صفحات الناس

الغوطة الشرقية: تقسيمات ما بعد الثورة/ سامر السليمان

 

 

لم تتمكن الثورة السورية منذ اندلاعها، من كسر صفة المناطقية الملازمة لها؛ فاكتسبت سمات خاصة بها في كل منطقة، أغنتها وأضعفتها في الوقت نفسه. وفي الغوطة الشرقية من ريف دمشق، هناك تفتت مجتمعي واسع قديم، كرّسه وفاقمه الحكم الشمولي للدولة الأمنية، وتحول في زمن الثورة إلى ميزة، وأزمة.

دوما وحرستا وسقبا والمليحة، بما يتبعها من بلدات ومدن صغيرة، هي المناطق الرئيسية التي تشكل الغوطة الشرقية. وأبرز الأزمات في الغوطة هو الخلاف بين حرستا ودوما، ويعود إلى أزمة بعيدة، ويتعلق بحصص المياه من نهر بردى. وفي السوق السوداء، بعض “الدوامنة” احتكروا تاريخياً تجارة السلاح، بينما بعض”السقالبة” اختصوا بتهريب المخدرات، مما شكل قاعدة للخلاف. مع الثورة، وبسبب الدور المركزي لدوما، التي كان يقطنها أكثر من مليون شخص، فقد برزت كمدينة مسيطرة على الغوطة. وكلما تعاظم القتل والاعتقال والتهجير لقيادات الثورة الأوائل من المدنيين والمثقفين، أخذت تتعاظم النزعة المناطقية الفلاحية والإسلامية، وأخذ الخلاف يمتد بين المناطق. وانعكس ذلك على تشكيل الكتائب المقاتلة؛ فالدوامنة برز منهم قيادات للتشكيلات الرئيسية؛ ولا سيما جيش الاسلام ولواء الشهداء وشباب الهدى، وهو ما منع كتائب بقية البلدات من الدخول فيها. وظهرت نتائج ذلك في المعارك لاحقاً؛ حيث يندر أن تآزر الفصائل بعضها في أثناء المعارك، وإن حدث ذلك فهو بسبب الرغبة في الدعم المالي. انخراط الكتائب بألوية كبرى قد يندرج في هذا السياق أيضاً. وقليلة هي الحالات التي غادرت فيها الكتائب الصغيرة بلداتها ومدنها وأحيائها. قائد جيش الإسلام زهران علوش، لم يشارك مثلاً في الكثير من المعارك، لأنها لا تهدد مصالحه في دوما، ولا يعنيه أن تخسر الكتائب الصغيرة لمواقعها أمام قوات النظام، بل على العكس فهي ستضطر إلى مبايعته بعدئذٍ.

ظهرت المناطقية أيضاً في مواضيع الإغاثة، فقد مارست كل مناطق الغوطة تمييزاً ضد الغرباء والنازحين. على كوة الخبز كان التمييز، فأهالي البلدة لهم مكان مخصص بهم، وللغرباء مكان أخر. وأحياناً يمنع عن الغرباء أخذ الخبز، حتى يأخذ أهل البلدة كامل حاجاتهم. وهو الأمر الذي تكرر حتى في المساعدات القادمة إلى الغوطة. ومن المفاجئ أن مناطق محاذية للغوطة، وواقعة تحت سلطة النظام، مثل جرمانا، قامت بالفعل نفسه تماماً.

السيطرة على معبر مخيم الوافدين، تعنى التحكم بموضوع الإغاثة، فالدوامنة وعبر قوة السلاح فرضوا قواعد لإدخال المواد إلى الغوطة؛ حيث يأخذون باسم دوما ما يلزمهم بسعر منخفض، ليبيعوها بأسعار خيالية في الداخل. ولا يسمح جيش الإسلام بالتعاون مع فصيل “أبو علي خبية”، لأهالي الغوطة إدخال البضائع إلا لسد الحاجة والكفاف؛ فإن أتى أحدهم بعشرة كيلوغرامات من السكر، تتم مصادرة ثمانية وإبقاء اثنين له. ينطبق ذلك على كافة المواد الغذائية وسواها. وهناك حادثة ملفتة تتعلق بالنقص الحاد في البيض بسبب الحصار، حيث قامت فصائل دوما، بتوزيع البيض على “الدوامنة” الأصليين حصراً، ووفق دفتر العائلة. وسمح للنساء الدومانيات المتزوجات من خارجها أن يأتين بما يثبت شخصيتهن كي يأخذن هذه المادة. ومنع البيض عن بقية سكان دوما، حتى ولو كانوا من قاطنيها لعشرات السنين.

وبعد عقد المصالحة بين النظام وفصائل مسلحة في جزء من حرستا الغربية، كان لا بد لكل عائلة تريد الخروج من الغوطة، من أن تمر بالنقاط العسكرية التابعة لكتائب حرستا، بحيث يسمح الاتفاق بخروج ما بين خمس وعشر أسر يومياً، والفصائل هي من تختار العائلات، وإلا فلن يسمح لها بالخروج.

وفي سقبا، توفر مبلغ مالي فائض عن حاجة مجلسها المحلي، وعلى الرغم من الحاجة الماسة لسكان القرى المحيطة بها، بخصوص الطعام، فقد تجاهل هذا المجلس نداءات الناس للإغاثة والمساعدة. وقام بـ”ترقيع” الشوارع بالإسمنت ضمن البلدة، لأن مظهرها قبيح، ولا بد من تحسينها.

جوبر المحسوبة على مدينة دمشق مارست تمييزاً لنفسها عن الغوطة المحسوبة كريف شرقي، ونظر أهلها إلى سكان الغوطة باستعلاء أهل المدينة. جوبر بنت جوامعها الخاصة ومدارسها الخاصة، ومدرسيها الخاصين من الـ”جوابرة” بالتحديد، ولكنها لم تستطع بناء قوتها العسكرية الخاصة. أهل الغواطة عاملوا أهل جوبر بالطريقة نفسها، وأخروا عنهم الخبز إلا بعد استيفاء حاجات سكان الغوطة أولاً.

الكتائب العسكرية ووعي القائمين عليها، هو ما يتحكم بهذه السلوكيات. في حين أن من تبقى من المدنيين الثوريين، فإنهم ينتظرون استعادة الثورة لصورتها الأولى، وربما أحلامهم عنها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى