صفحات الرأي

العقل الغربي ووهم التنوير/ رشيد بوطيب

 

 

حين أتحدث عن أوهام العقل الغربي، لا أعني عقلاً غربياً بالمطلق. لكن أعني خصوصاً، ذلك العقل الذي يسمح لنفسه بالحديث عن عقول الثقافات الأخرى وتقديم دروس «حضارية» لها. إنني أعني لا ريب العقل الثقافوي. إنه العقل الذي يشكل العلاقة اليوم بين الغرب والشرق. إنه لا يتوقف عن الترديد بأن العالم الإسلامي يحتاج إلى فترة تنوير أو أنه عالم لم يعش تنويراً. والسؤال الأول الذي يتبادر إلى ذهني وأنا أسمع هذا اللغط كله حول ضرورة التنوير للعالم الإسلامي في وسائل الإعلام الغربية، هو لماذا الهولوكوست؟ ولماذا حربان عالميتان، أحرقتا الأخضر واليابس، على رغم التنوير الذي عاشه الغرب؟

وحتى لا أذهب بعيداً: لماذا تنتخب الشعوب «المتنورة» شعبويين، لم يتعلموا شيئاً من دروس التاريخ؟ وهل تحررت تلك الشعوب من كل وصاية غير وصاية العقل، كما يقول التنوير، أم أن الأمر يتعلق في النهاية فقط بحلم جميل للفلاسفة من بين أحلام أخرى، كالسلام الأبدي والأخوة الإنسانية والمجتمع اللاطبقي؟!

أجل، لا يمكن البتة أن ننكر أن دولاً غربية عاشت حقبة التنوير، في شكل متفاوت بين دولة وأخرى، لكن لا يجب أن ننكر أن عديداً من تلك الدول تراجع عن تلك القيم، بل حاربها وحارب انتشارها كما الحال مع فرنسا وبريطانيا في مستعمراتها السابقة. أما اليوم، فقد تحول التنوير ومشتقاته من ديموقراطية وحقوق إنسان إلى رهينة في يد الإمبراطورية الاقتصادية التي تحكم العالم، والتي تأتمر السياسة كما الثقافة ووسائل الإعلام في كل مكان بأوامرها.

لم يكن هربرت ماركوزه واهماً أو مبالغاً حين تحدث عن العالم ذي البعد الواحد. فكل المؤشرات اليوم تشير إلى ذلك، وهو عالم يقوم، وفق البعض، على «احتقار الحياة الإنسانية».

لم يعد مقتل الآلاف وتهجير الملايين كافيين لإيقاظ الضمير البشري. وقد يكتفي أكثرنا ضميراً بكلمات إدانة لا أكثر ولا أقل. فلقد استطاع «إرهاب التقنية العالية» أن يفرض علينا حربه وروايته عن الحرب. استطاع أن يفرض علينا عقله. إنه العقل الثقافوي الذي يقسم العالم إلى فسطاطين: إرهابيين ومتحضرين، متنورين وظلاميين إلخ… وهو عقل أضحى جزء غير قليل من مثقفينا يتدافع من أجل خدمته ونشر سمومه وأحكامه. إنه عقل يقف على النقيض من العقل التاريخي، فهو لا يفهم المجتمع الرأسمالي كمجتمع تاريخي، أو مرحلة في تاريخ الرأسمالية، وبدلاً من أن يوجه سهام نقده الى تمظهرات هذا المجتمع من وعي خاطئ وتشيّؤ للإنسان واستلاب مستمر لإرادته، وحروب يشعلها النظام العالمي ويطفئها متى يريد، لتصريف أزماته، يحرك الإثنيات المجتمعية ومشاعرها البدائية بعضها ضد بعض، كما يفعل اليوم في أكثر من دولة غربية ضد المسلمين.

لكن وحتى نعود إلى مفهوم التنوير، من حق أي كان أن يتساءل: لماذا يتم ربط التنوير بالثقافة الغربية فقط؟ وبحقبة معينة داخل هذه الثقافة هي القرن الثامن عشر؟ ألا يفضح مثل هذا الفهم للتنوير قصور التنوير نفسه، أو ذلك القصور البنيوي الذي ولد معه، وأعني اختزال الطموح إلى التحرر والاستقلالية في الإنسان الغربي وحضارته، بدل تأكيد أن هذا التحرر وهذه الاستقلالية لا يمكنهما أن يتحققا لعرق دون عرق وبشر دون بشر، وأنه لا يمكن الحديث عن تحققهما البتة في عالم يحكمه الاستعمار والحروب والاستبداد.

هذا النقد للتنوير، أو بالأحرى لاستعمالاته السياسية والثقافوية، لا يبرر البتة كل تلك الأصوات التي تنبعث هنا وهناك في العالم الإسلامي، مهاجمة القيم التي نافح عنها هذا المشروع، ومتشبّثة بخصوصية لا تقل ثقافوية وأيديولوجية وجرماً من المشروع الاستعماري نفسه.

إن كل نقد للتنوير، هو نقد لأجله وليس ضده. إنه نقد للوصاية.

* كاتب مغربي

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى