكرية إلى حلم يراود مُتّبعي الطرق القانونية التقليدية. فالضباط المسؤولون عنهم فهموا اللعبة التي تجعل من إجازة أو نقاهة هي الأخيرة لصاحبها بعد الكثير من حالات الانشقاق.

تَمُرّ صورة صديقي إسماعيل ومَسيرته نحو الإنعتاق والخلاص، بينما أنا جالس في غرفة الانتظار بإحدى الجمعيات المكلفة تسجيل اللاجئين لدى منظمة الأمم المتحدة، ويحدوني أمل بالحصول على الحماية الدولية تمهيداً لإعادة توطيني في دولة من دول العالم المتقدم.

لم يكن صديقي شريك عذابات الخدمة الإلزامية وحسب، بل نحن أيضاً نشترك في كوننا من السوريين الذين يحتاجون أن تلازمهم معاناة كي يحصلوا على ما يحق للبشر في الظروف العادية، وكأن أهليتنا الإنسانية لا تكتمل بدون نقص معين، أو لِنَقل عاهة واضحة تؤطر صوَرنا بـ”البرواز” المطلوب.

مكانٌ مزدحم، ورطوبة عالية وحر شديد سادا الجمعية وجعلاني أحاذر لمس أي جزء من جسدي، حتى ولو على سبيل الحكّ الاضطراري، كي لا تلتصق أصابعي بجلدي “البرمائي” الشبيه بجلد الضفادع في تلك اللحظة.

شعرت بتعطُل حواسي في هذا الجو المقيت كأنني في قبو سجن، فبات لساني يتلقف حبات العرق المتقطرة من شاربي، ويسلّي النفس لاهياً بطعم الملح فيها. ففي هذه الظروف يصبح أي شيء ممتعاً، ويشكل مؤشراً يطمئنك على سلامة النفس من الكَمَد المستحكم. وحتى حاسة الشم لم تعد تستشعر شيئاً بفعل سكون الهواء وثقله، لولا أن رائحة الحليب المتبقي على ثغر طفل رضيع بعثت في المكان شيئاً من الحياة.

تستدعيني لجنة المقابلات بالجمعية. فأصعد الدرج مسرعاً، تعلو محيّاي ابتسامة بلهاء تعبّر عن إنسان سليم، ثم أجلس وأشرع بسرد سيرتي الذاتية مباشرة.  فيقاطعني سؤالهم: هل تعاني من مرض ما؟ لا. هل في عائلتك من لديه إعاقة أو ما شابه؟ لا .إذاً لا يَحِق لك التقدُم للحصول على الحماية.

“لائق للخدمات الميدانية”. وجدت نفسي أستعيد هذه العبارة التي وضعوها يوماً على دفتر خدمة العلم الخاص بي عقب الفحص الطبي في شعبة التجنيد، وابتسمت حينها ولم أدرِ أنها ستجُر عَليّ الويلات، وستقودني إلى معسكر الصاعقة في منطقة الدريج التي قِيل لي بمُجرد وصولي إليها “انتبه .. هون ما في الله”! لِأفهَمَ لاحقاً ما معنى هذه الكلام، وكيف أن قهر الإنسان في تلك المنطقة وشعوره باليأس وانسداد الأفق أمام العدالة السماوية لا يماثله ربما إلا حال العبيد في مزارع قصب السكر خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر.

ففي هذا المجتمع العسكري، تعرفت مع مرور الوقت على شروط العيش من دون أن أتقن التعامل معها، وأدركت لماذا علينا يا إسماعيل أن نستعين بأساليب الزواحف وبقية الكائنات التي تتظاهر بالموت في مواجهة الظروف المصيرية. وبعد حين، نجوتُ أنا من ذلك الجحيم بالصدفة، وبقيتَ أنت تحاول، إلى أن خرجتَ أخيراً بعد مخاض عسير لتروي لي ما حصل. لكنكَ في المحصلة اكتسبتَ الخبرة المطلوبة للتأقلم مع حقيقة كونك سوريّاً. أما أنا فلا أعلم إن كنت سأتطور في هذا المجال.

ها أنا أسيرُ عائداً من الجمعية وكُلُّ ما تحت قَدميَّ نتوءات كالحجارة. أسألُ الناس فيقال لي إن ما أمشي عليه هو “المَمرُ المخصص للمكفوفين” في محطة المترو. هل لي أن أعتبر ذلك بداية على طريق تعلمي الدرس؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى